اللهم احفظ لي ما تبقى من الحمورية، وأنا في هيئة البشر

جمعتُ أول حفنة من حبات المشمش الصغيرة وحبات اللوز الأصغر. ستفرح لوزية وتسمّي باسم اللـه وتصلي على النبي، وسنة مباركة قبل أن تمصمص حبة عقابية أو حبة لوز. سوف تقرط وتموء مطبقة شفتيها، وبعد أن تبلع ستشكو وتحمد في آن معاً الطعم الحامض اللذيذ المخرش.

لكن لوزية لم تحضر، ولم تتصل. واضطرب كارم، وكتم اضطرابه حتى أعجزه فتفاقم، وما عاد ينقصه إلا أن تتصل منصورة وتطلب حضوره فوراً: لوزية عندي.

كانت لوزية ضائعة وسط السرير في المخدع الزوجي، كما يسمي غالي غرفة النوم. كان خد لوزية بلون الشمع، وابتسامتها ذابلة ومنهكة.

انتحت منصورة بكارم في المطبخ وهمست:

  • لوزية كانت حامل، وأجهضت هذا الصباح. استحلفتني بألف يمين على الّا أخبرك. كانت تريد أن يبقى الأمر سراً بيننا. اعترض غالي ثم رضخ. وأنا أيضاً اعترضت ثم رضخت، ولكن عندما رأيتها تضعف خفت واتصلت بك.

خرس كارم، ولم ينفك خروسه حتى عاد ولوزية إلى نيبالين.

كانت لوزية قد غادرت السرير كأنها لا تشكو من شيء، بعد وصوله بقليل. وتمنى كارم أن يتأخر غالي في العودة إلى البيت، فتأخر. تمنى لو يسعه الدخول مع لوزية إلى بيتها فلا يغادره حتى تغفو. لكنه رأى نفسه فجأة وحيداً أمام بوابة الحديقة. ولما رأى من بعيد الشجرة التي قطف منها حبات اللوز والشجرة التي قطف منها حبات المشمش، أحس بالغصة. لفّت الوحشة الحديقة، كما ستلف البيت، وكارم يفكر في أنه نجا من خطر عظيم، بل إنه هو من أجهض، وليس لوزية. كارم لم يفكر يوماً بأن يكون أباً. بل فكرّ في شبابه بألا يكون أباً، إخلاصاً لما يعدّه أصله الحميري. ولأول مرة يحمل، مثله مثل لوزية. هو أيضاً حمل، ونقلته منصورة البارحة إلى عيادة صديقتها الدكتورة، ما اسم الدكتورة التي أجهضته كما أجهضت لوزية؟

ولكن لماذا أرادت لوزية أن تخفي عنه الأمر كله؟ أليس لتجنبه أية مسئولية كما فسّرت منصورة؟ لوزية التي لم تحمل من قبل، لم تجهض من قبل، ها هي تعفي كارم من المسئولية، ولكن من يعفيه من هذا الإحساس الموجع والمتفاقم بالذنب؟

كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بعد الظهر عندما ارتمى على الكنبة وحدق في شاشة التيليفزيون المعتمة. أضاءت الشاشة وإذا بالمذيع الذي يقسم كارم على أنه من الإخوان المسلمين، يبكي، بل يجهش في البكاء، ويده ترتعش، والورقة التي في يده ترتعش، وصوته يرتعش: مات والد السوريين، مات أسد الأمة العربية، مات.. من الذي مات؟

سيظل كارم يردد السؤال كلما ألقمته الشاشة جواباً. كان مرة يعتذر: أنا حمار، ويكرر السؤال. ومرة يقسم باللـه: أنا حمار، ويكرر السؤال. وسيصحو من سباته التيليفزيوني على صوت الرصاص يصل نهار نيبالين بليلها بوابل فوابل، والمآذن تصدح بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وحده.

مختاراً ومكرهاً في آن معاً يُسْلمٍ كارم نفسه إلى ما يشبه المتاهة، يتساءل عن الموت التيليفزيوني: هل حلّ محل الموت الحقيقي؟ هل يظل الميتُ تيليفزيونياً حياً؟ هل يظل الميت المدفون في باطن الأرض حياً تيليفزيونياً؟

أمسك السؤال الأخير بخناقه، ولم يحرره حتى سلّم بأن جمال عبد الناصر لا يزال حياً، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، إسحاق رابين، أنور السادات، باسل الأسد، جميعاً لا يزالون أحياء. أما من قضوا في السجون أو المنافي، أما من قُتِلوا في حماة أو اغتيلوا في أنحاء سوريا فهم أموات، وشبعوا موتاً، لأن التيلفزيون لا يحييهم، وبالتالي لن تحييهم صورة فوتوغرافية أو ما يعادلها، لا فردية ولا جماعية، مثلهم كمثل كل من سبق عصر التليفزيون!

في لحظة أخرى من لحظات المتاهة سمع صوتاً يسأله ساخراً: ألم يمسّك هذا الموت اليوم شخصياً كما مسّك اختفاء أمك أو موت أبيك أو موت جمال عبد الناصر أو ...؟ وقهقه الصوت ممعناً في السخرية قبل أن يتابع: لماذا لا يمسّك الموت شخصياً إلا إذا كان الميت رئيساً؟ ردّ كارم بحزم: أبي ليس رئيساً، أمي ليست رئيسة، فقهقه الصوت عالياً جداً هذه المرة حتى كاد صاحبه أن ينفلق، فأغلق كارم أذنيه، وتبعتهما عيناه دون إذن منه، ولبث لا نائماً ولا صاحياً. ولعله كان سيظل كذلك إلى أمدٍ غير معلوم لولا أن الليل انطوى، وأنفاسه تنسّمت في الضحى عطراً لا يأسره اسمٌ ولا عادة.

كان وجه لوزية أقل شحوباً منه أمس. وأصابها بالهلع ما رأت من كارم: لكأنه لم يحلق ذقنه منذ أسبوع، لكأنه فقد من وزنه ما جعل خديه يغوران، لكأنه لم يغمض عينيه منذ ليال، صوته لا يُسمع وشفتاه ترتعشان.

متوكئاً على كتف لوزية جرّ قدميه إلى السرير وغطس في نوم ليس بنوم. عادت لوزية إلى الكنبة التي كان مكوَّماً عليها، واستنجدت بالتليفزيون على وهنها من الإجهاض وقلقها على كارم.

لم تكن قد تابعت منذ الأمس غير نُتَف عن موت الرئيس. وفكرت أن ما تراه الآن كانت قد رأته يوم مات ابن الرئيس: رايات سود، أعلام منكسة، كاميرا تنتحب، أسواق مغلقه، أجفان ورّمها السهد والبكاء، عيون قلقة، تلاوات من القرآن، برقيات، ورئيس جديد، وصور لا تنتهي للرئيس الميت: بالبذلة العسكرية وبالبذلة المدنية، شاباً، عجوزاً، يضحك، يرفع يديه محيياً الحشود التي تهتف له.

إنه الآن: القائد الخالد!

تُعِدُّ لوزية شوربة الخضار، واشربْ يا كارم. لكن كارم يرتجف من البردية، فتضع فوق لحافه لحافاً. وبعد وصلة تيليفزيونية طويلة تُعِدُّ كأساً مما تحلف أنه خلطتها لسائر العلل: البابونج والزعتر والزنجبيل والعسل وأعشاب وزهور أخرى لا علم لأحد بها إلا لوزية، واشربْ يا كارم. وكارم الذي تدفأ حتى بلّله العرق، غاطس في نوم عميق وقد انتظمت أنفاسه، وفكّ جبينُه عُقدته.

كان السرير قد رماه من سطوع الضحى في جوف عتمة. وطال به المقام أياماً وليالي، وربما شهوراً وسنيناً إلى أن عاد الضحى يسطع، وانزجّ كارم بين الآلاف المؤلفة التي تستقبل الرئيس قبل ثلاثين سنة في مكان غير معلوم، فيه من ساحة المرجة شبه، ومن ساحة الساعة في حمص وساحة سعد اللـه الجابري في حلب، شبه. ورأى كارم سيارة الرئيس تتوقف، وذراعاه هو تتصلبان وتصيران حديداً مثل آلاف الأذرع التي ستحمل سيارة الرئيس كما حملت سيارة جمال عبد الناصر. صارت السيارة مثل ريشة تتمايل، والرئيس، أين الرئيس؟

كان كارم شاباً ذا مشفرين مثل مشفري الحمار، وذا أذنين طويلتين مثل أذني الحمار، وكان صوته في الهتافات الداوية مثل نهيق الحمار. وطالت الفرحة بفوز الرئيس في الاستفتاء مرة، وبشفائه من المرض مرة، قبل أن يرمي السرير بكارم من سطوع الضحى إلى جوف بئر بلا قرار. وظل يتطوح في البئر حتى عاد الضحى يسطع، وانتقل السرير من نيبالين إلى غرفة إياد شمّوحي في البناية المقابلة للمدرسة في الأزبكية. وتقاسما السرير، وما كاد كارم يغفو على شخير إياد حتى انقذفت الغرفة في كازية، والكازية في المدرسة، والمدرسة في البناية، والبناية في جوف بئر بلا قرار، ولكن عالياً في السماء، وليس سافلاً في الأرض.

عندما صحا كارم من الكابوس كان إياد يتحدث عن سيارة هوندا مفخخة وعن مئات القتلى ومئات الجرحى، وعن الإخوان المسلمين وعن حزب البعث العراقي: كيف نجا كارم إذن من الموت المحقق؟

هذه المرة لم يسطع الضحى ولم تسطع الظهيرة، بل أطبقت العتمة على بقية النهار، ونطق كارم بالشهادتين استعداداً لملاقاة وجه ربه.

بانتظار سيدنا عزرائيل أخذ كارم يقلّب في حياته القصيرة والفقيرة، ورأى نفسه عسكرياً في الحرس الجمهوري، اسمه حامد، ولقبه الأول ابن المختار، ولقبه الثاني شقيق زلفى. رأى كارم الرئيسَ نازلاً على الدرج أو صاعداً، يتبعه مرافقه، وخلف المرافق كارم، وأمام الرئيس عساكر من الحرس ينبق من بينهم عبد الحميد الدامور الذي يلقي قنبلة صوب الرئيس أو عليه، ثم يلقي قنبلة صوب الرئيس أو عليه، ويبطح المرافقُ الرئيسَ وينبطح فوقه قبل أن تنفجر قنبلة، أو بعدما انفجرت الأولى، ويختفي عبد الحميد الدامور ومعه حامد ابن المختار وشقيق زلفى، ويتأهب كارم لملاقاة سيدنا عزرائيل.

غير أن والد كارم يعود إلى الحياة أوفر شباباً من كارم. يتعجب كارم من أن والده يرتدي بزة عسكرية فرنسية، ويخيّل إليه أنه يقول متباهياً: أنا في حراسة السيد رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني([1]). يشفق كارم على أبيه من الجنون. لكن الأب المقيم في عالم الموت، أو القادم منه، يخاطب ابنه: أنا خدمت الرئيس السوري الأول الذي مات وهو رئيس، وأنت خدمت الرئيس الثاني الذي مات وهو رئيس. يسأل كارم على الرغم من أنه تيقّن من جنون والده: والبقية يا أبي؟ قال الميت وقد تخلى عن لباسه العسكري وظهر في لباس حكيمٍ مسنّ: ما من رئيس سوري عسكري يا ابني يا كارم رأى خَلَفه العسكري رئيساً. كيف يا أبي؟ سأل كارم، لكنّ أيدٍ انتزعته من السرير، وأيدٍ رمته في زنزانة، وأرجلاً ظلت ترفسه حتى ارتمى غالي بجانبه مدمّى. وبالكاد استطاع كارم أن يقول وهو يبكي: أنت يا غالي معارض، أنا ما ذنبي؟ قال غالي: لأنك لست معارضاً ولا موالياً، وأخرستْ غالي رفسة بوط، بينما هوى بوط على فم كارم وأنفه، وظل يضغط حتى جاء سيدنا عزرائيل واسترجع الأمانة.

مسحت لوزية العرق عن جبين كارم آخر مرة بعد المغيب بقليل. كانت الحيرة قد أخذت تثقل عليها منذ العصر: إذا لم يتعاف فكيف تتركه وحده؟ هل تبيت هنا ليلتها الأولى وهو مريض؟ ليس هذا ما كانت تحلم به في نهاية السهرات القليلة التي قضتها هنا. كان يعيدها إلى البيت هو أو غالي، وكانت أمها تكتفي بالنظرة اللائمة التي تبدلت البارحة. نظرة البارحة لم تكن لائمة، كانت اتهامية، لكأنها اكتشفت أن لوزية العاقلة المكافحة المتعلمة قد أغضبت اللـه، وأغضبت أباها الذي أفسدها بدلاله، فحملت سفاحاً، وأجهضت، كأنْ لم يكفها ما لاكته الألسن سنوات عن خدمتها في بيت الأستاذ العازب كارم أسعد.

في السنين الأولى لترمّل لوزية، ما أكثر ما رددت أمها متحسرة: لو أن اللـه أنعم عليك بولد، لو أن اللـه يرسل لك ابن حلال، لو أن اللـه يهديك فترضين بمن يتقدمون إليك. وكما سألت لوزية نفسها مراراً، كانت على يقين من أن أمها أيضاً تسأل: لماذا كارم؟ الحب فضّاح. لماذا حب بلا زواج؟ وحين تأخرت الدورة على لوزية، ثم تأكد الحمل، حلّت منصورة محل أمها: لماذا حب بلا زواج؟ ويتفتق السؤال: لأن كارم لا يريد زواجاً؟ طيب. إذا كان هو لا يريد أن ينجب، فماذا عن التي جاء حملها معجزة، وربما لن تتكرر؟

تصادت في ليل نيبالين أهزوجة حمارين معاً لأول مرة منذ سنين. تنفس كارم الصعداء، وأحّس برأسه يصفو من خبال، ورأى لوزية تقبل في غلالة شفيفة وقد انتفخ بطنها. حدّق طويلاً وعميقاً في البطن الذي كانت كفّ لوزية تمسد عليها: ها هنا ابنك يا كارم. هذا ليس ابنك يا حمار. هذا أنسيّ ابن أنسيّ، ولوزية لم تضاجع أحداً في رملتها سواك. لماذا أوقعك هذا البطن المنتفخ من السماء السابعة إلى الأرض السابعة، فكاد قميصك البشري أن يبلى لولا لوزية؟ أنت الآن على البرزخ يا كارم. أنت على البرزخ يا حمار. أنت تحب لوزية ولوزية تحبك. هل يكون الحب هو البرزخ؟ مع لوزية لن تعود إلى حموريتك. إذا تقمصتَ بعد لوزية فلن تعود حماراً. بعد لوزية لن يكون لك إلا بشريتك.

لكنني أجهضت: اقترب صوت لوزية فعاد بكارم إلى المتاهة: صوتٌ متفجّع هو، صوت أمٍّ هو، صوت الغفران هو، صوت الحب، قلْ ولا تبال: صوت الجنس هو، فلولا الجنس أنّى للوزية أن تكون أماً، أما أنت، فلك أن تكون أباً، سواء كنت حماراً أم إنساناً، لو أن ..

وكانت المتاهة ستضيّع كارم لولا أنْ رأى، كما في المنام، لوزية على الكرسي الملاصق للسرير، قد أثقل النعاس أجفانها، بينما نامت يمناها على المخدة. وكما في المنام مال برأسه حتى لامست شفتاه أصابع لوزية، وبدلاً من أن تقبل الأصابع راحت ترضعها. وكما في المنام اندغمت لوزية في حضنه، وقبلت خديه وجبينه، وراحت تهدهد له حتى أغفى.

تطاول المنام كأنه غير منقضٍ، وإن تكن لوزية قد فتحت عينيها ولم تصدق أنها نامت ليلتها في حضن كارم. ولم يصدق كارم أنه نجا من خطر عظيم، كلما لامس بطن لوزية.

في المكتبة شربا قهوة الصباح، وكان صوت التيليفزيون يقتحم خلوتهما بكلمات وهتافات مبهمة، وحين يتخافت يتنفس كارم عميقاً. وفي سائر الأحوال كان يهرب من نظرات لوزية التي ما كادت تنهي فنجان القهوة حتى لملمت الأوراق المفلوشة على المكتب آمرة:

  • ابدأ بالعمل. كفى دلالاً.

وخرجت، وطال غيابها.

تفاقم عجز كارم عن أي عمل. كان مشتتاً وخائر النفس والقوى. وحين عادت تسأله عما تهيئ له على الغداء، تمنى لو أنها تغادره فوراً، فلا تعود حتى يناديها. وفكر في أنه لن يناديها غداً، ولا بعد غد، بل قد لا يناديها خلال شهر. وفوجئ بلسانه يرجوها أن تُخرِس التيليفزيون، ويذكّرها بأمها التي لا يعلم إلا اللـه كيف قضت الليل. ثم وعدها لسانه بغداء لا أشهى ولا أطيب: أنت ما عليك إلا أن تختاري.

أمام صمتها وابتسامتها اللاغزة لجأ إلى الهاتف، واستنجد بغالي. خرجت لوزية، وطال غيابها من جديد حتى حضر غالي. كانت الشمس تغرب، وقبل أن يجلس عاد بلوزية إلى أمها. ولما انفرد بي انهمر:

  • ما طاب لك أن تمرض إلا في هذه الأيام؟ هذه أيام تاريخية يا عزيزي. ليس في المدينة موطئ قدم لك. الأتوستراد تحوّل إلى شارع من زحام. أراهن على أن نصف سوريا وربع لبنان جاءوا يودعون حافظ الأسد، وأنت يا مسكين، ما الذي رماك هذه الرمية؟

بمشقة استطعت أن أقول:

  • اجتمع عليّ إجهاض لوزية وموت حافظ الأسد.
  • الموت إذن. الإجهاض ما هو؟ موت أيضاً. انس لوزية الآن وخلّنا بموت حافظ الأسد. كأنك أقل اهتماماً به من موت ابنه. هل تذكر كلامك يومها؟ ألم تجرفك الفرجة هذه المرة؟ ألم يجرفك القطيع؟ ألم يمسّك الموت شخصياً؟ كيف استطعت أن تبتعد عن التيلفزيون لحظة؟ أنا لم أكتف بالتيلفزيون. درت في الشوارع، درت في الحارات، هل تظن أن كل ما في الناس هو الحزن؟ لا، ليس الحزن وحده. قل: الخوف أيضاً. بل من الناس من يلمع الفرح في عيونهم. الشماتة تلمع أيضاً. كم هو عمر هذه الدولة التي اسمها سوريا؟ ثمانون سنة بعدما انزاح كابوس العثمانيين؟ ثلاثون سنة منها لحافظ الأسد. هل تعرف ما معنى ذلك؟
  • ناشدته باللـه أن يلتقط أنفاسه، فصمت قليلاً وهو يتنقل بين قنوات التيلفزيون، وقلت:
  • أنت مازلت مسكوناً بالثأر لسنوات سجنك.

فعاد ينهمر:

  • هذا صحيح. وكلما ترّمد الثأر أنفخ في جمره. هذا حقي. تريدون أن أنسى وأقول عفا اللـه عما مضى؟
  • لا ينبغي للثأر أن يحكم المستقبل. هذا ليس سياسة وأنت تتحدث في السياسة.
  • سلّم لي على غاندي يا أبو غاندي.
  • هكذا قلت لي يوم موت باسل الأسد.

وصل غالي الليل بالنهار بالحماسة نفسها، لا يسكت إلا ليأخذ جرعة من التيليفزيون. وكنت مثله مشدوهاً منذ رأيتهم يتسابقون إلى العزاء وإلى التهنئة: الرئيس الفرنسي والملك الأردني والرئيس الإيراني والرئيس اللبناني والرئيس الفلسطيني والرئيس التركي والرئيس السوداني والأمير الكويتي والأمير السعودي والوزيرة الأمريكية والوزير البريطاني... ولما ظهر الرئيس المصري صفق غالي وخبط بحذائه على البلاط قائلاً: وهذا بدأ يحضّر ابنه ليرث العرش. ولما ظهر الرئيس اليمني صفّق غالي وصاح: وهذا بدأ يحضّر ابنه. قلت: في العراق يحضّر الرئيس ابنه، في ليبيا يحضّر الأخ القائد ابنه.

ولما بدأت صورهم ورسائلهم وأصواتهم تتسابق نسيتُ الملوك والرؤساء والوزراء، وكان طلال حيدر أولهم: يا شام/ يا شام/ لما الأسد بينام/ بتيتّمْ الأيام. وقال: /قللو الأسد للموت ما عندي وقت/ خليك ناطرني على باب الزمان([2]).

ربما أخذتني غفوة عميقة. ربما كانت إغماء. ولما أفقت أو صحوت كان غالي قد انتقل إلى قناة أخرى، وإذا بسميح القاسم([3]) ينشد: أسد العروبة هل تغادر ساحها/ وعلى التخوم فرنجةٌ ومغول/ واحافظاه تصيح جولانية/ ويعاهد التكبير والتهليل.

شتم غالي سميح القاسم وقال:

  • عندما يسقط اليساري يبدع في السقوط. عندما يسقط المقاوم يبدع في السقوط.
  • ونهض. قلت:
  • يا غالي يا صديقي: من حق سميح القاسم أن يكتب ما يشاء حتى لو تناقضَ مع نفسه. ما لا يعجبك اليوم منه لا يلغي تاريخه ولا يقلل من قيمة ما كتبه وأعجبك من قبل. هذا هو تاريخ الأدب والفن والفكر.

نظر إليّ مستهجناً، ونظر مشفقاً، وأخذ يحوص في الصالون، ويبربر، ثم وقف أمامي، وأخرج من إحدى جيوبه قصاصة وقرأ منها:

  • ما كان ينقصنا إلا محمـد مهدي الجواهري: إذا رثيتك بحر الشعر يحتار/ وإن مدحتك أي الحرف أختار/ يا قائد العرب يا عنوان أمتنا/ يا سرَّ نصرٍ مبين أنت أسرار / وإن رحلت فلم ترحل طيوفك بل/ طريقك الآن يمشي فيه بشار.
  • ورماني بنظرة تقدح شرراً، وعاد إلى القصاصة يقرأ:
  • ما كان ينقصنا إلا جوزيف حرب: يا أم حافظٍ يا سورية اتقدتْ/ عيناك جمراً على الخدين ينسبل/ مدي يديك لبشار انهضي معه/ يصير أقلَّ دموعاً عندك الثكلُ.

وهدر غالي والورقة ترجف بين أصابعه:

  • جوزيف حرب أيضاً من غنت فيروز له: زعلي طوّل أنا وياك، لّما ع بالباب يا حبيبي بنتودع، إسوارة العروس مشغولة بالدهب.. انس سقوط اليساري أو المقاوم. عندما يسقط الشاعر أو الكاتب أو الفنان أو المفكر، صدقني يبدع في السقوط. لا فرق بين يساري ويميني وبين بين.
  • واندفع إلى الخارج، وقررت أن أذهب إلى السرير راجياً من اللـه أن يحفظ لي ما تبقى من الحمورية وأنا في هيئة البشر. ولطم سمعي فجأة صوت محرك سيارة غالي.



[1] 1885- 1943.، وهو ثاني رئيس للجمهورية السورية من 16/9/1941 حتى وفاته.

[2] هو الشاعر اللبناني الذي غنّت له فيروز: وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان، وغنّت له: يا راعي القصب مبحوح جايي ع بالي شروقي. وغنى له مرسيل خليفة: قومي اطلعي عالبال، كما غنى لطلال حيدر كل من ماجدة الرومي ووديع الصافي وأميمة خليل أغنية: لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت ميننْ هننّ. 

[3] للشاعر الفلسطيني 1939-2014.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم