جريدة:

هكذا يحرّرون الوطن... هكذا يدمّرون الشعب


اجتماع... اجتماع!!

كان صوت أحد أصدقائنا يأتي من الخارج من بعيد، بينما كنّا جالسين نتناول طعام الغداء في حرّ الصيف،أيّ اجتماعٍ هذا في هذه الأثناء؟ في الاجتماع الصباحي لا ينادون علينا بهكذا شكل، كان التوقيت غريباً، توقفنا عن تناول الغداء وركضنا بذعر باتجاه الساحة، وجدنا جميع الضبّاط والجنود يقفون هناك، وقفنا بجانب الجميع وعلامات الدهشة ترتسم على وجوهنا، لا أحد يعرف سبب الاجتماع، الجميع يستفسر بذعر، بصوت بالكاد يسمع، لو كان تفتيشاًلكنّا سنتلقى رسالة قبل وقت، لكن على مايبدو إن هناك أمر طارئ.

بعد دقائق خرج المقدّم سمير من مكتبه وطلب منّا الاصطفاف بشكلنظامي، بدأ بتوجيه الشتائم على هندامنا، جنود على حدود إسرائيل نحن وخرجنا لاجتماعٍ طارئ بالشحاطات، البعض منا حتى لم يلبس سترته العسكرية وخرج بالقميص الداخلي، بعد موجة الشتائم التي طالت الجميع وتوجيه بعض الانتقادات للضبّاط قال: «استنفار تام (بديع واحد)»، بديع واحد تعني حالة الجاهزية الكاملة للحرب، اللباس الميداني الكامل مع العتاد وجميع أفراد طاقم الدبابة في مكانه، السائق والرامي والمعمّر والقائد، بالإضافة لبديع واحد الجميع سيحلق شعره على درجة صفر، ممنوع التحرك من الدبابة إلا في الحالات الطارئة إلى أن تنتهي حالة الاستنفار، ممنوع المغادرة من الكتيبة، وأمرنا بالتوجه بسرعة إلى تنفيذ الاستنفار.

ركضنا مذعورين والدهشة على وجوه الجميع، لماذا هذا الاستنفار؟ ما الذي حدث؟ هل سنخوض حرباً مع إسرائيل؟ لا أعتقد، حكومتنا في الواجهة تشتم إسرائيل لكن في الخفاء هم على علاقة جيدة معهم، والدليل على ذلك لم تخرج طلقة من بارودة مقاتل باتجاه إسرائيل منذ ثلاثين عاماً، إذاً لماذا الاستنفار؟

ذهب كل واحد منّا إلى غرفته، وبدأنا نجهّز أنفسنا للاستنفار، اللباس الميداني الكامل، العتاد، بارودة على الكتف، جعبة الطلقات على صدورنا، مطرة ماء على يمين الخصر معلقة بالنطاق العسكري، كيس كبير معلق على الظهر مليء بالمستلزمات اليومية، عدة الحلاقة والطعام والنوم، الخوذة مشدودة على الرأس.

توجهنا إلى الدبابات، وانتشرنا، كل واحد حسب مكانه، توجه علي إلى دبابته التي تقع بجانب سور الكتيبة مع جنود من غرفة أخرى، أنا ووليد وعَذّال وجورج أفراد طاقم دبابة واحدة، كانت دبابتنا رقمها (3/2)، أي الدبابة التي تخرج خلف دبابة قائد السرّية وقت الحرب، كان يمازح عَذّال جورج بعض الأحيان، ويقول له: «سأعمّر لك قذيفة شديدة الانفجار لحظة مسيرنا إلى الحرب، إن خضنا حرباً في يوم من الأيام، وما عليك إلا أن توجهها إلى رأس النقيب حمزة إن أخرج رأسه من الفتحة»، كان يكره النقيب حمزة بشكل كبير ويقول عنه أنه ديوث وشاذ، النقيب حمزة قائد الدبابة السرّية الثانية في الكتيبة، يوم مناوبته في الكتيبة كان على استعداد أن يقبّل يد أي جندي مقابل أن يشتري له زجاجة عرق أو علبة دخان، وصل الأمر به في يوم من الأيام إلى أن يطلب من عَذّال كيلو بندورة ويرسله في مغادرة مدة ثماني وأربعين ساعة إن أحضر له البندورة، كانت نفسه دنيئة، حتى إن وليد قال مرة: «أظن أنك يا شيرو لو طلبت منه أن تنام مع زوجته لقاء زجاجة ويسكي فلن يرفض ذلك، وربما أعطاك المحارم من عنده كي تمسح قضيبك بعد أن تنتهي منها».

قصدنا الدبابة، وجلس كل واحد منّا في مكانه المخصّص، تمدّدت في حجرة السائق وأخرجت علبة سجائري لأمجّ منها ما أريد ولتمجّ مني ما تريد، أخرج عَذّال الراديو من الكيس، وبدأ بالانتقال بين المحطات الإخبارية على أمل أن نفهم ماذا يجري حتى قاموا بهذا الاستنفار.

مرّ عام تقريباً على خدمتنا هنا، ولم نسمع من الجنود أنه تمّت الجاهزية من قبل إلى بديع واحد، جميع محطات الأخبار لا تبثّ شيئاً يصدر القلق أو الريبة، إذاً لماذا الاستنفار؟

منذ يومين ونحن ما عليه، نأكل على ظهر الدبابة، وننام داخلها، لا نخرج من المرآب إلا وقت قضاء الحاجة، الكتيبة في حالة صمت شديد، بعد مرور يومين بدأ عَذّال بالتذمّر وأصبح يطلق الشتائم على اللباس العسكري والخوذة والبوط، رمى خوذته بجانبه على ظهر الدبابة وفكّ رباط البوط ومدّ قدميه على طولها وبدأ يغني أغنيته المعتادة للمطرب موفق بهجت «يا صبحة هات الصينية»، كانت أغنية الاستفزاز زمن الرئيس المرحوم، لكن عَذّال يحب الأغنية؛ لأن اسم حبيبته صبحة، أنا ووليد كنّا مشغولين بحلّ الكلمات المتقاطعة، التسلية المفضّلة لدينا، كل عسكري حين يذهب مغادرة أو بمهمة خارج حدود الكتيبة كنّا نوصيه بأن يمدّنا بالجرائد، أعداد قديمة أو جديدة لا يهم، المهم أن يتوفر لدينا جرائد لحل الكلمات المتقاطعة ومدّها على الطاولة أثناء تناول الطعام، نرمي الجريدة بعد الانتهاء من الكلمات المتقاطعة وتناول الطعام فوقها، لكن من المهم قبل مدّها على طاولة الطعام ألا يكون فيها مقال عن سيادة الرئيس أو صوره وشعارات حزبه، كان من الممكن أن نرميها لو كان فيها مقال مستشهداً بآية قرآنية أو حديث نبوي، لكن من المستحيل أن نرميها وفيها اسم الرئيس أو صورته، الشعارات الدينية لا رقيب لها في وطننا، المهم أن لا يتلطّخ اسم الرئيس وحزبه بالقمامة، نحن مواطنون نعيش في مزرعته، ولا يحقّ لنا غير الهتاف باسمه والتمنيات له بالعمر المديد، نقف ساعات في طوابير على الأفران لنشتري الخبز في دولة منتجة للقمح، الأخبار تقول أن دولتنا تنتج تقريباً خمسة ملايين طنّ من القمح كل عام، تستهلك النصف وتصدّر الباقي، إن كانت الأخبار صحيحة هذا يعني لدينا مخزون كبير من القمح، إذاً لماذا كل هذا الانتظار والازدحام على رغيف الخبز؟ ورغم ذلك نشكر الرئيس على عطاءه ونحمده، إنها معادلة مثلها مثل الميزانية التي ينفقوها على الجيش، كانوا يقولون إنهم ينفقون 85 بالمائة من ميزانية الدولة على الجيش، كنّا نتناول طعامنا على حسابنا الشخصي، طناجر الأرز والبرغل التي كانت تصلنا من مطبخ قيادة اللواء كانت تشبه تلك التي نشاهدها في الأفلام السياسية، حين يعتقلون ناشطاً سياسياً ماذا يطعمونه في السجن كي لا يموت، إذاً أين تذهب ميزانية الجيش إن لم يكن لدينا طعام ودولتنا لم تخض حرباً مع أحد منذ ثلاثين عاماً؟ إجابة السؤال موجودة في ممتلكات الضبّاط رفيعي المستوى، وصفّ الضبّاط من رتبة مساعد أول، أغلبهم كان يرتشي بحجم كرشه، كلّما كان كرشه كبيراً تجده يرتشي أكثر، مساعد الذاتية في قيادة اللواء كان لديه كرش أكبر من طنجرة مطبخ قيادة اللواء، أحد أصدقائنا اقترب من نهاية الخدمة الإلزامية، قبل يومين بدأ بتسليم المعدات والعتاد الخاص، في جرد صندوق العدة الخاص بالدبابة كان ينقصه مفكّ، وسعر المفكّ في السوق لا يتجاوز الخمسين ليرة، لكن حضرة المساعد بدأ يشرح له عن أهمية ذاك المفكّ، وكيف روسيا صنعته خصيصاً لهذه الدبابة، وطلب منه أن يدفع ألف ليرة غرامة مقابل ذاك المفكّ، قلت في نفسي وقتها:«بألف ليرة يستطيع أن يشتري طقم مفكّات كامل لورشة ميكانيك، لكن من المؤكد أنه لن يوقع على ورقة براءة الذمة إن لم يدفع له الألف، ومن المؤكد أكثر أن الألف ليست إلا رشوة ولن يشتري بها مفكّاً».

في يوم من أيام الشتاء لم يبقَ لدينا جرائد لحل الكلمات المتقاطعة، جاءتنا فكرة أنا ووليد في أن نقوم برسم مربّع كبير ورسم مربّعات صغيرة بيضاء وسوداء فيها، ووضع قرائن أفقية وعامودية، وبدأنا بذلك، حين انتهينا من رسم المربّعات التمعت فكرة شيطانية في رأسي واقترحت عليه أن أضع القرائن ويقوم هو بالحل، وافق على الفكرة، بدأت بوضع القرائن الشيطانية التي حامت في مخيلتي، حاولت بقدر الإمكان أن تكون القرائن سخرية سياسية، حين انتهيت منها أعطيتها له، لا شك لدي في ذكاءه، بدأ بقراءة القرائن الأفقية:

رئيس دولة عربية راحل، ديكتاتوري بامتياز.

حاذق – صفة حزينة اكتسبها الشعب السوري في ظل النظام الحالي.

بيت الدجاج – ساقَ الدابة بشدة.

قتل الزاني رمياً بالحجارة – شق أو صدع–دق الشيء أو سحقه.

الملطخ والموسخ – طرد الحيوان.

عملة عربية – من الحيوانات بالجمع.

اسم علم مؤنث (معكوسة) – حُمّى معاودة يومياً تصحب غالباً السلّ الحائر–مَن يسطو غفلة وخفية على متاع الغير.

جمع رهينة – أشاشة (معكوسة).

المنطقة الواصلة بين الرأس والجذع، ويمتلك الرئيس أطولها.

مناسبة يحتفل بها الشعب السوري كل عام على أنها من منجزات الرئيس وليست من حقوقه (بدون ال).

ثم بدأ بالعمودي:

حيوان من صفاته الصبر – جمع ليرة.

متشابهان – أمر سلبي يعاقب عليه القانون.

حاد الإدراك – حبسه ومنعه عنه.

حجر مضرّس، له حد كحدّ السكين – فاعل من أهدأ.

اسم حيوان يستخدمه شعب الساحل السوري بشكل دائم – غضبان (معكوسة).

دولة عربية كانت محتلة من دولة عربية شقيقة بشكل غير رسمي – ملكي.

متشابهان – أفسد بين القوم – حيوان أليف (معكوسة).

المنتقض أو المنتكس – البارد من كل شيء.

رئيس دولة عربية (معكوسة).

قطع طرف أو جزء منه جراحياً – فاعل من قَهَرَ.

حين بدأ بالحل تغيّر لون وجهه من الأشقر إلى الزهري، بعد قليل صار لونه أحمر، إلى أن اقترب من النهاية كان لونه كما لو أن الدم انحصر في رأسه، تبدّل إلى اللون الأحمر الداكن وتصاعدت أنفاسه بشدة حين انتهى وقال:«هيا بنا لنحرقهابسرعة»، ولأن الحرق ربما لايكفي لورقة مثل هذه قمنا بحفر حفرة صغيرة، وضعنا الورقة فيها وأضرمنا النار، بعد أن انطفأت النار رمينا التراب فوقها، فتح سحاب بنطاله وتبوّل على مكان الحفرة، عدنا إلى الغرفة، وبدأ يشتمني على أمسية كانت من الممكن أن تأخذنا إلى حبل المشنقة لو دخل أحد الضبّاط علينا وهو يقوم بحلها.

بعد أن انتهى من أغنيته، بدأت الموسيقى الخاصة به حينما يكون مرهقاً (الشخير)، سمعنا صوت شخيره المؤذي لآذاننا، دخل المقدّم سمير إلى المرآب وبيده جريدة ملفوفة ومعه بعض الضبّاط، وبما أن عَذّال كان من الصعب جداً إيقاظه، وكنّا أنا وجورج ووليد في حالة فوضى في لباسنا وعتادنا توقفنا في استعداد للتحية بسرعة ونحن نحاول ترتيب أنفسنا، توقف سيادته أمام الدبابة وبدأ بالتحديق فينا، سأل عن عَذّال، بدأنا نحدق في أعين بعضنا صامتين لا نملك الإجابة، لأن الإجابة ستظهر من تلقاء نفسها حين يقترب المقدّم أكثر من الدبابة ويرهف سمعه قليلاً، لكن الصمت لم يدم أكثر من بضع ثوان حتى صرخ بصوت عالٍ:«أين هو عَذّال»، لكن لا ندري كيف سمع عَذّال صوته وقال من خلف الدبابة:

أنا هنا سيدي.

تعال إلى هنا يا حيوان.(قالها غاضباً).

قفز عَذّال من على ظهر الدبابة وتوجه إليه، وقف باستعداد أمامه وقال له:

سيدي أشعر بحرارة عالية.

فتح المقدّم سمير الجريدة التي في يده ونظر إليها، وبدأ ينقل نظره من الجريدة إلى عَذّال، كما لو أنه يقارن بينه وبين صورة، بعد مرور لحظات قال المقدّم سمير لعَذّال غاضباً:

هل كان لديك نوبة حراسة في تاريخ السابع عشر من نيسان؟

لا أذكر غير تاريخ آخر إجازة سيدي.

قالها باستهزاء كما لو أنه يذكره بأن موعد الإجازة اقترب.

يا حيوان أنا أسألك عن هذا التاريخ؛ لأننا نحتفل فيه بذكرى عيد الجلاء، وليست بالمهمة الصعبة أن تقول لي هل كان لديك نوبة حراسة في يوم عيد الجلاء أم لا.

وقف عَذّال صامتاً للحظات مجيباً:

لا أذكر سيدي.

مدّالمقدّم سمير الجريدة إلى النقيب حمزة الذي كان يقف بجانبه وقال له كلاماً لم نستطع أن نفهم منه شيئاً، لكن النقيب بدأ بالتدقيق بالجريدة وفي وجه عَذّال، كما لو أن صورة تشبه صورته في الجريدة، ويريدون التأكد من أنه هو أم لا، لكن الجريدة كانت ليست محلية، إنها تركية بلا شك، مكتوب (SABAH)، ومن الأسفل علم تركيا باللون الأحمر، ما القصة ياترى؟هل عَذّال يعمل لصالح جهة تركية؟ بدأنا نحدّق في أعين بعضنا البعض أنا وجورج ووليد، وإشارات الاستفهام تحول من حولنا من غرابة الموقف، بعد أن انتهى النقيب من التدقيق، همس للمقدم سمير كلاماً غير مفهوم، ويحرك رأسه بالنفي، قال المقدّم سمير بصوت غاضب:«نحن في حالة استنفار، إياكم ثم إياكم أن أجدكم في هذا المظهر مرة أخرى».

ذهبوا ورموا في حوزتنا وحوزة عَذّال آلاف الأسئلة، ما هي قصة الجريدة التركية؟ ولماذا عَذّال؟ بدأنا نتحدث معه، لكنه بنفسه أقسم أنه لا يعرف أيّ شيء، وبدأ يسخر ويقول:«ربما كاميرا الحدود التقطت صورة أحد الجنود وهو يشبهني ويريدون التأكد من هويته، أنا لست خائفاً؛ فأعرف نفسي جيداً أنني لم أتجاوز حدود الكتيبة غير وقت مغادرتي إلى دير الزور»، عاد وتمدّد على ظهر الدبابة، وانطلق من جديد يدندن أغنيته «يا صبحة هات الصينية».

مرّت عشرة أيام ولا جديد، الدبابة هي مكان إقامتنا، الضبّاط في دوريات بالعتاد الكامل في جميع أنحاء الكتيبة، يتفقّدون العناصر والجاهزية، رؤوسهم تبدّلت لونها إلى الأسود من الشمس، جميع أفراد اللواء من ضبّاط وصفّ ضبّاط وجنود ومجنّدين حليقة رؤوسهم، لكن الجنود محظوظين هذه المرة، يجلسون في الدبابة داخل المرآب، لا توجد شمس معلقة فوقهم ليتبدّل لونهم، بينما كنّا جالسين في أماكننا سمعنا صوت مجموعة تقترب من المرآب، مددت رأسي من فتحة السائق، وجدتالمقدّم سمير مع بعض الضبّاط وثلاثة أشخاص باللباس المدني، كما لو أنهم من المخابرات يتجهون إلينا، أخبرت أصدقائي بذلك، دخلوا إلى المرآب وصرخ المقدم سمير بأعلى صوته:«عَذّال تعال إلى هنا»، لحظتها شعرنا كما لو أن هناك مصيبة كبيرة ستحصل معه، قفز عَذّال من الدبابة وتوجه إلى الضبّاط، أدّى التحية ووقف باستعداد، كانت نفس الجريدة بيد إحدى الأشخاص المدنيين، طويل القامة، حليق الذقن، عيون مفترسة، شفاه غليظة، شامة على طرف خده الأيمن، بدأ يدقّق في وجه عَذّال والجريدة، قتلني الفضول لحظتها لأعرف ماذا في الجريدة، صمت الرجل للحظات ثم طلب من المقدّم سمير أن يجمع أصدقاء عَذّال في الغرفة، أرسل المقدّم سمير جورج خلف علي ليأتي إلى غرفتنا، وطلب منّا أن نذهب إلى الغرفة، اجتمع الضبّاط مع المدنيين في الغرفة، بدأوا بالتدقيق في كل شيء موجود في الغرفة، كما لو أنهم يبحثون عن شيء معيّن، بعد دقائق دخل علي وجورج إلى الغرفة، أدّوا التحية ووقفوا باستعداد بجانبنا، كما لو أننا متهمون بشيء لا نعرفه، الحيرة والخوف مرتسمة على وجوهنا، قال الرجل المدني:

أين تضعون الشحاطات؟

كل واحد لديه شحاطة خاصة سيدي،ونضعها أسفل الأسرّة.

جاوبه وليد بخوف وحذر.

أخرجوها جميعاً، وإن كان هناك راديو في الغرفة أخرجوه أيضاً.

أخرجنا الشحاطات بغرابة أكثر، ما علاقة الشحاطة في الاستنفار؟ ما علاقة الشحاطة بالجريدة؟ ما علاقتها بحرب كانت طوال حياتها مع البعث وهماً بوهم؟كنّا نملك ثلاثة أجهزة راديو في الغرفة، واحدة خاصة بعَذّال يصحبها معه إلى المحرس في نوبة الحراسة، لأنه والنظام في نوبة الحراسة خطّان متوازيان، كان من المستحيل أن يجلس في المحرس بشكلٍ نظامي، يضع الراديو بجانبه مع إبريق شاي، يشربه وهو يستمع إلى الراديو إلى أن تنتهي نوبته، أخرجنا الشحاطات وأجهزة الراديو، مسك الرجل بالراديو الخاص بعَذّال، وبدأ يدقّق فيها وينقل نظره بين الراديو والجريدة، طلب من عَذّال أن يلبس شحاطته ويجلس على السرير كما لو أنه يجلس على حجر، جلس عَذّال على السرير كما طُلِب منه، وضع الرجل الراديو بجانب عَذّال من الطرف الأيمن وتراجع عدة خطوات إلى الخلف، مدّ يده وبدأ يدقق في الجريدة وبشكل عَذّال، بعد لحظات قال للرجال الآخرين وللمقدّم سمير: «إنه هو».

إنه هو، كلمتان كانتا كافيتين لترسما علامات الذعر على وجوهنا، وبالأخص وجه عَذّال، طلب الرجل منّا أن نقترب ونتأكد إن كان صاحب الصورة عَذّال أم لا؟حين رأيت الصورة في الجريدة كانت صورة عَذّال بلا شك، لكن قلت للرجل:«لا أستطيع التمييز إن كان عَذّال أم شخص آخر»، وليد وجورج وعلي أيضاً لم يؤكدا إن كانت الصورة صورة عَذّال أم شبيهه، لكن في الحقيقة هي صورته، نعرف عَذّال تماماً كيف يجلس في المحرس في أيام الصيف، لا يلبس البوط لأن الطقس حار ويضع الراديو وإبريق الشاي بجانبه، لكن الرجل لم يهتم لشهادتنا وقال:«أعرف أنكم تدركون خطورة الأمر؛ لهذا السبب لن تعترفوا على صديقكم»، وقف عَذّال وقال:«سيدي أمر ماذا؟»، صرخ الرجل بغضب:

اسكت يا حيوان، من أجل إهمالك الدولة كلها مستنفرة.

سيدي إهمال ماذا؟ وأيّ دولة؟ وما الذي فعلته؟ (كان الخوف والدهشة يتحاربان في صوته ونظرته وتوتره).

قلت لك اخرس يا حيوان، في الفرع سنقوم بتربيتك أيها الخنزير.

وطلب من الرجلين الواقفين خلفه أن يقيّدوه. قيّد الرجال يدي عَذّال وهم يشتمونه ويقولون:

«أيام ونحن نبحث عن صاحب الصورة، تريد الخروج إلى نوبة الحراسة بالشحاطة مع إبريق شاي وراديو، في الفرع سنعلمك كيف تقضي اليوم بأكمله على قدميك واقفاً باستعداد».

أخذوا عَذّال وخرجوا، ذهبنا إلى مكتب المقدّم سمير بعد أن تأكدنا من ذهاب عناصر الأمن من الكتيبة، دخلنا إلى مكتبه لنستفسر عن سرّ الصورة، «كما تعرفون، إن الدخول إلى مدينة القنيطرة تتطلب هوية من مواليد المنطقة، أو بتصريح أمني من المخابرات، وفي السابع عشر من نيسان، كل عام في عيد الجلاء يسمح لجميع الناس بالدخول إليها، حتى السواح، لا حواجز للمخابرات ولا أحد يسأل من أين هو، ومن بين الناس الذين أتوا لزيارة القنيطرة كان هناك مجموعة من السائحين الأتراك، مرّ الباص الخاص بهم من أمام كتيبتنا، كان هناك صحفي في الباص من جريدة (صباح) التركية ومعه كاميرته الخاصة، لحظة مروره أمام الكتيبة كان عَذّال جالساً أمام محرس الباب الرئيسي للكتيبة، مسنداً البارودة إلى صخرة بجانبه وإبريق الشاي والراديو وهو يلبس الشحاطة، والصحفي التقط صورته، وحين عاد إلى بلده قام بكتابة مقالة عن زيارته لمدينة القنيطرة المحرّرة والصورة التي التقطها لعَذّال أسفل المقالة، وعنوان المقالة «هكذا سيحرّر السوريون الجولان»، راسماً دائرة حمراء حول شحاطة عَذّال وهو باللباس العسكري.

لو علم الصحفي أن قائد كتيبتنا يلبس الشورط أثناء الدوام الرسمي، لالتقط صورة له ووضعها في جميع الصحف والمجلات وكتب مقالة عنه: «هكذا الضبّاط السوريون سيدمّرون البلد»، بلا شك.

عَذّال يلبس الشحاطة أثناء نوبة الحرس، والمقدّم سمير على علم بذلك، لكن بما إن قائد الوطن فاسد ولا يعرف أن يلفظ حرف السين الموجود في اسم البلد، تأكدوا أننا لن نتعلم أن نلفظ حرف الحاء في كلمة «حقوقنا».


__________________

الرواية صادرة عن دار ببلومانيا في القاهرة سنة 2021. 


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم