فصل من رواية "حراس أبن خلدون".. للكاتب محمد الهجابي
تقديم: راس الخيط
في ظنّي، يخطئ من يذهب به تفكيره إلى أن كل وقائع هذه الرواية، التي أحشرها من جهتي، تجاوزا، ضمن نوع ما يطلق عليه ب«التخييل الذاتي» في مجال السرديات، قد حصلت عيانيا. الكاتب نفسه لا يصدق أن ما باشره من محكيات تعود إلى ما راح يتواضع أهل الحقوق والسياسة على تسميته ب«سنوات الجمر والرصاص»، وهي السنوات التي بذكرها تشيب الولدان، وتذوب لها الجمَادات العظام، قد يفضي به إلى كتاب، ولربما قد يُنشر بين الناس ويُذاع فيهم علانا جهارا باعتباره مصنفا أدبيا.
وللأمانة، ينبغي القول إن الكاتب لقي غب عطالة فاجرة، ولوقت طويل، صعوبة بحجم جلمود صخر لكي يستعيد الرغبة في الحكي. ففي سنة 1996، وبعد سعي حثيث ونافق إلى الكتابة، تأيّد له أنه أصيب بما يسمى ب«قفلة الكاتب»؛ وهي حالة نفسية بالأساس، بحسب العارفين، تنال من الكاتب فتحيله إلى جثة رخوة وخامدة وفارغة؛ حالة جسدها الرسام الروسي ليونيد ﭘﺎسترناك (1862– 1945) في لوحة فنية تمثل لكاتب قاعد إلى مكتبه مغمض العينين، يمسك القلم بأصابع يمناه على ورق أبيض، بينما يشد بيسراه على جبينه كأنما يعتصره اعتصارا لعله يجود عليه بفكرة ما. حالة من الضعف والخور والوهن، تحز في النفس وتحزن لها. على أنني أرجعها، من جهتي، إلى تأثير بالسلب أصاب الرجل عقب انفراط عقد م.ع.د.ش غداة الموقف من دستور السنة نفسها.
كانت هذه هي حالة كاتبنا حينما حللت بين ظهرانيه، ذات مساء بارد من النصف التالي من عقد التسعينات، أنا صديقه الحميم أحمد الهلالي، فأفتيت عليه، إنقاذا له مما كان عليه من احتباس ضاغط، بأن يجلس من جديد إلى أوراق ووثائق ومحاضر حزبية تجمعت لديه على امتداد عقدين كاملين، فيقلب فيها وجها على رأس وظهرا لبطن. ويقينا، أكدت له، أن إشارة ما ستندلع منها، وتومض في ذهنه كما تومض القداحة في ليل غطيس. وكذلك كان.
ويذكر المخلوفي، في إحدى تدويناته، أنه قضى في صحبتي مساء يوم سبت 20 أكتوبر 1990 ببار تمارة نكرع قناني بيرة. القناني الأولى كنا أتينا عليها من غير مزة ترفدها. لكن القناني التالية التي شربنا، وخالطناها بقطع لحم متبل ومشوي على الجمر، استوى بها مزاج الرجل، وحلا له، ساعتها، أن يكشف لي عن مشروع كتاب. في بداية جلستنا تلك انتبذنا طاولة في الساحة الفسيحة البرانية للبار، في زاوية بين خميلة شجيرات التسوير ونبات عكش على الشمال وحائط حاف في الخلف مبلط ببياض الجير. لم نكن نأبه لحركة الشاربين حوالينا. كانت بعض الأصوات تتهارش، تعلو وتخفت. في حين، كان نشيش الشواء يدركنا من الزاوية المقابلة ويبلغ دخانه إلى المناخر مثخنا بدسامة ضاربة. ولما أخذت السماء، التي شابها السواد، ترشح، ثمّ تهمر، جمعنا بسرعة متاعنا وهببنا إلى طاولة بالداخل المضاء.
يعرض مشروع الكتاب، في ما ذكر الرجل في ذلك المساء، لشهادات حول مؤتمري م.ع.د.ش. هذا هو الكتاب الذي انتهى إليه خياله إثر تفكير طويل.
الفكرة، أعني فكرة الكتاب كما قدم لها المخلوفي وهي قيد التشكل، راقت لي، فعلقت للتو بالإيجاب عليها، ولم أفصل برأي. طبعا لم أفعل، فقد اعتبرت أن المهمة إياها هي مهمة الكاتب، وليست، بالتالي، مهمة أحد سواه، وإلا انتفى معنى الخيال والإبداع وحقوق براءة التأليف. استنكفت عن الكلام في الموضوع، علما أنني في قرارة نفسي كنت أرغب حقا، ومن باب الفضول ليس غير، في معرفة ما إذا كان اسمي يدخل ضمن زمرة المعنيين، وأي المراتب يحتل، وفي أي قالب سيصاغ. المخلوفي لم يكن حدد لائحة أسماء بعد. في الواقع، كان يفكر في أشخاص من الجنسين معا ينتقل بهم من صفتهم تلك إلى صفة شخوص روائية. ولم يعين لائحة أيضا لأنه لا يزال، في ما أخال، يفتش عن سدى الحكاية ولحمتها، وهو أمر لا يحصل، برأيه، دفعة واحدة في مجمل ما يكتب، وإنما يحتاج منه إلى ما سماه ب«راس الخيط». الفكرة بين يديه، وماثلة قدامه، وتستأثر بجماع لبه، بيد أن «راس الخيط» هذا، بالمقابل، يعوزه، ويفتقده، ويلعب معه «لعبة الغميضة»، يظهر ويختفي كالسراب وكالشرى وكالثعلب. هذا «الراس الخيط» كيف يمسك به المخلوفي؟ هنا مربط الفرس في الحكاية كلها، يقول.
متى تعرفت إلى سي أحمد؟ شاهدته بفاس بنادي سينما أستور، شارع محمد السلاوي. بدا لي الولد وهو يتناول الكلمة في حصة نقاش فيلم «Il pleut sur Santiago» للمخرج الشيلي ﻫﯿﻠﭭﯿﻮ سوتو، ومن بطولة لويس ترانتينيون وآني جيراردو وجون أبي وبيبي أندرسون.. شهر ماي 1976، مثلما لو كان على دراية دقيقة بما يجري في أمريكا اللاتينية. وأزعم أن الفيلم سقط سهوا في أجندة المكتب المسير. تحدث المخلوفي ساعتها عن ﺳﻠﭭﺎدور أليندي وڤيكتور خارا في ظل ديكتاتورية ﭘﯿﻨﻮشي، ثمّ تحدث عن اعتقال القائد الشيوعي لويس كارڤلان ورفاقه مرافعا عنهم ومنددا بجلاديهم. أذكر عاصفة التصفيقات التي تلت كلمته. لم يكن يناقش فيلم تلك الصبيحة. توسل بالفيلم لكي يقوم بالدعاية والتحريض. في الحصة القادمة ازدُجر ببلاغ عند الباب. أيامئذ لم تكن تعنيني السياسة في شيء. كنت هاوي سينما ومن محبيها الخلص، سينفيل، أو فيلموفيل إن شئت. كانت تهمني السينما وليس غير السينما. بمطعم الحي الجامعي، نهاية الشهر ذاته، حادثته في الصف إلى قاعة الأكل، قلت له لم يعجبني منعك من طرف المكتب الاستقلالي للنادي. قال لي إنه كان ينتظر هذا الإجراء. قلت له: أنت أيضا بالغت. ابتسم بنصف فمه، ثمّ نبر: وهل تظن أن الاستقلاليين محايدين؟ الفن التزام وغير ذلك مجرد هراء. لحظتها لم أكن على استعداد لمناقشة. لكن منذئذ صار يحييني متى تصادفنا.
الأسماء تلك، التي أشهرها المخلوفي إبان مناقشة الفيلم الشيلي، فات أن كالمني عنها طالب من حزب علي يعتة يقاسمني شعبة الإسبانية. وفي وقت لاحق أعطى لي عددا أو عددين من جريدة «موندو أوبريرو»، وقرأ علي بعض موادها. وأكثر من ذلك، فما برحت أتذكر وسم الجريدة الذي هو كالتالي: (موندو/ مطرقة ومنجل/ أوبريرو). بل وما زلت أحتفظ، ضمن دفتر مفكرة صغير، برسم لمانشيت ع. 4 بتاريخ 19 فبراير 1975 حول العفو عن السجناء السياسيين، في فترة اتسمت باحتضار مديد للديكتاتور فرانكو، وكان الرسم كالآتي: كماتشو (أول سكرتير عام للجان العمالية السرية) وصورة كبيرة له على شمال الصفحة، سابوريدو، سلفي، زابيكو، سوتو.. هذا العدد بالتعيين ظل بحوزتي لشهور. كان الولد يتكتم عن مصدر حصوله على الجريدة. لكن كان من السهل، بالنسبة إلي على الأقل، أن أخمن طبيعة علاقته بأحد الأساتذة الإسبانيين بالشعبة، وعضو ناشط في المركز الثقافي الإسباني بزنقة الضويات. الأستاذ شيوعي ما في ذلك من شك.
لم أكن من مناصري الشيوعية ولا الماركسية ولا من معاديهما أيضا، ولا كان في الوارد أن أصير يوما ما شيوعيا. ومع ذلك حافظت على رباط صداقة معتبرة مع المخلوفي. وعندما كان يبتزني لكي أحدد هويتي، كنت أعلن: إني مع الديمقراطية، أنا ديمقراطي والسلام. فكان يخبط بكفه على كتفي ويعقب ضاحكا: لا عليك أيها البورجوازي الصغير، أنت في جبهتنا على كل حال. كان الولد متورطا في السياسة. ولم يكن يضيرني في شيء. وإن كنت أنسى فلن أنسى يوم قلت له إنني كنت تطوعت إلى المسيرة الشعبية إلى الصحراء، بيد أنه لم أنجح في المشاركة، فشد على يدي بقوة، وقال: أنت أثبت أنك لست ديمقراطيا فقط، بل وأثبت أنك وطني قح أيضا. يوم قال كلامه ذاك صعد الماء إلى مقلتي. لم يكن سهلا أن تصرح بهذا الخبر في ساحة الجامعة. ثمّ افترقنا بعد الإجازة. أنا توجهت إلى ثانوية عبد الرحمان الناصر بالقنيطرة مدرسا، فيما هو استقر بالعاصمة. ولقرب المسافة بين الحاضرتين، فقد كنا نتزاور من وقت لآخر. حاول مرارا استقطابي لخياراته الحزبية، لكن عبثا كان يحاول، فقد تشبثت بحقي في ممارسة الحياد الإيجابي مع قدر من العطف على اليسار. كنت يساريا معتدلا، وبالقوة إن صح القول. طبعي لا يسمح لي بأن أكون حديا. جبلت منذ صغري على الهدوء والاتزان. أحمد «الترانكيل»، هذا هو النعت الذي بقي لصيقا بي!
أطلعني على المسودة الأولى من عمله السردي التي قال عنها إنه أنجزها، في ما خلا الباب الثالث والخاتمة طبعا، في حدود ستة أشهر متواصلة محققا بذلك رقما قياسيا من حيث زمن الكتابة، فقرأتها بحذافيرها، صفحة عقب صفحة. طوال أسبوع برمته انكببت على محكياتها مروزا ومحققا. قرأتها في الشقة، وعلى فراش النوم، وفي المقهى. قرأتها في تاكسي كبير إلى الرباط. وعندما أتممت القراءة، تساءلت في سري: ما هذا الذي هيأه المخلوفي للنشر؟ رواية؟ قد يجوز. تخييل ذاتي، وهو ما أرجحه؟ يجوز أيضا. سيرة ذاتية؟ ربما. ولمَ اختار شكل كتاب بأبواب وفصول ومدخل وخاتمة وفهرس؟ ما الذي يقصده من هذه الصيغة في الكتابة؟ لست بناقد روايات، ولا بعالم سرديات، حتى أصدر حكم قيمة في الموضوع. أنا مجرد قارئ. وقارئ هاو، إلى ذلك. ثمّ إن اقتراحاتي المتواضعة لا تمس الهيكل العام ولا المحتوى. بالحقيقة، ترددت كثيرا في مد أحمد بلائحة التعديلات. قلت له: أنت تعرفني، فأنا أميل إلى قراءات باللغة الإسبانية. وصحيح، أنني أقرأ بالعربية. ولعي باللغة العربية كبر معي. أحسبه تحصيل حاصل. لكن أن أكون قاضيا لغويا، فهذا يفوق قدراتي. ثمّ اقترحت عليه صديقا لي فقيه لغة عربية بجدارة. على أن سي أحمد تحفظ. فسرت أنا تحفظه ذاك بالرفض.
ولم أجد لي مكانا بين طيات الكتاب في ما خلا إشارة عابرة هنا أو هناك. لم يهملني الولد. لا، لمْ يفعل. ولمَ يفعل؟ لم يرد اسمي في هذا الأثر بمقتضى حاجة السرد إليه، بقدر ما ورد عرضا. العمل يتناول حيوات مناضلين شاركهم المخلوفي الدرب والشعارات، بينما شاركته أنا الود والصداقة فحسب. لمَ يهملني إذاً؟ لذا، تراني وقد تفهمت أمره، لم أغمز بعتاب عليه، ولم أقذفه بملامة. كل ما فعلت أنني قرأت المسودة، وأعدتها إليه معززة باقتراحات تعديل؛ يأخذ بها أو لا يأخذ، فهذا شأنه. هنا انتهت مهمتي.
قال الرجل: إن «راس الخيط» هو الذي يستغرق مني الجهد الفكري والنفسي، ومتى أمسكت به استخذت لي باقي المتممات ودانت التوابع. أيامها، أقصد سنوات السبعينات، كان أحمد يكتب القصة القصيرة. وأشار إلى أنه نشر بجريدة العلم والمحرر والبيان. وما برح أن أوقف كتابة القصة لحساب المقالة الصحافية. ولما أراد العودة، نهاية الثمانينات، إلى القصة ألفى عسرا في تحرير ولو جملة قصصية واحدة. حديثه لي حول علاقته بالكتابة، والحديث بالواقع كان موجها لي ولصديقنا رضوان، جرى بمقهى تاغزوت بالقنيطرة. كنا على موعد مع شريط «الكيت كات»، تأليف وإخراج داود عبد السيد.
نحن في سنة 1997. وكان النادي السينمائي قد برمج هذه التحفة السينمائية ضمن فعاليات السينما المصرية. ولمشاهدته استقدمت المخلوفي من الرباط. وحينما حل بشقتي جاء مصحوبا برضوان. اختار مكتب النادي عطلة الربيع لعرض جملة شرائط بقاعة سينما بلاص. قعدتنا لصباح يوم الأحد ذاك بلاتيراس تاغزوت هي لمشاهدة الفيلم. ومع أن رأسي لا يزال ثقيلا وبه صداع، وجسدي لم يشبع نوما، فقد باكرت واقتنيت من متجر «بييت» حليبا وهلاليات وباريزيانتين. أعددت الفطور. صحا كل من أحمد ورضوان من نومهما بصعوبة جمة. ولولا إلحاحي لما تهيآ إلى مغادرة الشقة. كنت أكتري الشقة رقم 11 من غرفتين وصالون بالطابق الثالث لعمارة (رقم 30) تمتلك بعض مواصفات هندسة (فصالة) السكن الأوروبي. موقع العمارة في زاوية تقاطع شارع محمد الديوري وشارع الإمام علي كان يتيح لي فرصة إطلالة ماتعة، من البالكون الطولي، على نهر سبو والسوق المركزي والمقاطعة بالجوار، وقبل هذا وذاك، التملي في اللقالق التي تعترش صومعة الكنيسة القديمة قبالتي بينما هي تلقلق وتنفش ريشها وتنقيه. في الطريق إلى شارع محمد الخامس، فسينما بلاص، قلت ضاحكا: المخلوفي فعلها الليلة أيضا. سأل المخلوفي مستنكرا: ماذا فعلت؟ قلت: شخرت. وكنت تشخر كما المنشار إذ يذهب في الخشب آكلا، ويعود آكلا. رضوان أكد بحركة من رأسه، وهو ما لم يقبله أحمد، فعقب: كان عليكما استعمال سدادتي أذن. وبعد وقت، وهو قاعد، اعتذر. ثمّ قام يعانق ويعتذر.
ليلة السبت، وإلى وقت متأخر منها، بقينا نشرب ونتحاكى، بينما ضمخنا رضوان بتبغ غليونه حتى وهو بطعم الفانيلا. ومنه ذاك الاعتكار في مزاجي ونحن نترقب ولوج السينما. وفي انتظار الساعة العاشرة، موعد الدخول، حدثنا أحمد عن سر ميله، في أول وهلة، لشخصية عبدو بنعاشور بوصفه «راس الخيط» لعمله السردي هذا. وقال: لكنني بمجرد ما فكرت في بنعاشور وجّ اسم ابن خلدون، التاريخ والحمولة والإشارة، إلى شرفة دماغي. وزاد قائلا: إن للرجل مرتبة تسمو إلى مقام الشيخ لدى ساكنة ابن خلدون. وبصرف النظر عن بعض عيوبه، فالرجل لم يؤذ أحدا، وإنما سلك مسلك الأوفياء الصادقين تجاه ابن خلدون. فُرض علي اسم دار ابن خلدون تلقائيا. بل فرض نفسه عليّ. ولم أستنبش الاسم من غور بئر كما ترى. ولم يتسرب في البال خلسة. فكرت في بنعاشور، ففكرت، بالنتيجة، في دار ابن خلدون. ليس ابن خلدون في هذا العمل مجرد مكان، بل هي شخصية روائية بحق كذلك. على أن كليهما يصلح "راس الخيط"، أليس كذلك؟
روى المخلوفي، في ما رواه على مسامعنا، في ذلك اليوم الذي التأمنا فيه حول فيلم «الكيت كات»، أن من بين الأشخاص الذين عاشرهم هناك بنعاشور الذي يصلح لشخصية رئيسة في فيلم ناجح. وكلمنا عن طفطافته Triumph Tiger 100. وقال إن ولعه بركوب طفطافته كولع الشيخ حسني (محمود عبد العزيز)، في فيلمنا، بركوب دراجة الموتوسيكل وقيادتها متوسلا بالسمع كحاسة أساس، وليس بحاسة البصر كما هو الشأن في حالة صاحبنا بنعاشور.
وافق رضوان رأي المخلوفي في بنعاشور. هل وافقه الرأي في ابن خلدون؟ لا أقطع بشيء. كنت أنصت وعيني على باب بلاص. أذني لهما وعيني لبلاص. كان الجو ربيعيا ودافئا، والشارع شبه خال. كنت ورضوان نلبس كسوة خفيفة فيما يرتدي أحمد بذلة كحلية. لم يفلح فنجان القهوة السادة في أن يخفف عني صداع الرأس، فطلبت فنجانا ثانيا. صديقاي اللذان انهمكا في سرد طرائف ومستملحات، كان بنعاشور سيدها ومدارها، لم يشفّا عن حال شبيه حالي. كأنما لم يشربا بيرات ببار لولو (كونتينونتال)، ولا زادا عليها في الشقة بنبيذ.
ابن خلدون الدار، أليست هي «راس الخيط» بالأولى؟ بلى، فالكتاب فصّل الأمر. إنها عقدة مسالك عمارة الحكاية، وملتقى مساربها ومَناور مفرقها.
من اختار ابن خلدون اسما للدار؟ أيكون الاسم ذا علاقة بصاحب «المقدمة»؟ أيكون ذا صلة بدار ابن خلدون للنشر والتوزيع ببيروت، وما انثال عنها من متون ونصوص محكمة سارت بعناوينها أقلام ومجامع أهل اليسار والتياسر؟ من وجّ الاسم إلى ذهنه فأطلقه على دار بحي الأطلس لا يميزها في شيء عن باقي دور الحي سوى أن أفواجا من الطلبة وردوا عليها من كل فج في البلاد وركن وربض، وتراوح آخرون السكن بها لسنوات؟ أيكون التفافا على منزل زنقة الطالعة الكبيرة، أسفل «درب سيدي الدراس»، في زقاق «رحاة الشمس الفوقية»، والذي سار بين ألسنة الناس من أنه للعلامة ابن خلدون، فباتت هذه الدار من تلك على سبيل الباروديا؟ أيصح ربط الاسم بما جاء في المعاجم، من أن لفظة «الخلد»: • في «لسان العرب» من: دوام البقاء في دار لا يُخرج منها (أي ليس لها مخرج، أو لا مخرج لها). • وفي «المعجم الوسيط» من: خلُد خُلْداً، وخُلوداً: دام وبقيَ. ويقال: خلَدَ في السجن، وفي النَّعيم. ويقال: خلدَ فلانٌ: أسنَّ ولم يَشِب. وخلد بالمكان: أطال به الإقامة.(أخْلَدَ) فلانٌ: أسَنَّ ولم يَشِب. وخلد بالمكان: خَلَدَ به. • وفي «تاج العروس» من: الخُلْدُ بالضّمّ: البقاء والدَّوامُ في دارٍ لا يخرج منها كالخُلود ودار الخُلدِ: الآخِرَةُ لبقاءِ أَهْلِها والخُلْد من أَسماءِ الجَنَّة (تماماً كقول: «الجنة أهلها خالدون فيها مخلدون»). وفي التهذيب: من أَسماءِ الجِنَان..
أيكون سكان هذه الدار ممن خلد المخلوفي أسماءهم بذكره الدار، قد خلدوها، هم بدورهم، بأثر الأطياف والأنفاس والأصوات التي تزاحمت بين حيطانها وبمضاجعها، فجبوا ما قبلها من معالم ومطارح، وصاروا لها، بالتالي، حراس مقام وأبدال مزار، وصارت لهم، من جانبها، حاضنة أسرار وكاتمة أخبار وموضع أختام؟ وهل دخلوها ولم يخرجوا منها حقا مثلما تشير إلى ذلك المعاجم المفسرة؟
أسوق هذه الشوارد دون أن أجزم بيقين. بل الرأي عندي، في تواضعه الجم، أن هذه الدار التي اصطفاها صديقي العزيز أحمد المخلوفي، دون سائر الدور التي عاقر، وخصّ بها هذا المتن، إنما فعل لكي يقول لنا إن الحيوات التي عمرت بهذه الدار، ضمن سياق سياسي وتاريخي معلوم، لا تمثل الدار بما هي دار، أي بما هي مكان فحسب، بقدر ما ومأت إلى حراك من البشر شملها لسنوات ومنحها سيرة سارت بها ألسنة الأقربين والأباعد. ومن هنا، ففرادة هذا المكان بالذات هي من الرأسمال الرمزي لذاكرته.
ولعل الرجل مر بزنقة العرائش أو عبر زنقة طنجة، ذات تسكع بحي الأطلس من عقد التسعينات. ومن حيث لا يحتسب طمح ببصره إلى المكان، ثمّ التقطت عيناه مصادفة رقم 8، رقم الدار، فحرن أمامه يتفكر، ثمّ رأى ما رأى من تخيلات وهلوسات وأحلام بصم عليها «زمن ذهبي» كان لهذه الدار، وإذا برغبة جارفة تملكت الرجل، إبانه، في تحرير شهادة مطولة يضيفها إلى الشهادات المتحصل عليها حول المؤتمرين. ولما لم يكن عليه، بالتالي، سوى التفتيش عن «راس الخيط» به يفرز «ميزان الماء» من «ميزان الخيط» من «ميزان الزمبة» من عمارة الحكاية، عاد إلى جوارير صندوق دماغه يبحث ويروز، حتى إذا طلع اسم بنعاشور جعله مبتدأ خبر «دار ابن خلدون». ثمّ إن الخبر تدحرج ككرة ثلج، وتوسع كأصداء غرف، إلى أن بلغ حجم كتاب. وفي هذا، قال المخلوفي إنه فوجئ بالكتاب وقد أمسى في هذا الشكل وليس على النحو الذي تخيله في المرة الأولى. ثمّ إنه نسب الأمر إلى ألاعيب الكتابة المارقة.
أصل الكتاب إذاً هو شهادات حول حدثين تاريخيين هامين عايشهما الولد. الكتاب هذا كان ذاك هو أصله كما تصوره المخلوفي في البداية. بيد أن الأصل ما برح أن انشطر إلى فروع، ثمّ أضحت الفروع أصولا لفروع.. وهلمجرا. ولقد دلّل الرجل على هذا التحول بأحكام شروط التقادم وتخالف متواتر في المزاج ومقتضيات منطق الكتابة الخاص. وهكذا، انحرفت الفكرة عن منشئها الأصل، وباتت، بعد لأي، قصصا تدوّم على فضاء بعينه، وعن هذا الفضاء تطوّلت فضاءات أخرى أثثتها نبذ وسير وحيوات. ثمّ ما عتّب الرجل أن أَصارَ الشهادات إياها، التي هي الأصل، إلى ملحقات، وبعد تخمين قلبها إلى باب بكامله. وبعد، أين نحن من الأصل؟ وهل هناك أصلاً من أصلٍ؟
في آخر حديث لنا، من هاتف منزل إلى هاتف منزل، قبل يومين من موعد المظاهرة الشعبية الحاشدة بالرباط لدعم الشعب العراقي في محنته تجاه العدوان الغربي، قال المخلوفي إنه أجرى ترميما جراحيا على ركبته بسبب تمزق الغضاريف، وأنه بات يستعمل مؤقتا دعامات للمشي. وختم بسؤال وجواب. أما السؤال، فكان: هل تعلم يا سي الهلالي من فاجأني بمستشفى ابن سينا في يومي الثاني به؟ وأما الجواب فقد لخبط عقلي تماما، وجاء فيه: خمّنْ أنت. إنه بنعاشور، تصور الرجل بلحمه وعظمه دخل علي، أليس في الأمر ما يحمل على الدهشة، كيف علم بي، ومن أخبره، ومن أرشده، عجيييب!؟
هذه «العجيب»، بياء ممدودة أو بعدمها، لازمت صاحبنا كلما عرضت له واقعة لم تكن لتخطر على باله بحال. وسيصادفها القارئ في هذا المتن في أكثر من موضع، ولا غرابة، إذ هي من نوتاته التي تدخل في باب ملفوظات كلامه الجاري، وأدخلها أنا في باب «مصاقبة الألفاظ للمعاني على سمت الأحداث المعبر عنها». وفي الحكاية أن بنعاشور نزل بالرباط لأمرين: أولا لعيادة أخته البكر نزيلة المستشفى إياه، وثانيا للمشاركة في المظاهرة من أجل العراق صباح يوم الأحد 3 فبراير 1991. وصادف أن التقى رضوان وسط الحشود التي غمرت شارع محمد الخامس، فنقل إليه هذا الأخير خبر العملية الجراحية. ولما حل بالمستشفى كان ولا بد من المرور بالجناح الذي يقيم فيه المخلوفي؛ وهي الإقامة التي لم تدم، على كل حال، سوى أسبوع، أو أقله، فأخلى الرجل السرير لغيره. تحدثا عن الصحة وعن العراق، ثمّ توادعا. هذه الالتفاتة من بنعاشور تركت بالغ الأثر في نفس المخلوفي بعد كل الذي جرى بينهما ببار تمارة ذات يوم أحد من السنة الثانية من هذا العقد، وهو ما لم يتورع في قص مشهده علي كما لو حدث أمامي.
0 تعليقات