ليلة الصناديق
ما أردتُ أن أقوله لك، هو أنَّني قمتُ بحركة توسعية في الجمجمة. كان عليَّ أن أتوسع ضمن حدودها، لأتعرَّف على محتوياتها، وأجمع معلومات مُفَصَّلة عن هوية الجوكر، عن ماضيه وأسراره وحقيقته، هذا ما يُدعى بالاستثمار المحلي. هذا ما ظننته أوَّل الأمر، لكن تبيَّن لي لاحقاً أنَّه سطو، اختراق، قرصنة، سرقة معلومات سريَّة خاصة. هكذا فجأة وجدتُ نفسي محاطة بباقات وحزم من الذكريات، بمعلومات وبيانات وصور وأرقام ووقائع وسِيَر أشخاص وأمكنة، وما كان أمامي سوى أن أخترقها وأعاينها وأسيطر عليها، لكنَّها كانت كثيرة ومتشعبة، وتنتشر في أنحاء الدماغ، وتعمل بالتزامن مع بعضها البعض. هي صناديق سوداء معقدة هذه المرَّة، وليست صندوقاً أسود واحداً، فكيف سأتمكن من جمعها، والإحاطة بأسرارها؟ يا لحظي العاثر مع ظلمة الصناديق!
كان هذا واقع الحال، هذا ما حصل لي، لم يكن بوسعي سوى أن أقترب من مناطق انتشار الصناديق الغامضة، وأبدأ برصد إشاراتها الغريبة المتكررة، وأتعقَّب مصادرها بحذر.
كنتُ أقارع اهتزاز "التوك توك"، أتحدى ظلمة الجُمجُمة وصناديقها، وأسابق نفسي لإتمام المَهَمَّة. كنتُ عنيدة جسورة مُشاكِسَة، توّاقة للبحث والتقصي وجمع المعلومات. لقد هَزَمْتُ الجوكر قبل ذلك، اخترقتُ جُمجُمته وملأتها بالغاز، وأعرف كيف أهزمه مرة أخرى.
هذا ما حصل، هذا ما جرى بالضبط. عثرتُ على أوَّل صندوق في الفص الجبهي الأمامي، وعلى صندوق آخر في الفص الصدغي، وعلى صناديق أخرى في الأجسام الحلمية في المهاد والجهاز الطرفي، ولم يمض كثير وقت حتى استوليت على جميع مناطق الذاكرة، وغدت خزائن الملفات العقلية برمتها تحت إمرتي.
تملَّكني زَهْوُ الانتصار، بَهَرَني ما حدث بالفعل، لكن ما فاجأني هذه المرة هو عثوري على صورة متباينة لي، مخزونة في ثلاثة صناديق متصلة مع بعضها البعض! وهو ما قادني إلى اكتشاف ثلاثة أطوار للذاكرة، أوَّلهما مُتَحَسَّس، بَدَتْ صورتي فيه شِبه مُشوَّهة، وثانيهما قصير الأمد، ظهرت فيه الصورة بمقبوليَّة معقولة، وثالثهما بعيد الشَّأو، اتضحت صورتي فيه تماماً.
لاحظتُ أن جميع الصور مخزونة في صناديق مركونة في القشرة البصريَّة، بينما تعج صناديق القشرة السمعيَّة بالأصوات، وهناك صناديق مختلطة أخرى، تَحفظُ كل معلومة في الخانة المخصَّصة لها.
عثرتُ على صناديق مُخَبَّأة في العُقد القاعدية والمخيخ، ممتلئة بشرائط المهارات الحركية، ووجدتُ أخرى منتشرة في الحصين والقشرة الدماغية واللوزة، بعضها يضم ملفات وقائع وأحداث وأخبار وقصص، وبعضها الآخر يحتوي على خلاصة المعارف والحقائق والمعلومات. وجدتُ صناديق منتشرة في اللوزة الدماغية، مُخصَّصة لحفظ شفرات العواطف، وأخرى بدت مُشعَّة، تحفظ إشارات فكر الجوكر ووعيه، وهناك علامات لروائح لا حصر لها، تحتفظُ بها صناديق موجودة في القشرة الشميَّة، أما ملفات الشعور فقد بدت كحبَّة اللوز، محفوظة في أماكن المخ العميقة.
في نهاية تطوافي، سَعَدْتُ كثيراً بالعثور على صناديق السيرة الذاتية المُميَّزة، على تلك الخزائن الخاصة بمعلومات مُدْرَجَة وفق تسلسل زمني ومكاني مذهل، تشبه قاعدة بيانات مدهشة قاومت الضياع والنسيان، وظلَّت تحتفظ بكل صغيرة وكبيرة من ذكريات الجوكر.
يا لها من نهاية سارَّة! يا له من كنز نفيس! يا لها من لُقْيَة ثمينة!
لم يبق لي سوى الوصول إلى لحظة التتويج، اللحظة الحاسمة الفريدة التي تختزل جميع أطوار عمليات ما بعد التهشيم، لحظة تشريح ذاكرة الجوكر، وفحص قطع قلادة لغزه الخفيَّة، وإلحاق الهزيمة به مرة أخرى. لم تكن العملية هيِّنة بالتأكيد، الوصول لمنصة التتويج ليس أمراً سهلاً، فبحسب ما قالته لي الذكريات ذاتها:" يتوجب عليكِ العثور على المسارات العصبية التي شكَّلها الدماغ، وتجميع العناصر المنتشرة في جميع أنحائه، ليتسنى لكِ ترحيلنا من صناديق الذاكرة بعيدة الشَّأو، إلى الصناديق الحسيَّة".
قادتني عيناك الحمراوان إلى الصناديق، وفكَّكتُ بأطراف أصابعك رموزها وإشاراتها، وأخذتُ أفكِّرُ في أمر واحد، أبحثُ عن أمر واحد.. الفضائح!
كنتُ حريصة على إتمام تلك العملية، شغوفة بنهجها الفضائحي، متحمسة ومتلهفة للعثور على ثغرة ما؛ فضيحة جنسية، قضية تجسس، عمالة، اختلاس، التخابر مع العدو. "يه يه يه"! كم كنت متشوِّقة لقتل الجوكر مرتين، لا بدَّ من كشفِ فضائحه بعد مقتله، لا مناص من فضحه والتنكيل به، لا خيار سوى تحطيم سمعة أسرته والتشهير بها. لقد اخترقتُ رأسه وكنت على يقين من خسَّته وعمالته وتآمره، لذلك سعيتُ مبكراً إلى تحليل النظرة التي كان يحملها في ذاته، وأمعنتُ النظر في "جوكريته"، واستنطقتُ ذاكرته عن ماضيه، وتحريتُ عن أوجه الفساد، متهيأة لاستقبال "الثغرة الأولى". ألمْ يُوجِدوني بكيفيَّةِ حَسْمٍ مغايرة؟ ها هي الفرصة مواتية للتتويج، اسمع منِّي ما يرضيك ويطرب روحك.
ظلَّتْ الجملة الأخيرة شبيهة بجرسٍ رنّان ينتظر ضغطة إصبع، آلة إيقاع موسيقية مُهْمَلَة تنتظر قارعها. لم يكن العازف غائباً، ولم أكن أبالغ أو أتبجَّح، كنتُ منهمكة في رحلة الرجوع، أتنقل بين المسارات العصبية، وأُجري عمليات تمشيط واسعة، للحصول على أكبر قدر من الصناديق، وفحص جميع ملفاتها، سعياً إلى اكتشاف أول ثغرة.
بالطبع، ليست هذه العمليات سهلة كما تعرف، تشريح ذاكرة الجوكر وحلُّ ألغازها يبقى مهمة صعبة، لكنَّها أيضاً ليست مستحيلة، خصوصاً بعد تطوير مهاراتي في البحث، واستغنائي عن صناديق كثيرة غير ذات قيمة. ما عُدْتُ مهووسة بالسيطرة على جميع خزائن الملفات، ما يهمني هو اكتشاف فضيحة، وليس استجلاء ذاكرة جوكريَّة عفنة.
استهوتني رموز القشرة السمعيَّة وشدَّتني إليها، غالباً ما يثير سماع أصوات الضوضاء الانتباه، خصوصاً حين تبدو متداخلة ومجهولة المصدر ولا يشبه بعضها بعضاً، كأنَّها أصداء لذكريات مخنوقة صدحت فجأة بالغناء والبكاء والشجار والرقص والصراخ والهتافات و...
هكذا بَغْتَةً نَفَضَتْ غموضَها الرموز، فانبجستْ منها شتى المعارف؛ حوارات ومحاضرات وندوات وجلسات احتفاء ولقاءات وسجالات وأمسيات شعرية وفعّاليات كثيرة أخرى.
أنْصَتُّ إلى أصوات شجية، انسابت من صناديقها ببطء، أصوات دافئة منكسرة مبحوحة ومُشبَّعة بالحنين، أثارت حفنة من الذكريات المخبأة، وأطلقت العنان للدموع والتنهدات والندب. سمعتُ صراخاً وعويلاً موجعاً وشتائم ولعنات وكلاماً عن الثأر والانتقام. وأصغيت الى أصوات غناء ورقص وموسيقى وتصفيق وأناشيد ودبكات وزغاريد. سمعتُ وسمعتُ وسمعت، لكنْ دون جدوى، هذا الاصغاء لا معنى له إذا لم تخرج الفضيحة من سباتها وتُكَلِّلُ بحثي بالمسرَّة.
لم يحصل ذلك، لم أجد ما يرضيك ويطرب روحك، لم أعثر على أيِّ شيء في هذه الصناديق. حقيقة لا أستطيع أن أُصدِّق أنَّ كل تلك المسموعات كانت خالية من أيِّ ثغرة! لم ألحظ فيها أيَّ أمر مريب، يا للنحس! لم أحظ بأي فضيحة، لا جنسية ولا اجتماعية ولا أخلاقية، كل رموز الأصوات فوق الشبهات، لا تشوبها أيُّ شبهة، كيف يمكن أن يحدث ذلك في جُمجُمة جوكر!؟
اقتحمتُ القشرة البصريَّة كردّ فعل للإخفاق. فتحتُ جميع صناديق التخزين، وشرعتُ بمعاينة الصور، صور متعددة كثيرة، تكاد لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ وجوه ومناظر ورسومات وأفلام وفيديوهات واسكتشات، أَخَذَتْ تهتَّز أمامي تبعاً لاهتزاز الجمجمة وعربة التوك توك. كنّا نتأرجح جميعاً، نصارع الوقت، ونتحاشى بعضنا بعضاً، ونواصل لعبة الترميز.
خَضَعَتْ كل جحافل المرئيات للمعاينة والفحص، لم أجد صعوبة في كسر أقفال الصناديق، ولم أغفل عن فتح أيِّ ملف، وسرعان ما ظَهَرَ الأرشيف الصوري وهو يتحرك بانسيابية عالية، مستنكراً عملية الاقتحام والتعدي على خصوصيته، بينما أخذت مجاميع الصور والفيديوهات والمتواليات الصورية تتدفق تباعاً، ساخرة من غروري، ومتندرة على خواء ذاكرتي، كأنَّها تقول لي: حسناً، ها نحن ذا نستعرض شريط إِبداعنا أمامكِ، فَمَنْ أنتِ أيتها السارقة المغرورة؟
هذا خبر غير سار، أليس كذلك؟ هو أمرٌّ خطير ومزعج لكَ بالتأكيد، وستزداد خطورته إذا لم يتم ضبط الوضع، والسعي وراء انتقام مُريع، يفضح المزيد من الثغرات الخفيَّة. هذا ما اتفقنا عليه، هذا ما اخترناه وتبنيناه معاً، لكنَّ التكتيك الأرعن لم يكن موفقاً، ما كان بوسعنا سوى أن ننقاد كما ينقاد القطيع إلى الراعي، ونَتَّبِع عصاه التي أشارت إلى ثلاث صور مختلفة، تكرَّر ظهورها العلني في مناسبات شتى، ثمَّ اتضح من نتائج البحث، أنَّ الصورة الأولى هي صورة عدوّنا الجوكر القتيل، والثانية تعود لحبيبة أحلامه، فتاة حسناء أحبَّها من طرف واحد، وظلَّت في صناديق عاطفته مجرد حلم. أما الصورة الثالثة فهي صورة والدته الثكلى.
يؤسفني أن أخبرك بأنَّ عمليات البحث غير المجدية قد توقفت، وأنَّ التحقيقات التي أجريتها خلصت إلى أنَّ الأفلام والفيديوهات والصور خالية من أيِّ ثغرة ولا تشوبها شبهة. لم ألحظ فيها أيَّ واقعة فساد ترقى إلى فضيحة، لا مالية ولا جنسية ولا أخلاقية.. واْ حزني عليك شريكي، لم أجد ما يرضيك ويطرب روحك، لم أعثر على أيِّ شيء، كل فلول المرئيات فوق الشبهات. ترى كيف يحصل ذلك في جُمجُمة ابن السفارات!؟
قررتُ توسيع عمليات البحث، واضطررتُ إلى الانتقال إلى مناطق أخرى. سَعَدْتُ كثيراً بالعثور على صناديق السيرة الذاتية المُميَّزة، على تلك الخزائن الخاصة بمعلومات مُدْرَجَة وفق تسلسل زمني ومكاني مذهل، تشبه قاعدة بيانات مدهشة قاومتْ النسيان، وظلَّتْ تحتفظ بكل صغيرة وكبيرة من ذكريات الجوكر.
من حُسْنِ حظِّي أيضاً أنَّني وجدتُ صناديق أخرى مخبأة في الحصين والقشرة الدماغية واللوزة، بعضها يضمُّ ملفات أخبار ووقائع وأحداث وقصص، وبعضها الآخر يحتوي على خلاصة المعارف والحقائق والمعلومات، وثمَّة صناديق أخرى مخصصة لإشارات فكر الجوكر ووعيه.
يا لها من لُقى ثمينة! يا للسعادة! هذا يوم سعدك.
فتحتُ الصناديق على عجل، وأجريتُ مسحاً تقييميّاً سريعاً للمعلومات، أجريتُ جميع الطرائق الاﺣﺻﺎﺋﻳﺔ، لكنَّني صُعقت بنتيجة عكسية واحدة لا تسرك. هذا أمر غير معقول، أمر جنوني، ربمَّا لا يكون صحيحاً. أسطوانة المعلومات تدور وتكرِّر نفسها مرة تلو أخرى، والنتيجة السلبية لم تتغيّر. انزعجتُ، وتلاشت فرحتي سريعاً، وأصبتُ بحرج شديد. يا لشقائي! أهذه جُمجُمة جوكر جاسوس، أم قلب عاشق؟ هذا الجوكر العجيب سيدمرني. سيرته الذاتية مُحيِّرة، لم أجد فيها معلومة تثبت ما ذهبتَ إليه. كل ما وجدته هو أنَّه خريج جامعي، عاطل عن العمل، وشاعر واعد، ينشر قصائد شعرية في الصحف والمجلات والحوليات.
ذكرياته الخاصة المكبوتة هي الأخرى بدت مألوفة، طفولة بائسة، أعوام دراسية متعاقبة، مشاهد مخيفة لجرائم الغزو الأمريكي للبلاد، وامتهان مهن حرفية مختلفة. لا شيء مُلفت للنظر أيضاً في صناديق الوقائع والأحداث والقصص، عدا كونه شبه مفلس، جيوبه خاوية في أغلب الأحيان، ويمارس تجواله شبه اليومي في الشوارع والمقاهي، والمنتديات والمكتبات، وعلى شاطئ نهر دجلة. حتى خلاصة المعارف والحقائق خلت من أيِّ إشارة للتآمر والعمالة والخيانة والدولارات، هو فتى حالم مثير للجدل، يبحث عن معنى وجوده، ولا يحمل قلبه الرهيف إلا العشق.
هل فقدنا الأمل؟ ربما أصبنا بخيبة أمل جديدة.
* مقطع من رواية "جمجمة تشرين"، صدرت مؤخراً للأديب العراقي عبدالكريم العبيدي
0 تعليقات