السِّفر الأول

 "صريع الخوالي"

 

ضبابٌ كثيف غارق في الالتباس والوَحشة يزاول نزقَه على مدينة الدار البيضاء القَلقة...

أحيانًا أرى عيونًا تراقبني من بعيد، وشخصيات بقبعات ومعاطف شتوية طويلة داكنة ونظَّارات سوداء، تنظر جهة النافذة، أكثرهم يُدخنون في صمت... ثم يختفون فجأةً... أنا مضطرٌّ دائمًا للهروب من العيون التي تراقبني... ومن الأصوات التي تتناسلُ في عقلي... يكون مصدرَها أغلب الأحيان ظلالٌ في زوايا قاتمة...

الحقيقة أنني لا أعرف هل هي كائناتٌ يصنعها عقلي أم حيَّة في الخارج... لم أبُحْ لأحد بهذه الكائنات التي تَقتفِي أنفاسي... أخشى أن أكون مجنونًا ولا أدري...!!

الصمتُ يفسح الطريق من حين لآخر لضوضاء مُحرِّك سيارة أو شاحنة، وعُمَّال يختلطون والضباب وهم يَهتزُّون فوق درَّاجاتهم النارية، وآخرون يمنحون كل طاقتهم لدرَّاجات هوائيَّة ترتقي الدروبَ الوعرة المنحدرة...

لم يؤذَّن الفجر بعدُ... لكن جحافل العابرين والعابرات نحو محطات الحافلات، توقظ أحياء المدينة القديمة قبل أن تغادر الشمس خِدرها القَرنفلي...

هنا... من نافذة البيت المُطِل على غُربة الزقاق أراقب دورةَ الحياة بشكل رتيب... أُفسِح لكآبتي... لتأخذ جرعتها اليوميَّة من خيبات العابرين بصمتٍ ووجوم في الدروب والطرقات، تتقاطع خُطاهم وعبور القطط والكلاب، وتختفي نظراتهم وراء معالم التوجُّس.

أمي... يروقُ لها أن تُسمي هذا الوجود المُتردِّد، ببوابة الجحيم التي تُفتح بمفاتيح الجَشع والضلالة... أمي تلعن زمنًا غدا فيه النساء يخرجن في الغبش لإطعام رجال ينامون حتى الظهيرة...

أمي... تحسُب تغيُّر الفصول... إشاراتٍ واضحةً على قُرب يوم القيامة...

لم أستطع يومًا أن أبوح لها بالقيامات اليوميَّة التي يعيش وَقعَها الناسُ، وبالجحيم الذي فُتحت أبوابه منذ زمن... فكثيرًا ما استرعَى انتباهها هذا التحوُّل في أثداء السماء، وهذا الاضطراب في الأنباء، فيُهَيمِن على رَوْعها عجبُ الحائر المتحيِّر من رِيحٍ عَهِدتْها بشارةً خالدةً لنهاية زمن الجفاء، وهلَّ المطر باشتداد انصبابه وهطله، فصارت نَعيًا للحياة والآمال، ويعصف بذهنها استغرابُ المتحسِّر من هبوبٍ تبدَّل ولم يعد يسحب في رفقٍ غيمَ الحياة، بل يأتي بلا لقاح ولا وصال، عاصفًا في غضب بالشجر والعمران، فتقول في حسرةٍ وقلق وقد شغلها لحَدِّ الهوس خصي فحولة الطبيعة: «يا حسرتاه على الزمن الماضي...! يا ولدي...! ربيع زمانكم صار صيفًا... وشتاؤكم صار خريفًا... صيفكم صار هجينًا... أو جحيمًا... كيف يحرث الناسُ ويَبذُرون ثم يَحصدون وقد اختلَّ الميزان...؟! لم نعُد ندري أوان القربان... لسادتنا الأولياء الصالحين... ربما أنتم الذين تغيَّرتم... فضللتم طرق الله».

أمي نخلة باسقة، رحَّلها ترحيل المستبدِّ القدر قسرًا وقهرًا في نفيٍ نازفٍ يقتلع الكائن من الجذور والعروق التي تسقي وجودَه المتفرِّد، من واحة الحلم بالجنوب الساحر للبلد إلى مدينة الغَسَق بالغرب الساحلي العابث والقدر «الدار البيضاء»... كثيرًا ما تملَّكني فضول الطفل في صِغَري، فأسأل عن الأصول والفروع، فتكتفي والدمعُ ساخنٌ رَقراق بالقول الساخن في حُرقةٍ وألَمٍ: «كنتُ وحيدةَ والدين أنجبا على كِبَر، لا أرضَ لهما ولا شجر، لا حجر لهما ولا بذر، وكانت حرفة جدك لقاح النخيل»... تلك كانت مهنته إلى أن هوى من عَلٍ فمات مِيتة الغريب واختفَى... جدتك ترمَّلت فافتقرَتْ وغدَتْ تعجن خُبز الغير، وتكنسُ حظائرَهم، وتغسل ماعونهم إلى أن تسلل إلى صدرها غدرًا سرطان الثدي، فاقتات شَرِهًا من اللحم والعظم، ثم أخذ ما تبقى من الجسد الشبح إلى ظلمة القبر... فتكفَّلت أسرة مُشفقة من ريف «الرحامنة» بتربيتي وعمري آنذاك سبع سنين... «ودام الحال على سِكَّته حينًا... ودوام الحال من المحال... إلى أن التقيتُ أباكَ فكان ذاك وجه آخر للقدر... أنت مثلي بلا خؤولة ولا عمومة... «مقطوع من شجر»... وحدك... حقِّقْ ذاتك وصِرْ كشجرة صنوبر...».

وحين أسأل عن الأب في شوق الصبا المبكر... ذاك الأب الذي لم ترَ قطُّ عيناي له وجهًا ولا ظِلًّا في صورة تُذكَر... تقول وحزنُها نار وانهيار: «أبوك... يا حسرتاه! ضاع مني في جلبة الحياة... خرج ذات فجر ولم يعد... كنتَ ما زلتَ لحمًا طريًّا في خِرَق... لو سألتني لماذا...؟ أقول لك... رحل ومعه الجواب والأسباب، وما ترك غير حيرة وعوز».

لذتُ بالصمت الأبديِّ عن مِثل هذه الأسئلة التي تُحرِجها وتُشعل في صدرها نارًا ملتهبةً... تفاديتُ منذ زمنٍ بعيدٍ أن يكون فضولي أصابعَ طائشةً تُقلِّب في الماضي فتفجِّر الحزن والخيبة.

مهكذا هي أمي في فيضها الفطري، حكمة لم يصقلها غير كتاب في قرية نائية، عواطفها نقيَّة لكن جامحة. والعبارات... عباراتها فائرة قوية، فالعبارات عندها... حكمة تمتحها في بضع كلماتٍ كسجع متدفِّق... سلس من صدر عرَّاف... لأمي الحكمة العميقة من الفطرة الصافية المنبعِ والمصبِّ، القاهرة لليأس والضجر، بقناعة المُكتفي ورجاء المُرتجي... حكمة لا يعكرها سوى ألم عميق وغريب يسكن عينيها كلما حدَّقت في وجهي طويلًا، لست أدري ما الذي يؤلمها لحد حاجتها إلى مزيدٍ من الهواء شهيقًا وزفيرًا...!!

تكشف أمي حين تحنُّ إلى فيض الحياة عما تُكابِده وأفهم من ثنايا قولها أن الحياة اختلَّت، فتقاربت المواسم ثم تشابكت، حتى تغذَّت على زمن بعضها البعض، واختلطت على الناس المواقيتُ والمواعيدُ، فخاب انتظار الفلاحين في أن يستوي ميزان الطبيعة يومًا ما، وتُداوي نفسها بنفسها كما عَهِدوا فيها، وأن تصحِّح الخلل بأدواتها كما خَبِروا... لكن الخلل تفاقم، والطبيعة عاجزة عن علاج سُقمها، وترميم شروخها وتصدُّعاتها، ففقدوا بوصلة أبراجهم و«منازل» الغيث والرياح، فضعُفَت عندهم مَلَكة التنبُّؤ، فضلُّوا عن عاداتهم وشعائر مواسمهم، وتاهت هي عنهم حتى كادوا ينسونها؛ فتصير حكايات وأساطير من زمن مضى...!

أمي وأنا نُدرك معًا أنه منذ زمن سحيق... عقد الناس اتفاقًا مع الطبيعة... اتفاقًا... اختلطت فيه روح وثنيَّة قديمة تُقدِّس وتُوقِّر الطبيعة وبقايا عبادات بائدة، تشهد عليها أشكال الطقوس الموسمية الصامدة كالخروج للاستسقاء وطلب المطر حين يتأخَّر الهطول، واليأس يعصر القلوب، فتجوب حشودُ القرويين بنسائهم وأطفالهم الأزقَّة والدروبَ وعروس «تاغونجا»... دُمية عملاقة مزيَّنة بباقات النعناع والحَبَق والزعتر منتصبة على قصبة تتأرجح بين الأيادي في ثوبها الأخضر ووشاحها الأحمر عاليًا، والحناجر تصدح عاليًا: «تاغونجا...تاغونجا... يا ربي تعطينا الشتا»... لم أعرف أبدًا معنى «تاغونجا» هذه في بلدي، والتي كانوا يجسدونها دُمية عملاقة لامرأة بوشاح ومنديل وقفطان، لكني أُرجِّح أنها آلهة وثنية قديمة للمطر... كانوا يخبرون الطبيعة في توجُّعها ومخاضها... في غضبها وانشراحها... كان بينهما -البشر والطبيعة- اتفاقٌ مقدَّس... وكانت تنبؤاتهم تأتي واضحةً كالفَلَق، ليس من وحي يوحَى، ولا من شطحات مُنجِّم، ولا سجع كاهن... ولا عِلم عالم مُفوَّه... بل من خبرة خَبِروها تراكُمًا وتواترًا، في تناغم مع الكون... لم يخرقوا هذا التناغم... حتى وقع ما وقع... فاختلَّ الميزان...

حكمة أمي الفطريةُ المنبعِ والمصبِّ تكشف كشفَ المتصوف العاشق في لحظات الفيض الأمومي الغامر أنَّ الناس كانوا يقيمون لكل ميقاتٍ نشاطًا وعُرفًا، وأنهم ما زالوا على عهدهم مع الطبيعة والسماء، لكنهم لم يفطنوا بعدُ إلى هذا التحوُّل الطارئ في مواعيدها المألوفة، ولم ينتبهوا إلى تبدُّل مواسم هبوب الرياح، واضطراب الفصول، حتى اختلطت عليهم الأمور، ولم يعرفوا بعدُ كيف يجعلون لأنشطتهم الفلاحيَّة ولأعرافهم ومواسمهم مواقيت مناسبة لهذا التحوُّل... تقول أمي عبارتَها الحكيمة: «يا ولدي! الناس تخاف من التغيير، فإن لمسوه جحدوه أو أنكروه... وإن داهمهم عاتيًا، تلهو عنه بالماضي». أي عقل هذا في بساطة الإنسانية غير المعقَّدة يختزل فلسفة كونية في بِضع جُمَل؟! ذاك عقل أمي حين يُعلِّمني الحياة بالحياة.

لأمي حكمةُ البداياتِ ونعمةُ النهاياتِ، لأمي خشوعُ المؤمنات، وصبرُ المجاهدات، وبين هذا وذاك تشيخ هي ولا يشيخ عندها اليقين، ولا ينضب نبع حكمتها، تشيخ ولا يشيخ ذاك الحزن الذي يسكن نظراتها... حزنٌ لا أعرف سببَه ولا مصدرَه، كلما حدَّقتْ في وجهي طويلًا، أحيانًا كأنها تعيد رسم ملامحي في عقلها من جديد، حزن جارف... غريب... مفاجئ... تضيق له الأنفاس في صدرها... وطالما تساءلتُ في صمت المتحيِّر: «تُرَى ما الذي يُحزِن هذه القديسة في مُدُنها الداخلية»؟

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم