فصل من رواية "أسوار عين توران" للكاتبة جنى فواز الحسن.

مقدمة

تقول الأسطورة:

إنَّ مكانًا بعيدًا كسَته الخضرة، وعلت أشجاره طويلًا، حتى لتكاد أن تلامس السماء؛ عاش في الذاكرة طويلًا قبل أن يصبح أشبه برماد، سماؤه دائمة الزرقة، حتى عند تساقط المطر! غيومه أشبهُ بأزهارٍ بيضاءَ، تتشكل لتنثر رحيقها فوق تلك الأرض، مطره غزير، لكنه شديد الرقة، حذِرٌ في انسكابه، لا يهطل بقسوةٍ أبدًا.

 مكانٌ مُكتَفٍ بذاته، يقصده الأغراب للاحتماء به، والمسافرون للاستراحة، ذراعاه مفتوحان للجميع، لا يطرد أحدًا، ولا يحرم السائل من سكينته.

في الصباح يسابق رجاله الفجر لإقامة الصلاة، وتفوح رائحة الأرغفة الساخنة من شبابيك منازله.

وفي المساء تعلو منه ضحكات الأطفال المتلكِّئين عن موعد النوم، يلاعبون أشقاءهم في الفراش... كيف أصبح المكان ملعونًا؟! ومتى عصفت به رياحُ الغضب؟! لا أحد يعرف!

 عامًا تِلوَ عام، تناقلت الجدَّات قصصًا مختلفة عن مكانٍ كان أشبهَ بالسحر قبل أن يختفي الجمال حتى عن ألسنتهنَّ، جفَّت مياهه، وعدا عمَّن تبقَّوا فيه، لم يعد يقصده أحد، جيلٌ بعد جيل، اختلفت حتّى ملامح البشر هناك، وفي الزمن الغابر السحيق، ضاعت الحكاية الأصلية!

إهداء

إلى كلِّ من يحتاج أن يهديه أحدٌ شيئًا ما... 

يمكنك أن تقرِّر أن تكون مختلفًا، لكن لا تنسَ أن تدفع فاتورة قرارك!  

أسوار عين توران

(1)

كان هيثم يقاوم ابتلاع الحبة البيضاء التي وضعوها أمامه، خلال دقائق مضت كأنَّها أعوام طويلة، مرَّت أمامه وجوه كثيرة، تذكَّر كيف كان يجلس في غرفة الاستقبال على الأريكة العريضة، بتطريزاتها النافرة ومساندها غير المتناسقة، وهم يحيطون به، يدٌ تمتدُّ إلى فمه وأخرى تُرجع رأسه إلى الخلف. زوجته تقف بعيدًا، وترمُقه بنظرات غاضبة وشامتة، والده يروح ويجيء أمامه بعصبية، تحاول عمَّته أن تسدَّ أنفه؛ حتى يضطر أن يفتح فمه ليتنفس، لتحشر الحبة فيه، تأتي عمته الأخرى وقد طحنت الحبة ومزجتها ببعض قطرات الماء في ملعقة طعام، يتحلَّقون حوله، يحاصرونه من كل الجهات، يشعر أن التطريزات تخرج من القماش وتلتفُّ حوله بقسوةٍ؛ لتثبته إلى الكنبة. 

- افتح فمك اللَّعين يا هيثم! 

- هيَّا يا هيثم يا حبيب عمتك! 

حتى ولدُهُ الأصغر يشدّه من بنطاله كأنه يتسلَّط عليه، يكاد والده أن يمزِّق قميصه، تشعل والدته سيجارة، وتنفخ الدخان من النافذة...

- ألن ننتهي من هذه المسألة اللَّيلة؟! الموضوع محسوم، أنت مثلنا.

تحاول زوجته عبثًا إخفاء ابتسامتها، لكن علامات المرح تبدو واضحة على وجهها، تلك اللَّعينة، لا تبدو سعيدة إلَّا حين يحشُرونه هكذا، يحاول هيثم أن يتملَّص منهم ويبعدهم عنه، يداه تحلِّقان في الهواء، وقدماه تركلان في كل الاتجاهات بشكل هستيري، يقاوم رغبته بالصراخ! 

- قلنا لك إنَّك عصبي، وإنَّك تحتاجها! 

- لو لم تكن مريضًا لَما تحرَّكت هكذا!

- عليك أن ترضى بنصيبك يا هيثم يا حبيبي. 

يبذُل هيثم جهدًا فائقًا لإبقاء فمه مغلقًا، يجب ألَّا يصرخ، يقول له الصوت في رأسه: "الصراخ علامة مرض"، وهو ليس مريضًا!

يصرخ والده: "ابنَ اللَّعينة"! 

تطفئ الأم سيجارتها على الفور عند حافَة النافذة، وتركض لتهاجم الأب!

- لماذا لا تقول: ابنَ اللَّعين؟! ها؟! يجب أن تشتم الأم؟! من هو ابن اللَّعينة أيها اللَّعين؟!

تمدُّ يديها في الهواء لتضربه، لكنَّ العمَّات يمسكنها من خاصرتها، تلوِّح بذراعيها في الهواء، وتحاول أن تبعدهنَّ، يقترب الأب ليضربها، يمسكه العمُّ، يبقى من المشهد أيدٍ تلوِّح في الهواء محاولةً الوصول إلى هدفها، وصدى الشتائم "لعين، لعينة"!...

 يتقاذفان التُّهم والكلام البذيء، فيما يستغلُّ هيثم الفرصة لينسحب إلى غرفته، ويغلق الباب بالمفتاح من الداخل، وحدها الزوجة تحاول اللَّحاق به لتمسك به، لكنَّه وإذ يطبق الباب، يسمعها تؤنِّبهم: "كلَّ مرة تتركونه يفلت منكم، وتنشغلون بالعراك فيما بينكم! استمروا هكذا حتى نُجنَّ جميعًا"!

يغرق الجميع في عراكٍ جماعي، وحدها الزوجة تطرق باب غرفته بهستيرية: ليست غرفتَك يا ابنَ العامري، هذا بيت أهلك، افتح لي الباب...

لا يعرف تقريبًا كم مرةً عاش هذا الضغط، ولا حتى من أين أتته القوة لكي يقاوم ويحافظ على رجاحة عقله.

 في الصغر كان يهرب من مشاجراتهم مع صديقه نبيل إلى الغابة الصخرية التي سمَّوها "القلع"، في قريتهم "عين توران"، يسرقان سجائر "العلبة الحمراء"، التي سُمِّيت هكذا نسبةً إلى لون غلافها الكرتوني، ويخبِّئانها داخل أكمام قمصانهما؛ لأنَّ الجيوب غير آمنة، وأكثر عرضة للتفتيش من قِبل أهاليهما. 

يركضان غيرَ آبهَين بالشوك، حتى يصلا إلى "العرْبة"، وهي تلَّة صخرية بعيدة، ليست لديهما أدنى فكرةٍ عن أصل تسميتها، يشعلان سيجارة واحدة ويتقاسمانها، يسحب كلٌّ منهما الدخان بنهَمٍ، ويحبسه داخل قفصه الصدري، ثمّ ينفخانه خارجًا، يسخران من السيدة رجاء، التي كانت تمزِّق عباءتها كلَّما غضبت، تُمسكها من ياقتها عند العنق، وتشدُّها باتجاهين متعاكسين، حتى يتمزَّق القماش ويظهر "الكومبليزون" (قميص النوم) من تحتها. 

تدرك للحظة أنَّها باتت شبه عارية أمام الأطفال، تسحب غطاء رأسها، وتلفُّ به صدرها والجزء العلوي من جسدها، تضع يدها على شعرها، كأنَّها تذكَّرت أنَّها محجَّبة ولا يليق بها أن تترك شعرها مكشوفًا هكذا، تشتم الأطفال، وتتوعَّدهم أن تسجنهم في قبو منزلها حين تمسك بهم، ثم تركض وتبدو كأنَّها تجرُّ جسدها بحركة تريدها سريعة، لكنَّ ثقَل وزنها لا يتيح لها ذلك! 

عند باب منزلها، علَّقت السيدة رجاء مكنسةً صغيرةً من القشِّ، اعتقد الأطفال أنَّ في قبوها وعاءً معدنيًّا كبيرًا تشعل تحته الحطب، وتحضِّر في داخله وصفات سحرية للشعوذة، كانت تكره الأطفال، ليس لأنَّها عاقر؛ فهي لم تكن كذلك؛ أنجبت خمسة أبناء، ثلاثة صبيان وفتاتين، لكنَّها كرهت أطفال الآخرين، ولم يكن واضحًا شعورها تجاه أبنائها.

في الواقع نشأ هيثم على شعورٍ بأنَّ جميع أبناء القرية يكرهون أطفالهم، ولا يعرفون لمَ ينجبونهم! يتعاملون معهم كأنَّهم ملكية خاصة فحسب، يدٌ عاملة ستساهم مستقبلًا في بناء السور، كانت التوصيات في كل مكان عن ضرورة "تكثيف الإنجاب"؛ لتزداد "الذرِّيَّة الصالحة"، خاصة إذا ما كانت تلك الذرِّيَّة من "الذكور"، والسواعد القوية القادرة على العمل. 

حسد هيثم نبيلًا على عائلته؛ والد صديقه أستاذ جامعيٌّ مثقَّف، متحدِّثٌ لبق، يتقن عدَّة لغاتٍ أجنبية، ووالدته - على الرغم من كونها ربَّة منزلٍ - تهتمُّ بأناقتها وزينتها، وتبدو مختلفة عن معظم النساء الأُخريات في قريته. 

سأل هيثم نبيلًا كثيرًا عن أجواء منزله، أنواع الأطعمة التي يأكلونها، عاداتهم اليومية، شقيقاته، مدرسته، السيارة التي بدأ والده بتعليمه كيفيةَ قيادتها... كان يستغرب حين يخبره صديقه أنَّ العائلة تجتمع على مائدة العشاء؛ لتبادل الأحاديث، وأنّ لكلّ فردٍ منهم مطلقَ الحرِّيَّة في التعبير عن رأيه، وأنَّهم يشاهدون برامجَ تلفزيونية معًا، ويتناقشون في مختلف الأمور... وكلما حكى نبيل، انتاب هيثمًا دائمًا شعور من الانبهار الممزوج بالحسرة!

كان لنبيل أقاربُ في المدينة من جهة والدته، ومعارفُ كثر في البلدات المجاورة، وقد أمضى معظم فصل الشتاء في تلك المدينة "مالونا"، وقد عمل والده في التدريس هناك، واقتصرت زياراتهم إلى عين توران على عطل نهاية الأسبوع - وليس جميعها حتى، بل بشكل متقطِّع - والعطل الطويلة في الشتاء وثلاثة أشهر في الصيف، وهو بالنسبة لهيثم، لم يكن صديقَهُ الوحيد فحسب، بل نافذته على العالم الخارجي، كان أيضًا من الناجين بالنسبة إليه؛ الناجين من قسوة عين توران، أحد الغرباء القلَّة الذين ما زالت البلدة تستقبلهم. 

بيت أهل نبيل القروي مسوَّر، وداخل السور أماكن مخصَّصة لركن السيارات، كلما مرَّ هيثم نظر من بين قضبان السور الحديدية السوداء؛ ليرى أكانت سيارة الـ "يوكاتا" القرمزية اللَّون موجودة، كانت الدليل على أنَّ صديقه قد وصل إلى القرية. 

حين اشتروا تلك السيارة، كانت بالنسبة لهيثم أمرًا عجيبًا، سيارة جديدة من "الشركة" و"موديل" العام، لم يكن أحد آخر في القرية يجرؤ على الاستثمار في سيارة حديثة كهذه، كانوا جميعًا يفضلون سيارات (السومارا) المستعملة، التي استوردها لهم زعيم القرية الملقَّب بـ "الآغا"، بثمن بخس وموديلات متفاوتة، ولكن بلون موحَّد "الأبيض".

 كانت سيارات متينة، قليلة الأعطال، كما يقول الأغا، وهكذا اعتقدوا أنَّ السيارة تحافظ على قيمتها الشرائية، فلا يبذِّرون المال هدرًا، بغضّ النظر أكانوا أغنياء أو فقراء. 

كان يُكثر الأسئلة على صديقه: لماذا لا يعيشون هنا؟ وكيف يُتاح لهم أن يأتوا ويذهبوا كما يشاؤون؟ لم يكن نبيل يملك الأجوبة، لكن والده الذي ضحك عاليًا حين سمعه يطرحها على ابنه، قال له إنّ أجداده عقدوا صفقة مع المسؤولين عن البلدة، وتخلَّوا عن جزءٍ من أرضهم مقابل الحفاظ على حريَّتهم في التنقُّل، وبشرط ألَّا يحاولوا نقلَ أيّة عاداتٍ جديدة إلى عين توران، قال له أيضًا إنّ لهم علاقاتٍ خارجية مع مدن أخرى تضمن أمنهم وسلامتهم، وتبقيهم في معزل عن أيّ محاولةٍ لإزعاجهم.

- "قرَّرنا الحفاظ على هذا المنزل لأنَّهُ بالنسبة إلينا مليء بالذكريات العائلية، ولهذا نأتي إلى هنا، نشعر أنَّ هذا أصلنا، لكنَّنا اعتدنا الحياة في المدينة، لا يمكننا أن ننتمي كلِّيًّا إلى هنا". 

لم يفهم هيثم حينها معنى الانتماء، سأله بعفوية: "لماذا لا تتناولون الحبة"؟ 

لكنَّ والد صديقه عاود الضحك: "آه يا صغيري، هذه لعامَّة الناس، نحن أصولنا من الأعيان والوجهاء، نحن من أصحاب هذه الأرض الأصليين، هذه الحبة خرافة! لكن إن كانت تساعد الناس، فليكن".

لم يفهم هيثم أيضًا معظم ما قاله والد صديقه، لكنَّهُ توقَّف عن الأسئلة، مستغرقًا في التفكير بكل ما لم يفهمه، كان خياله يقوده دائمًا إلى خارج ذلك المكان، إلى ما تخيَّله عن "مالونا"، اسمها وحده أشعل في رأسه كلَّ أنواع الصور، كانت أمه وهي تقلِّم أظفاره تتذمَّر دائمًا من كونه كثير الأسئلة، وتتنبّأ له بمستقبل بائس! قلبت الآية، بالنسبة لها كان الإنسان عدوَّ ما يعرف، الجهل بالنسبة لها كان النعمة!

- "نحن نبتلع هذه الحبوب لكي ننسى، وأنت تصرُّ أن تسألنا وتجعلنا نتذكَّر"!

 ثمّ فجأة أحيانًا كانت تنهال عليه بالصراخ والضرب بشكل جنوني، ولا تتركه حتى يأتي من يخلِّصه من بين يديها! 

وفي المساء تعود إليه بشيء من الحنان، وتقول إنّها تعاقبه لأنَّهُ يجب أن يكون مؤدَّبًا، وأن يدرِّب نفسه على ألَّا يعرف، وألَّا يتكلَّم كثيرًا، وألَّا يكون فضوليًا كما هو! 

- "انظر إلى شقيقك وسيم، بدل أن يملأ فمه بالكلام، يملؤه بالطعام، أنت لا تكاد تأكل، تريد أن تبقى هكذا شديد النحول حتى تأكلك الغولة"!

كان يسكت، لكنَّهُ يتخيَّل أنَّ الغولة التي تقصِدها أمه هي السيدة رجاء، لم يكن شيء يتعبه أكثر من خياله وقدرته على تصوُّر الأشياء، أراد أن يصبح أستاذًا جامعياً كـ "الأستاذ عمر"، والد صديقه نبيل. رأى نفسه يقود سيارة من الشركة، ربما يشتريها في نفس يوم تصنيعها، ويلفُّ بها القرية كلَّها، غيرَ آبهٍ بالحسد؛ ذلك الشر الكبير الذي يخشاه سكان عين توران. 

لكنْ حين بات هيثم رجلًا ناضجًا وموظفًا في فرع "المصرف المركزي" القريب من عين توران، لم يشترِ سيارة بطراز حديث، اشترى كما يفعل سكان "عين توران"، سيارة "سومارا" بيضاء اللَّون، وجد نفسه يعود دائمًا إلى نشأته وكينونته الأولى، كأنَّ الإنسان محكوم بالعودة إلى ما لا يريد عن نفسه، لكنْ ما تراكم في داخله من كل ما يحيط به. 

كان يبعد الحبة عن فمه، لكن إلى متى؟! حاول أن يخفي كل شيء عنهم؛ كي لا يكتشفوا أمره، حتى خوفه من زوجته أحيانًا.

"كل الرجال يخشون زوجاتهنَّ، والهستيريا - إن أتت بصورةٍ جماعية - باتت مقبولة"، سمع تلك العبارة ما لا يقلُّ عن ثلاثين مرَّةً، سمعها وسمع "الرجل الأبيض" يقول أيضًا: "هي مآسٍ صغيرةٌ يا عزيزي هيثم، لكنَّها مآسٍ بتأثيرات تدوم مدى الحياة". 



 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم