لا شيءَ يعلو هنا على صوت حفيفِ الشجر غير الرتيبِ تحت وقعِ هواءٍ مضطربٍ بينَ النسيمِ تارةً والرياحِ تارةً أُخرى, تحت سماءٍ باتت تَنحُلُ زرقتُها شيئاً فشيئاً متحولةً إلى اللونِ الرماديِّ بفعلِ غيومٍ تجتمعُ مسرعةً من كلِّ حدبٍ وصوبٍ كأنها أركانُ حربٍ دُعيت لاجتماعٍ عاجلٍ وطارئ, ولا رائحة تسمو في مثل هذا الوقتِ على رائحة المطر التي ملأتِ الجوّ بعبقها, كلُّ ذلكَ أثارَ في نفسِ نسرين رغبةً عارمةً في البحثِ عن شيءٍ ما.

-الحمد لله وصلنا قبل أن تمطر ..يردّد عدنان مستاءً مفسداً على نسرين شرودها مع نفسها والطبيعة من حولها، ولكنها لم تلقِ بالاً لكلامه، فعادت تغمض عينيها وتتنفس بعمقٍ وكأنها تريد الاستئثار بكل الطبيعة وإدخالها إلى رئتيها.

وما هي إلا لحظاتٌ حتى بدأت السماء ترمي بثقلها على الأرض, وتهطل الأمطار من سحب حبلى كانت الرياح تطاردها طيلة الليلة الماضية, هطلت بجنون غير مسبوق, وكأن السماء قد أعلنت غضبها لتشنّ هجوماً معاكساً على هذه البقعة الجغرافية من الأرض, ثم ما لبثت أن هدأت بعد دقائق, فأسرعت نسرين إلى ساحة المنزل الخارجية متلهفة، أخذت تتأمل هذا المنظر فائق الروعة والمطر الذي غسل الأشجار فأعاد رونق خضرتها نقيةً وصافية كبشرة عروس مجلية يوم زفافها, تراقب القطرات التي حالت أوراق الشجر دونها ودون الأرض, فترتمي من حِجر ورقةٍ إلى حِجرِ أخرى مواصلةً بعزمٍ بلوغ هدفها وارتمائها في رحم الأرض, وكأنها جنديّ لا يأبه كيف ومتى, إنما الغرض هو أنْ يتمّ مهمته ويبلغ مبتغاه.

بدت نسرين وكأنها مُريدة صوفيّةٌ تطفو على العالم الواقعي بجسدٍ حاضرٍ وروحٍ هائمةٍ كظبيٍ في جِنانِ اللاشعور, تبتسم, ويُرشق وجهها بقطرات عذبة, تمد يديها كعصفور فرد جناحيه ليبدأ التحليق, يرشقها مجدداً, فتشعر بنشوةٍ من نوع غريب تختلف عن باقي المرات التي كانت تقضيها تحت المطر, تردد رافعة رأسها إلى السماء: اسقط أكثر فأكثر, اسقِ العطاش, اسقِ الأرواح الظمئة, أنا سيّدة المطر يا سفيتلانا, وكأنّه يستجيبُ لأوامر سيدته, فيسقط أكثر, ويرتطم بوجهها الجميل, وتشعر وكأن ألماً في صدرها قد تبدد وانجلى .. 

كان عدنان ينظر إليها من الداخل واضعاً يده في جيبه, وفي اليد الأخرى يحمل سيجارة مشتعلةً تحرق نفسها رويداً رويداً, يراقب حركاتها .. نشوتها.. رومانسيتها... صوفيتها... ثورتها التي ازدادت في الآونة الأخيرة, إنها المرة الأولى التي يراها على هذه الحال, لكنّه يعلمُ أنها صفات حبيبته بكلّ ما تحمله من فنٍّ وإحساسٍ مرهفٍ منذ لقائهما الأول في الجامعة, فيردد في داخله مبتسماً:

-ما أجملك يا حبيبتي ..

يقطع تأمله صوت ابنه ذي السنتين ونصف منادياً: ماما..

فأطفأ سيجارته, وحمل آدم في حجره, وأخذ يشير له إلى والدته في الخارج:

-ها هي ماما، هيا نادها:

ينادي عليها طفلها الذي ما زال يتمتم الأحرف تمتمةً: ام...ام..اماما... لكنها كانت في عالم آخر جعلها لا تسمع صوته الخافت، فبدأ يضرب زجاج النافذة بأصابعه الصغيرة الرقيقة؛ علها تنظر إليه..

انتبهت نسرين إلى وجودهم خلف الزجاج أخيراً, ابتسمت ابتسامةً مُشرقةً يظنُّ مَنْ يَراها أنّها تبتسمُ لزوجها وطفلها, ولكنّها في الحقيقةِ ابتسامةُ مَن اجتاز لتوّهِ حُفرة الجسد إلى سماءِ الروح, ابتسامة مُستَيقظٍ من حلمٍ جميلٍ, فدخلت على الفور بعد أنْ طبعت قبلةً على جبين صغيرها, ثم أسرعت إلى غرفة أختها دعاء, خلعت ملابسها المبللة خالعةً معها لحظاتٍ من الصفوة والسمو الروحي العميقِ, وعادت تحمل صغيرها منحنيةً على والدها الذي كان يجلس في مكانه المعتاد في صدر الصالة على كرسيٍ كبيرٍ قرب المدفأة, وكان أبو خالد رجلاً قد تجاوز الستين من العمر, تقاعد منذ سنين عن عمله في مكتب البريد, وقبل سن التقاعد الطبيعي بسنوات, جرّاءَ حالته الصحية الضعيفة, متوسط القامة, رمادي الشعر, أبيض البشرة, ملتزماً بمظهره الذي اعتاد عليه منذ دخوله الوظيفة في مؤسسة البريد, فكان حليق الذقن دوماً, تاركاً شاربيه سوداوين كثيفين, غزاهما الشيب شأنهما شأن شعره, ولكنه ملتزمٌ بصبغهما محافظاً على سوادهما الفاحم, وكان عصبياً جداً وربما يكون عدائياً بعد تقاعده, على الرغم من أنه كانَ هادئاً عاطفياً, قبل مرضه وتقاعده؛ لذلك فإنّ الجميع يحوطه بالعناية والرعاية والابتعاد عن كل ما من شأنه إغضابه

أو إرهاقه, حتى أنّه اعتاد عدم الخروج من المنزل, وكان مثقفاً, فهو ابن جيله الذي كان مجرّد تعلّم أحدهم القراءة والكتابة ملزمٌ لهم بتتبع كل فنون وآداب وثقافات العصر آنذاك, جيل الصحف والمذياع وجلسات المقاهي المفعمة بالنقاشات السياسية والحزبية والأدبية, والاجتماع من أجل الاستماع لكل خطابٍ سياسيٍّ اشتراكيٍّ أو شيوعيٍّ أو إمبرياليٍّ, وكان مجرد إذاعة أغنية جديدة حدثاً كافياً لمثل تلك الاجتماعات في المقاهي للاستماع لها, كما كان محبّاً للعلم والفنِّ, فصبّ كلّ اهتمامه على تعليم أبنائه وإدخالهم الجامعات, فهو رجلٌ يمثّلُ بحقّ جيل ستينات القرن العشرين الشغوف بالعلم والفنّ والأدب والسياسة...دخلت نسرين فطبعت قبلةً على جبينه - وقد كان يراقبها منذ دخلت بذهولِ مَن يرى شخصاً عزيزاً يتجاهله على غير العادة - وهي تردد:

- كيف حالك يا أبي؟

- بخيرٍ يا صغيرتي.

صغيرتُك؟ أصبحتُ أمّاً, وبدأ الشيب يتسلل خلسةً إلى شعري, وما زلتُ صغيرتُك؟ ماذا أبقيت لدعاء خانم إذا كنت أنا صغيرتك؟

- آهٍ يا بُنيّتي! ستبقين صغيرتي وإنِ اشتعلَ رأسكِ شيباً أيتها الشقية, ودعاء كذلك؛ إنها صغيرتي وفلذّة كبدي.

ضحكت نسرين وهي تهمّ بوضعِ ابنها في حجرِ جدّه, وأردفت: إذاً: استلم حفيدَك ودعني أذهب لمساعدة صغيرتيك الأخريات اللواتي في المطبخ, أم أنّ ماما حنان ليست صغيرتك هي الأخرى؟

فتح أبو نسرين ذراعيه مستقبلاً حفيده من يد ابنته, وهو يردّد مازحاً:

بصغيرةٍ واحدة لا خلاص لنا, فكيف الحال بثلاثة!؟

- غمزته نسرين بمكرٍ؛ موحيةً له بنقل كلامه لأمها, وذهبت مسرعةً إلى المطبخ.

توجهت إلى المطبخ حيث والدتها منهمكة بتقطيع الخضار, وأختها الصغرى منشغلة بغسيل الأواني وسماعة الهاتف في أذنيها بادية وكأنها في عالمٍ آخر, تتمايل وهي تغسل الصحون وشفتاها تتمتمان وترددان ما تسمعه أذناها من موسيقى, فأسندت نسرين ظهرها على الجدار قرب باب المطبخ تتأمّل والدتها التي لم تشعر بوجودها, وكأنها لم ترها منذ زمنٍ طويل, وأخذت تتفحّصُ تفاصيلها بثوبها القطنيّ سكري اللون الموشّى بحبات كرز حمراء كأنّ من طبعها على قماشه نثرها بعبثيّةٍ, ينعكس على وجهها الأبيض فيضفي عليه حُمرة يجعلها أكثر إغراءً, وتضع شالاً صوفياً على كتفيها, أما شعرها فباتَ لونه الطبيعي طيّ صفحات الماضي بعدَ أن غزاه اللون الأبيض, فصبغته بلون كستنائي لم يستثنِ إلا بضع شعراتٍ بيضاء منسيةً أو أنها تُركت بقصدٍ للإيحاء بأنّ هذا لونه الطبيعي, وفجأةً تتدلى خصلةٌ من غرتها على جبينها العاجي الذي بدا وكأنّ يدَ الزمنِ قد بدأت بحفرِ آثار مروره عليه, فلم تعد ترى بوضوحٍ, فتململت في لحظةِ حيرةٍ لأنّ يديها الاثنتين كانتا مشغولتين فيما تصنعه من طعامٍ, وبينما هي كذلك وقبل أنْ تضع السكين من يدها كانت يدُ نسرين قد أزاحت الشعر عن عينيها والأخرى منشغلة بربطه بالشريط الذي فلتت منه, وشفتاها على ذلك الجبين تطبع قبلةً مملوءةً بالشوق والحبّ والامتنان.

- نسرين؟! حبيبتي منذ متى وأنت هنا؟ لم أشعر بقدومك يا عزيزتي؟ أين آدم؟

- أهلاً بالصغيرة الثالثة...قولي أنكِ مشتاقةٌ لآدم...وليس لابنتك المحبة!

- يا لكِ من شقيّة! ليس أغلى من الولد إلا ولدُ الولد.. ثمّ من هذه الصغيرة الثالثة؟

- أنا الأولى وهذه المجنونة – وقد أشارت إلى دعاء التي ما زالت تتمايل وتتمتم دون شعور بوجود أختها, بل دون شعور بهذا العالم كله – الثانية وأنتِ الثالثة... صغيرات حبيبكِ الذي ما يزالُ متمسكاً بتلك البيجاما المهترئة.

- تأدبي يا بنت.. نهرتها أمها بحبٍّ, وبأسلوب ضاحكٍ؛ بإيمانِ من أدركَ بأنّ الأولاد قد كبروا ولم يعد يخفى عليهم شيء, ثم توجهت نسرين نحو دعاء ناكزةً إياها من خاصرتها, ارتعدت دعاء خوفاً, وانتفض جسدها حتى كادت تكسر ما في يدها من كؤوس:

- نسرين!؟ يا لكِ من لئيمة! لقد أفزعتني...لم تنتظرها نسرين حتى تضع ما في يدها أو حتى أنْ تُبعد السماعات عن أذنيها, بل بادرتها على الفور باحتضانها وتقبيل وجنتيها, وانصرفت عنها حتى قبل أنْ تُكملَ دعاء تقبيلها...وكانت دعاء فتاةً عشرينية في السنة الثانية في كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق, وكانت كثيرة الحركة والصخب في البيت, يحبها الجميع, ولا سيما نسرين التي كانت تفتقد في سني طفولتها الأولى الأخت, فقد كان قرار والديها الاكتفاء بولدين, خاصة وأنهم قد رزقا بطفلٍ بكرٍ أسمياه خالد, ولكنه توفي منذ عدة سنوات في الثلاثين من عمره, جرّاء حادثٍ أليمٍ وهو يقود سيارة أبيه التي باعها بعد الحادثة, وكان ذلك بسبب قيادته لها وهو في حالةٍ تمنعه من ذلك, ولكنّ المؤسف يكمن في أنه لم يكن يعلم بذلك لا هو ولا أهله إلا بعد دخوله المستشفى, وقد وقع ذلك قبل زواج نسرين من عدنان بعامٍ, ونسرين تصغره بخمس سنوات, أما دعاء فقد ولدت جرّاء خطأ حسابيٍّ من والديها اللذين كانا على اتفاقٍ بالاكتفاء بخالد ونسرين, وتصغر نسرين بعشر سنوات, وقلّما تكون موجودةً بين أهلها أيام الدّوام في الجامعة, نظراً لبعد دمشق من جهة واضطرارها للالتزام بحضور المحاضرات من جهةٍ أخرى, عدا عن صعوبة السفر وتكلفته في الظروف التي تمر بها البلاد, كما أنها ملتزمةٌ بعملٍ مسائيٍّ في دار نشرٍ بالعاصمة, من أجل تدبّر تكاليف دراستها بعد أنْ نزح أهلها عن محافظتهم الأصلية التي تمرّ بصراعٍ دامٍ؛ صراعٌ جعلهم ينزحون إلى مدن الساحل تاركين بيوتهم وممتلكاتهم بعد حصارٍ أفقدهم كلّ مدّخراتهم, وقد جاءت منذ يومين في إجازةٍ من عملها ليومين؛ كانت قد انتظرتها طويلاً, وهي ملزمةٌ بالسفر غداً ومنذ بزوغ الفجر لتصل العاصمة مساء الجمعة, فالطريق ليست طويلةً, ولكنها مليئةٌ بالحواجز التي يتوجب الوقوف عليها لساعات, ولا مجال عندها للتغيُّب عن عملها يوم السبت..

ـــــــــــــــــــــــــــ

- الرواية صادرة عن دار مداد في الإمارات سنة 2021.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم