ما باليد حيلة

للوقت مدارك يصعب علينا تحمّلها

 عاشق حياة

اللون الأبيض يغطي السماء التي تتضاءل رويدا رويدا حتى تصبح بحجم قبضة اليد، أمام ضرباته التي لا تهدأ في ذلك اليوم، وجموع المعزّين بوجوههم الصاخبة على غير العادة التي دأب عليها أهل المنطقة عندنا في روج آفا عندما يخرجون إلى المقبرة لدفن أحد ما، يبدو أن كل شيء تغيّر أيضا بعد مرور كل تلك السنوات من عمر الأزمة في سوريا، وأخذت تطفو على السطح مفاهيم جديدة، لم يعهدها الناس من قبل!!

الصراخ يملأ الحياة، والأفواه تطلق زغاريد فرح مترافقة بكلمات تمجيد لما حصل اليوم، والأيام التي قبلها أيضا، وهم يمضون ميممين وجوههم شطر المقبرة في قرية (بر كفريه) لوداع العروس التي تتطاير طرحتها فوق رؤوس الجميع عاكسة بوهجها على الوجوه التي تقاطرت من كل حدب وصوب؛ ليشهدوا اللحظات الأخيرة لمقاتلة أصيبت بشظايا أثناء قيامها بعملية انتحارية لتفجير دبابة، عندما تركت الجدار الذي كانت تختبئ خلفه مع رفاقها في حيّ الصناعة في مدينة سرى كانيه لمواجهة المرتزقة الذين عادوا إليها مرة أخرى، بعد مضي سبعة أعوام تقريبا على خروجهم منها مهزومين، على يد رفاقها المقاتلين.

الشتاء ينذر بالألم، وأنا أسير أمام تلك الجموع، الدموع تحتل وجهي، وتدفعني الرغبة في أن أغادر الوجود معها، وأدفن نفسي إلى جانبها، لنسكن معاً قبرا واحدا، فلا يفرّقنا أحد بعد الآن.

أسأل روحي التي تئن تحت ثقل الوجع، كيف سأعيش بعدها؟! وهل سأتمكن من نسيانها؟! وأعلم يقينا بأنني سأعاني الكثير بسبب رحيلها، ولكن ما باليد حيلة، للوقت مدارك يصعب علينا تحمّلها، وللأقدار سهام طائشة تصيب بها أحيانا أشخاصا يعجزون عن فعل شيء بعد تلقيها تلك السهام.

اللون الأبيض يتسع، رغم السواد الذي يداخلني كل لحظة، ورغم مرارة الموقف الذي يقبض عليّ من صدري، ويضرب بقوة عليه، ليزيد من الوجع الذي يرفع رأسه المرة تلو الأخرى كلما ارتفع صوت مناديا النساء لتطلقن الزغاريد قبل أن يواروا ذلك الجسد الثرى، ويضعوا، ويسكنوا فيه روحي التي كنت على أمل أن أسكن معها تحت سماء سقف واحد يضمنا بعد انتهاء الحرب التي رفعت رأسها في سرى كانيه لتحصد أرواح الكثيرين مجددا، وتدفع بهم إلى الرحيل عنها، تحت جنح ليل فتح فكّيه على اتساعهما؛ لينقضّ كوحش ساغب عليهم، ولا يترك لهم سوى أحزان تقضّ مضاجعهم كل لحظة وهم يلتفتون إلى الخلف، ليروا مدينة تتعرض للموت، ومجرمين بأشكال بشر يطلقون الصيحات في دروبها، ومن خلف الجدار العازل الذي بنته الدولة التركية على طول الحدود بينها وبين الدولة السورية، لحماية حدودها كما كانت تدّعي، لتزيل ألواحا من ذلك الجدار، وتسمح للمجرمين بالهجوم على المدينة.

ما زلت أتألم لفقدانها، كلما تذكرت أنها رحلت من دون أن أتمكّن من رؤيتها، أو حتى الاحتفاظ بصورة لها في كاميرتي؛ لأنني كنت أجهل وجودها هنا معي في الجبهة؛ ولأنني كنت في المشفى أيضا، في ذلك الوقت، أرافق جثمان رفيق لي بعدما أصيب بشظايا في صدره ورأسه؛ نتيجة قصف طائرة تركية لنا، كانت تحاول أن تدكّ مواقعنا، لتبعدنا عن المدينة؛ فيسهل على المرتزقة - الذين ساعدتهم الدولة التركية، وسلطانهم، وأمدتهم بالسلاح - احتلالها.

وحين عدت من المشفى، كان كل شيء قد انتهى، وفات الوقت عليّ بالطبع؛ فلقد أعلنوا نبأ استشهادها في إحدى الهجمات التي شنها المرتزقة على المدينة في حيّ الصناعة قبل يوم من وصولي إلى هناك.

لم يتمكن الرفاق من انتشال جثمانها إلا بشقّ الأنفس؛ بسبب القصف الشديد للطائرات على كافة المواقع التي كانوا يشغلونها.

كانت ما تزال تحتفظ بجمالها الأخّاذ، ووجهها الملائكي الأبيض الذي كان سيزيّن طرحتها في يوم زواجنا، الذي قررنا أن نقيمه بعد انتهاء الحرب في سرى كانيه، ولكنها استشهدت، وتركتني لوحدي كعصفور مذبوح، أتخبط في أحزاني.

وها أنا الآن أمضي في مقدمة هذه الجموع لألقي على ذلك الجثمان نظرة الوداع الأخيرة، متمنيا أنه كان يكون بإمكاني أن ألتقط لذلك الوجه الجميل صورة أحتفظ بها في قلبي للأبد، ولكنني أدرك أن ذلك لا يجوز، فأمنّي نفسي بأنني محتفظ بصورة لها في ذاكرتي، وسأحملها معي أنّى مضيت.

الريح تعوي، والأيادي ترتفع بالتمجيد، والزغاريد تزداد قوة، يبدو أنها اللحظة الأخيرة، القبر يفتح فمه ليتلهم جسد الشهيدة، ليتركني أتيه في مواجعي، وأصغر شيئا فشيئا حتى أتلاشى عن الوجود، وأختفي عن المكان كله، فأصبح في اللامكان، واللاوجود.

أبحث عن الموت في إحدى جنبات المقبرة، لعلّي أراه، فيقبل أن يضمني معها في قبر واحد، لكنني عبثا حاولت؛ إذ لم أجده، بعدما قبض روح الشهيدة، وحمل نفسه، ومضى هاربا في زوايا الضياع، لأبقى ضائعا معه على الدروب.

أنزلوا النعش، ووضعوه بجانب الحفرة، واستعدوا لكي يهيلوا التراب على بقايا صور له، ركزت فيها جيدا؛ كي لا أنسى تفاصيل المشهد المؤلم، لأرى الأفق يزداد بياضا؛ كأنما الثلج قرر أن يهطل في ذلك الشتاء مبكرا، على الرغم من أنه لا يهطل في منطقتنا إلا لماما.

كان ثلج طرحتها التي بدأت النساء بمدّها على طول القبر، لتجعلنه يغطيه كله، وترددن معا أغاني العروس المعروفة عندنا، فتسحب أمها طرفا من تلك الطرحة معهن، وتردد معهن بوجه باك، ودموع حارقة تلك الأغاني، ليشرب البياض تلك الدموع، ويطلق وهجه فوق تراب القبر أيضا، فينطلق الوهج مالئا السماء كلها احتفالا بعيد الشهادة، وعرس الشهيدة في ذلك العصر الذي جمع الآلام والأفراح معا، ليكون مسكنها في القبر، وأمضي بعد ذلك قافلا مع الجميع إلى البيت، أجرّ أحزاني.

سأبحث عن صورة لها في كل مكان، وأدرك بأنني لن أعثر إلا على صور قديمة فقط، هي كل ما تبقى منها، وسأزور قبرا يذكرني بها كل يوم، وأحثّ الذاكرة لتعيد رسم ملامح وجهها كلما أمعنت الأيام في تشويهها أمام عيني.

أصابتني حمى مجنونة في تلك الليلة عندما سمعت نبأ استشهادها، حقدت على أولئك المجرمين والمرتزقة الذين كانوا السبب في ذلك، وقررت أن أمضي في الأمر حتى النهاية، وأقاتلهم إلى جانب رفاقي، وأوثّق بكاميرتي كل شيء يحدث هنا في هذه الحرب، لعلي أتمكن من رسم وجوه رفاقي في آخر لحظات صراعهم مع الموت، وأصورهم وهم يحاربون على كافة الجبهات، ويصنعون الحياة في تلك الأيام الصعبة.

__________

  • ناقد وروائيّ كردي من سوريا
  • الرواية صادرة حديثاً عن دار آفا للنشر 2021.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم