مقطع من رواية "أحجية إدمون عمران المالح"،

المتأهلة للقائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية (2022) التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية.

في الحقيقة، خلال سنوات طفولتي في مدينة مكناس ثمّ في الدار البيضاء، لم أصادف حالات يمكنني تصنيفها بشكل مطلق بأنّها كراهية موجّهة من المغاربة المسلمين نحونا نحن اليهود. لكن بصراحة، القصّة التي قرأتها مقزّزة. تصفّحت الكتاب سريعًا ووجدت مقاطع من حكايات أخرى تنتقص قدر اليهود. هي قصص أمازيغية وليست عربية. لكن، لو شئنا الصدق، مثلها كمثل حكاياتٍ يزخر بها التراث العالمي. لدى العرب والأمازيغ والروس والألمان والهنود، وكلّ شعوب العالم. لمَ كلّ هذه الكراهية؟ لا أذكر تحديدًا ما كان جوابي آنذاك. لكنّني أدرك الآن، في جلستي على كرسي العجلات هذا والمكتب الصغير في هذه الغرفة المشعّة بالبياض، أنّ الموضوع معقّد جدًّا. أعتقد أنّني قلت آنذاك كلامًا غامضًا مرتبكًا من قبيل أنّ المغاربة لا يكرهون اليهود كأفراد. المسلمون في معظمهم، في المدن حيث وجودنا، لديهم أصدقاء يهود. الجميع يتعاملون مع التجّار والحِرفيين اليهود. لكنّهم يكرهون، أو بالأحرى يتخوّفون، من اليهود كجماعة، كعرق. هناك نوع من انعدام الثقة في اليهود مردّه، في اعتقادهم، إلى أنّه ما اجتمع يهوديان إلّا كان التآمر ثالثهما. أيّ لقاء بين يهود هو اجتماع لنسج المؤامرات وحياكة الخطط للسيطرة على العالم. بالنسبة إلى المسلمين عدم الثقة في اليهود تعود إلى بداية ظهور الإسلام. يقولون في تاريخهم (الذي لا يمكنني التحقّق من صدقيته) إنّ الغدر كان سمة متأصّلة لدى يهود يثرب وقد حاولوا أكثر من مرّة اغتيال نبي الإسلام. وفي العصر الحالي، ازداد الأمر سوءًا مع قيام دولة إسرائيل في أرض الميعاد وتشريد الفلسطينيين. كنت يافعًا آنذاك ولم يكن لديّ الإدراك الذي لديّ الآن، رغم أنّني فقدت ذاكرتي التي تمثّل مجموع إدراكي. جزء كبير من المشكلة يعود إلى السياسة. إلى رجال السياسة، وأيضًا إلى رجال الدين، الذين يرتقون في نجاحهم متسلّقين سلّم الكراهية التي يبثّونها وسط الناس لشيطنة طرف وإلهاء الطرف الآخر بعدوّ وهمي. أتذكّر أنّني كنت، قبل مغادرتي إسرائيل، أشفق على الفلسطينيين وأتفهّم حقّهم في الدفاع عن أرضهم، وفي الوقت نفسه كنت أعتبر إسرائيل وطني وكنت مستعدًّا للدفاع عنها أمام الجيوش العربية. أمّا الآن، أمام هذه الصفحات البيض التي يتحرّك عليها قلمي بسلاسة التداعي الحرّ، فأجد موقفي انعكس. ما عدت متعاطفًا مع الفلسطينيين (كيف أتعاطف مع بقية شعب يحارب نفسه لأجل مقعد حكم وهمي؟) وما عدت أعتبر إسرائيل وطني ولا أرى حاجة إلى وطن خاصّ لليهود. لكن في الوقت عينه أتفهّم حقّ السابرا، اليهود الذين ولدوا في إسرائيل، في أن تكون الأرض التي هم عليها وطنًا لهم، سواء سمّيناها إسرائيل أم فلسطين. لا ذنب لهم في أن تسحب منهم أرض ولدوا عليها، الأرض الوحيدة التي يعرفون، فقط لأنّ آباءهم استولوا عليها من قبل. كما أنّه من حقّ العائلات الفلسطينية التي طردت من بيوتها واغتصبت أراضيها أن تعود إلى أشجار برتقالها الحزينة، إلى شتلات الزيتون التي تنتظر حبّ من يسقيها وإلى الباحات خلف البيوت التي تشتاق إلى لثغات الأطفال وتسابق الصبيان وحكايات الجدّات عن الجنّ والسندباد وأميرات الحُسن وعن قناديل ملك الجليل.


لم يقتنع فرانز قطّ، بحديثي المتلعثم آنذاك وغير المرتّب. حرّك يده في الهواء حركات بلا معنى، أو كأنّه يبعد بقايا كلماتي المعلّقة في الهواء، ثمّ غيّر الموضوع بشكل كامل وسألني بغتة: «سمعت أنّك تكتب رواية. صحيح؟».


لم أكن قد أخبرت إلّا أصدقاء محدّدين، وبشكل عابر ليس إلّا، أنّني أكتب رواية. لكن لدينا، مسيو غولدشتاين وأنا، الكثير من الأصدقاء المشتركين، لذا لم يكن من المستبعد أن يبلغه الخبر، خصوصًا مع طبيعة عملي واحتكاكي الدائم بالروائيين والمحرّرين.


أومأت برأسي أن نعم، ورفعت كتفيّ مؤكّدًا له أنّ لا شيء مميّز. ليس ثمّة ما يثير الاهتمام في الخبر.


أذكر أنّه وضع الشوكة والسكّين على الطبق، وشبك أصابع يديه على الطاولة، وأمال رأسه قليلًا نحوي، قبل أن يسأل: «ما موضوعها؟».


لا أحبّ هذا السؤال، والجميع يسألونه. ماذا يفترض أن أقول للسائل؟ هل ألخّص له الرواية؟ لو أنّ الرواية قابلة للتلخيص لما كانت هناك حاجة إلى كتابتها أصلًا.


التلخيص، كما الترجمة، خيانة. كلاهما يقوم على التأويل. تجد في الرواية أحداثًا وأفكارًا قابلة لتأويلات متعدّدة، مختلفة أو متكاملة، أو حتى متناقضة. حين ترتكب جرم التلخيص فإنّك تضطرّ، بوعي أو من دونه، إلى انتقاء تأويل واحد فقط. هذه خيانة للنصّ. الروايات العظيمة لا يمكن تلخيصها. العظمة تأتي من تعدّد مستويات القراءة والتأويل. التلخيص يقتل ذلك.


طال تحديق فرانز إلى وجهي، منتظرًا الجواب، فوجدتني مضطرًّا إلى أن أقول له أيّ شيء.


«هل تعرف إيجوز؟» بعد أن سألت انتبهت إلى أنّ السؤال ساذج ولم تكن ثمّة حاجة إليه. طبعًا، هو يعرف ما حدث للسفينة إيجوز. لا يوجد يهودي قريب من ضفّتي البحر المتوسط، أو في إسرائيل، لا يعرف قصّة السفينة.


كان قد هاجر خلال فترة السنوات السبع بين عامي 1948 و1955 ما يزيد على تسعين ألفًا من المغاربة اليهود إلى أرض إسرائيل؛ الأرض الموعودة والدولة الوليدة. وقبل ذلك، خلال السنوات القليلة التي سبقت تأسيس الدولة اليهودية، هاجر ستّون ألفًا. كانت فرنسا وإسبانيا، الدولتان المستعمرتان اللتان كانتا آنذاك تقتسمان التراب المغربي، تسهّلان هجرة اليهود إلى أرض الميعاد. لكن، بعد فترة قصيرة من إلغاء الحماية الفرنسية والحماية الإسبانية وإعلان الاستقلال، أغلقت المملكة باب الهجرة ومنعت اليهود من الهجرة إلى أرض الميعاد.


«طبعًا»، قال فرانز غولدشتاين. «من يجهل الجهود الجبّارة التي بذلها الموساد لإنقاذ اليهود المغاربة من عنصرية المسلمين وإعادتهم إلى إسرائيل!» زمّ شفتيه وتنهّد: «لكنّ الربّ شاء أن تغرق تلك السفينة».


أعترف بأنّني نزيل مستشفى أمراض نفسية و...


مهلًا، مهلًا. هذا اعتراف أوسكار ماتزيراث ولا شأن لي به. هل صارت ذاكرتي تخدعني إلى درجة أنّ ذكريات الآخرين صارت ذكرياتي؟ غامضة أمور الذاكرة، ولا يمكن الجزم بأيّ شيء في خصوصها. لا يمكننا الاعتماد على الذاكرة لتذكّر الحقيقة. إنّها مخادعة مليئة بالأوهام ولا يمكن الاعتماد عليها دائمًا. أو ربّما لا يمكن الاعتماد عليها البتّة. ما نحسب أنّنا نتذكّره هو في الحقيقة ما نعتقد أنّنا نتذكّره. نغيّر في التفاصيل ونحذف الحقائق وننسى الوجوه ونبعد إلى الأبد أحداثًا كاملة. الأسوأ أنّنا بارعون في تذكّر أحداث لم تقع أصلًا، والإشكالية ليست أنّنا ننسى بل إنّنا لا نعرف أنّنا ننسى. ليست الإشكالية أنّنا نحرّف الحقائق بل إنّنا نسجّلها في الذاكرة ابتداءً بشكل محرّف. من السهل خداع حاسّة البصر ومن السّهل أن نخطئ في سماع الأحاديث، ومن السهل تسجيل مشاهد وأحاديث كما تلقّتها حواسّنا المحدودة وليس كما هي حقيقة. يا للهول. أكتب هذا كأنّ أحدًا غيري يستخدم يدي لكتابته. الآن، كيف سأصدّق أنّ هذا التداعي الحرّ للأفكار سيوصلني إلى برّ الأمان؟ كيف سأثق في أنّ ما أحسبه ذكرياتي هو حقًّا ذاكرتي؟ لو كنت راويًا في رواية، لقال ألف ناقد، رغم أنّه فعليًّا لا يوجد لدينا ألف ناقد (نحتاج إلى برنامج من اليونيسكو لحماية النقّاد من الانقراض)، إنّني راوٍ لا يُعتمد عليه، ولا صدقية له، ولسودّوا عشرات الصفحات حول أخطائي وأمراضي النفسية. لكنّ هذا لا يعنيني بالمرّة. ما الذي كنت أريد الاعتراف به؟ تذكّرت.


أعترف: كنت خلال سنوات أعتبر نفسي يهوديًّا أوّلًا، يهوديًّا في المقام الأوّل، ومغربيًّا في المقام الثاني أو الثالث. الآن، صرت أكره عبارة «اليهود المغاربة» التي يكرّرها فرانز. ما الخطأ في قول «المغاربة اليهود»؟ كذلك، ثمّة مبالغة مفرطة في حديث فرانز عن عنصرية المسلمين. لا يمكن القفز مباشرة إلى الاستنتاج المخلّ بالدقّة، أنّ كلّ المسلمين يكرهون اليهود وقد كانوا دائمًا كذلك وسيبقون كذلك إلى الأبد. الحقيقة هي أنّه يوجد دائمًا مسلمون متعصّبون يلقون كلّ أسباب تخلّفهم على إسرائيل محوّلين كل كبتهم الديني إلى كراهية تجاه كلّ اليهود. كما ثمّة مسلمون جهلة، أكثرهم من عامّة الناس، يسهل سوقهم إلى تصديق أساطير عنصرية عن اليهود لا صحّة لها. وبالتأكيد، ثمّة نماذج من اليهود يغذّون تلكم الأساطير بخبثهم وخداعهم، وآخرين في إسرائيل يستثيرون كراهية كلّ المسلمين، بسبق إصرار أو من دونه. فضلًا عن ذلك، تحوّلت كراهية إسرائيل، ثمّ كراهية كلّ اليهود، إلى سياسة حكومية في البلدان العربية هدفها إلهاء الشعوب عن المطالبة بحقوقها الأساسية الأهمّ والأولى. إسرائيل نفسها تفعل ذلك، ليحافظ الجنرالات والحاخامات على امتيازاتهم، من جهة، ومن جهة أخرى كي تحافظ إسرائيل على وجودها، عبر الظهور دوليًّا بمظهر الضحية التي تحتاج إلى دعم العالم وعبر شحن المواطنين محلّيًّا للتكاتف أمام العدوّ العربي والمسلم الذي يهدّدهم باستمرار.


عاد فرانز إلى الخلف وعقد ذراعيه على صدره متابعًا الحديث وعيناه تسبحان بعيدًا: «لكنّ تلك الخسارة كانت تضحية لا بدّ منها. نعم، خسرنا بضعَ أرواح عزيزة، إلّا أنّ فائدة الحادثة كانت عظيمة».


لم آخذ كلامه يومذاك مأخذًا جدّيًّا، لكن لاحقًا، بعد مراجعة الكثير من المصادر، قبيل خروجي من فرنسا (كتبت كلمة خروج وقد وقر في قلبي أنّني أقصد الطرد)، سيتأكّد لديّ خاطر مريب.


في اليوم التالي لغرق السفينة التي كان صاحبها يسمّيها الحوت قبل أن يسمّيها الموساد إيجوز، كتبت صحيفة هآرتز، يوم 11 يناير 1961، تعليقًا على الخبر يقول: «انتُشِلت اثنتا عشرة جثّة أخذت إلى ميناء الجزيرة الإسباني، وما زال البحث جاريًا عن اثنين وعشرين غريقًا آخر، في انتظار التعرّف إلى الغرقى وتحديد جنسيّاتهم. كان الغرقى الذين انتُشِلَت جثثهم في معظمهم يرتدون سترات أو أطواق النجاة. حتى الآن لم يصدر أيّ تعليق رسمي من حكومتنا عن سبب هذه الكارثة، لكنّ مصادر متعدّدة تشير إلى أنّ السبب الرئيس لغرق السفينة هو ربما الحمولة الزائدة». وتضيف الصحيفة: «إيجوز هي سفينة إسبانية صغيرة يؤجّرها الموساد لتهريب اليهود المغاربة سرًّا إلى جبل طارق ومن هناك إلى أرض إسرائيل. وقد تمكّن الموساد خلال اثنتي عشرة رحلة، على امتداد ثلاثة أشهر، من تهريب 334 يهوديًّا من المغرب. وهذا رقم ضئيل مقارنة بالتسعين ألف يهودي الذين خرجوا من المغرب خلال الفترة ما بين حرب الاستقلال وحملة سيناء، قبل أن تقرّر السلطات المغربية، ابتداء من 27 سبتمبر 1956، إيقاف هذه الهجرات واعتبارها غير قانونية، بعدما رضخ الملك محمد الخامس لضغوط جمال عبد الناصر. يقودنا هذا إلى السؤال: هل تعمّد الموساد إغراق السفينة حتى تتمكّن غولدا مائير من استدرار شفقة المجتمع الدولي وعطفه ودفعه للضغط على المغرب لإعادة فتح باب الهجرة؟».


كنت أعتقد أنّ ذلك السؤال محض مبالغة، وكنت أفكّر في احتمالين، أحدهما أنّ الموساد لم يكن يولي العملية أهمّية كبيرة لمحدودية عوائدها، لذلك لم تكن ثمّة متابعة دقيقة لحالة السفينة ولم تكن تخضع لأعمال الصيانة بشكل ملائم، رغم تكرار عطبها. لكن لاحقًا ستطفو على السطح تسريبات من متعاونين سابقين مع الموساد وستتكرّر الشكوك وتتعاظم حول تعمّد الحكومة الإسرائيلية إغراق السفينة لاستدرار عطف المجتمع الدولي وإرغام المغرب على السماح بهجرة كلّ اليهود. وما حدث بعد أشهر قليلة، من حادث غرق السفينة إيجوز، يعزّز هذا الاحتمال. فبعد فترة قصيرة تُوّج الأمير الحسن ملكًا بعد وفاة والده محمد الخامس، وبدأت سلسلة من الاتّصالات السرّية بين أحد مستشاريه وبين إسرائيل، تُوجّت بتهجير مئة ألف من المغاربة اليهود إلى إسرائيل، عبر فرنسا وإيطاليا، مقابل دفع إسرائيل، بدعم من منظّمات يهودية أميركية، ما يعادل حاليًّا مئة مليون دولار أميركي ثمنًا لرؤوس اليهود. هكذا انخفض عدد اليهود في المغرب إلى أكثر من الألفين بقليل بعد أن كانوا قرابة نصف مليون، وصار اليهود من أصل مغربي ثاني أكبر جالية في إسرائيل. طبعًا، كانت التفاصيل آنذاك موسومة بـ «سرّي للغاية»، ولم أعلم ما أعلمه الآن إلّا بعد سنوات من ذلك، ولا أذكر الآن كيف عرفت، وما زلت مستغربًا ذاكرتي الانتقائية التي تتذكّر هذه الأرقام وتنسى أمورًا أخرى.


«إذًا، ماذا ستقول في الرواية عن إيجوز وعودة اليهود إلى أرض الميعاد؟» عاد فرانز للسؤال عن موضوع الرواية.


أخذت رشفة إضافية بحثًا عن دفء يغطّي الرجفة التي بدأت تسري في أوصالي. ابتلعت ريقي وتنهّدت.





0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم