كنت أغرقُ في حديثِ محفوظ، لا أعرف كيف حملني من عصري إلى عصره، وهل هما عصران متقابلان أم عصر واحد؟ كدتُ أكتب تقريرا عن "عصر محفوظ"، بقيت أسئلة كثيرة تحفر في ذهني، من هو غْيُوم؟ من هي بُدور؟ من أين جاء محفوظ وإلى أين يتّجه؟ ثمّ إنّ مديحَهُ للشّيطان كان أكثر شيء هزّني، هل يُعقل أن يكون للشّيطان حُلفاء بهذه الطّيبة؟ صرتُ أشكّ أنّي أجالس إنسيّا، تدافعت الأسئلة وتلاحقت، وكنتُ على ثقة أنّ الوقت الذي بين يديّ لا يفي بشيء، احتلّني الخوف، خشيتُ أن ينتهي هذا اللّقاء، وكان عليّ أن أسحب سؤالا يورّطه في الكلام، راح يعبثُ بأوراق الدّفلى وكأنّها تَفهم حركاته، "هل نت

أنت متضامن مع الشّيطان بطريقة ما؟"

على حسب الشّيطان

لا يوجد للشيطان أنواع كثيرة حسب اعتقادي

لا الاعتقاد مسألة معقّدة، أنا آخذ الأمور ببساطة

ما موقفك من الشّيطان ببساطة؟

وما سبب سؤالك الملحّ عن الشّيطان؟

لأنّك مدحته منذ قليل، قلتُ ربّما أكون ظالمة للشّيطان

مديحُ الشّيطان حيلة من يخشى الخطيئة يا شمّوسة، لم يكن الشّيطان غير المرئيّ المرعب خفيّا، في العُصور القديمة ظلّ يتجسّدُ في الشرّ الذي يسكُن الإنسان، ثمّ حين وصل الإنسان إلى هذه المحطّة الصّاخبة بالشّرور اكتشفَ أنّه روح شرّيرة لا تُرى، لهذا فقد انتصرتُ لفكرة الطّفل الذي كنتهُ عن الشّيطان، في الطّفولة علّمونا أن نخشى الشّيطان، أن نتجهّز لنحاربهُ، ولكنّنا من فرط طفولتنا صاحبناه، صار صديقًا حميمًا، ضعيفا حدّ التفتّت بين أيدينا القويّة، كان الشّيطان هو زهرة الهندباء البريّة البيضاء، كانت الرّيح تُطلقها، أو نطلقها نحن فتُسافر عبر الزّوايا كأنّها تختبئ، ولا نعرفُ من أين أصبحت الزّهرة الضّعيفة شيطانا؟

لقد أخرجنا الشّيطان من صورته البشعة، ومنحناه مَظهرا جميلا، هيئة تثير الإعجاب والإشفَاق، ما الذي جعلنا نفعلُ ذلك؟ هل لأنّ الموروث يرفض سرّا التجنّي على الشّيطان؟ أم لأنّ الشّيطان هو ما يكمنُ في أعماقنا من شرّ ينتظرُ فرصته؟ لا أذكر أنّي بحثت عن التّفسير المناسب لهذا الأمر، كلّ ما علق بذهني أنّي جريتُ مرارا خلف الشّياطين التي طيّرها الرّيح، ومن كثرة إعجابي كنتُ أحتفظ بواحد في غرفتي، مرّة في درج المكتب الصّغير الذي اقتنتهُ لي بُدور مكافأة لنجاحي في السّنة الأولى ابتدائي، ومرّة في علبة عطر، ومرّة في جوف كرة مثقوبة، خبّأتُ شياطيني في غير مكان، لكنّها كانت رهيفةً وسريعة التّلاشي، كنت أجري خلف شعيراتها المتناثرة، ولم تكن الشّياطين تقرّ في أيادينا بسهولة.

كانت داميَا من عرّفني إلى الشّيطان، طفلةُ الجيران القادمة من قارّة أخرى في عطلة الصّيف الطّويلة، هي تخرجُ متردّدةً، وأنا كذلك، نقفُ برهة مُتقابلين كجنديّين لا يريدان النّزال، أبتسمُ فتلتفتُ إلى والدتها الواقفة خلف الباب، تأمُرها أن تلعب معي، تلتفتُ نحوي وتبتسمُ لي، ألتفتُ إلى بُدور فتضحكُ وتطلبُ منّي أن أعتني بها، هكذا نتّجه معا في اللّحظة ذاتها صوب السّلالم، ولا أذكر من منّا أمسك يد الآخر، كانت داميا تظهر وكأنّها الطّفلة الوحيدة في هذا العصر، لا أذكر أنّي رأيتُ طفلة قبلها، ظلّت ساحاتُ الحيّ مأهولة بالذّكور وصراخهم، بينمَا اكتفت الإناث بالزّوايا ومداخل العمارات، يلعبن الكثير من ألعاب البيوت، ويتأهّبن للزّواج ودخول المطبخ، يستعجلن شيئا يبدو لي مُقرفا، داميا هي الوحيدة التي ترتدي ألبسةً قصيرة، ولطالما أمعنت النّظر إلى جمال ساقيها، كُنتُ أسترقُ النّظر كلّما أتيح لي، أبهرتني ببياضها وطراوتها، جرينا معًا ولعبنا وصرنا أقرب صديقين، لا أذكر أنّ لي أصدقاء قبلها، ولعلّي نفيتهم من ذاكرتي الرّماديّة بمجرّد دخول ألوان داميا إليها، صِرنا نقصدُ بيتينا، تطرُق بحثا عنّي وأطلبها صراخًا من أسفل العمارة، فتستجيبُ سريعا.

قريبا من البيت كانت هناك حديقة مهملةٌ تضمّنا إليها بمحبّة، هُناك أُمضي معها السّاعات في حديثٍ عشوائيّ، عن الحياة والموت، عن الله والجنّة، عن الزّواج والإنجاب، وعن الحيوانات المفضّلة لدى كلّ منّا، لسببٍ أجهله زعمتُ أنّي أحبّ البَطريق وأنّه حيواني المفضّل، أمّا هي فاختارت الغزال، وسأبقى بسبب خياري هذا في ورطة معها أسابيع، إذ تسألني في كلّ مرّة لمَ تحبُّ البطريق؟ فلا أعثر على إجابة سوى أنّه حيوان طيّب وخلوق ومرح، بعدها ستسألني حتما "أين رأيت أوّل بطريق؟" وسأردّد "إنّه حيوان طيّب ومرح"، وستسألني: "هل البطريق ذكر أم أنثى؟" وسأصرّ أنّه "طيّب ومرح" إلى أن ينتهي الصّيف وتسافر هي وتنسى أمري وأمرَ البطريق، وأفعل مثلها فأنساني مع البطريق.

كنتُ وداميا نحكي عن كلّ شيء يثيرنا، عن الألوان والأشجار والسيّارات والسّماء والحشرات والحروب والرّسوم المتحرّكة وعن الأمّهات، نحكي كثيرا عن بُدور ووالدتها، لاحقا اكتشفتُ أنّ كلينا يفتقدُ الأب الذي يجب أن يحكي عنه، اكتفينا بما لدينا، لا أذكر ما حكيتهُ عن بُدور، الصّورة العالقة في ذهني وأنا أمسكُ غُصنا غضّا بيدي وأرسم به أشكالا على أرض الحديقة المهملة يتسرّبُ منها صوتها وهي تحكي عن أمّها، لعلّي أسمعُها الآن وهي تقول: "أحيانا أخافُ أن أستيقظَ فلا أجدها، لهذا أفيقُ مسرعةً إلى فراشها، أنا لا أنام إلا معها، وأرفض أن تكون لي غرفة وحدي، وعندمَا أتزوّجُ سأطلبُ من زوجي أن يُحضر أمّه لننام معا جميعا"، كانت هي تحكي وأنا أبتسم، راقني أن ننام جميعا أنا وداميا وأمّها وبُدور، وفي غمرة حكاياتنا وفرحنا ودهشتنا وإهمالنا للزّمن مرّ الشّيطان، قفزت هي من مكانها وصاحت بي "الشيطان... إنّه الشّيطان" وقفزتُ مذعورا، لا بدّ وأنّ الشيطان سيؤذينا، أردتُ أن أهربَ حين رأيتها تجري ضاحكة صوبَ الجهة التي طلع منها الشّيطان، دقّقتُ النّظر فلم يبدُ لي أيّ شيطان، ولا أيّ كائن آخر، كانت تُقرفص ناصبة ركبتيها المرمريّتين ومحيطة يديها النّاعمتين بشيء ما، نظرتْ نحوي مبتهجة: "تعال يا محفوظ إنّه الشّيطان" اقتربتُ مُندهشا، لا أعرفُ كيفَ للشّيطان أن يتجلّى صغيرًا بين يدي داميا الجميلة، ورأيتُ المرّة الأولى زهرة هندباء بريّة بيضاء، وكم كانت لطيفة وهي تسبحُ بين كفّي داميا، ابتسمتُ وتنفّستُ، وهكذا صرتُ أحبّ الشّيطان، ثمّ صار البطريق مجرّد كذبة، وداميا الجميلة مجرّد فتاة عابرة.

عندما اكتشفتُ زهرةَ الهندباء البريّة البيضاء، اكتشفتُ معها خفّة الحياة، سهولة المضيّ، التحرّر من الأرض، رفض السّماء، التعدّد، والأهمّ عدم التبذير والتنطّع في الفعل، الزّهرة الرّائعة كانت تمضي مُسرعة في رحلتها الهادئة، تُصغي للرّيح دون ألم، ولا تبادر أبدا بإرادة تواجه بها الهواء، لو صاح طفل في وجهها تتفتّت مباشرة، وتصيرُ عَصواتٍ بيضاء قزمة تتجزّأُ في كلّ مكان، رُحتُ أتبعُ الزّهرة حيث تكونُ بين شهري يوليو ونوفمبر، وحين تغيب الشّياطين أرتدّ إلى النّاسِ أشكُو عبوسهم وشرّهم، كانت بُدور تَعلمُ ما بي من هيام نحو الهندباء، واكتفت بمساعدتي على حفظها كلّما جئتها بواحدة أحملها بين كفيّ المغمضتين برفقٍ، صارت تعرف ذلك؛ فبمجرّد ولوجي من الباب، تُسرع لتُحضر لي القفَص المُناسب، لعلّي كنتُ أوّلَ طفلٍ يضَعُ الشّيطان في قفصٍ ويرعاهُ.

في اللّيل حينَ أضعُ رأسي على صدر بُدور الباذخ تسألني هي بلؤم إنسانيّ: "ألا تطعم شيطانكَ المسكين شيئًا؟" فلا أجيبها وأكتفِي بدسّ رأسي بين ثدييها الدّافئين، ولا أفيقُ إلا على صوتها وهي تغنّي في المطبخ، مأواها المفضّل أو على صوت الرّاديو يُرغي إذا اعتلت ماكنة الخياطة محدثةً ضجّةً تُرعبُ الشّيطان، في الحقيقة كانَ سؤال إطعام الزّهرة يتردّد في ذهني، لهذا فقد اقتربتُ منها صباحا، وسألتها: "ماما ماذا تأكلُ الشّياطين؟" كنتُ أسألها مركّزا نظري على قدميها اللّتين ارتفعتا عن دوّاسة ماكنةِ الخياطة، وكانت هي تنظر إليّ بعينين شاخصتين وفم فاغر، ثمّ التقفتني وضمّتني، "الله يبعد عليك عين الشّيطان يا حبيبي"، في تلك اللّحظة شعرتُ أنّ بُدور لم تكن صادقة عندما كانت تشاركني العطفَ على شياطيني، انسحبت من حضنها وسألتها إن كانت تحبّ الشّيطان؟ تردّدت في الإجابة، ثمّ قالت إنّها تحبّ شياطيني الجميلة، ولا تحبّ الشّيطان الحقيقيّ، قلتُ لها: "وهل شياطيني غير حقيقيّة؟"

إنّها حقيقيّة، لكنّها أزهارٌ، نباتات

اسمها الشّيطان

لا أعرف لِمَ تُسمّى كذلك، لكنّها جميلة

هل تحبّينها؟

نعم، من أجلك أحبّ أيّ شيء

حتّى الشّيطان الحقيقيّ

لا هذا لا أحد يحبّه

لماذا؟

لأنّه شيطان يا حبيبي

وحتّى شياطيني شياطين

لا شياطينك لا تؤذي أحدا، تطيرُ في الجوّ وتختفي، لكنّ الشّيطان الحقيقيّ يؤذي الجميع

أين هو الشيطان الحقيقيّ الآن؟

لا أعرف

ومن يعرف؟

الطيّبون والكبار

ألست طيّبة وكبيرة؟

نعم، لكنّي لا أهتمّ بالشّيطان

إذن الطيّبون الكبار الذين لا يهتمون بالشّيطان لا يعرفون مكانه؟

بالضّبط

ماذا لو كان كلّ الكبار لا يهتمون بالشّيطان، من سيعرف أين هو الآن؟

لا أعرف، لكن هناك ملائكة تحمينا من الشّياطين؟

هذا يعني أنّه ليس شيطانا واحدا بل شياطين كثيرة!

تدري... حين كنتُ صغيرة لم أكن أريد أن أعرف الشّيطان

وعندما كبرت؟

لا أريد أن أعرفه أيضا

ماذا يأكل؟

لا أحد يعرف

وماذا تأكل شياطيني؟

لا تحتاج غذاء

لأنّها لا تعيش لتجوع، أليس كذلك؟

بالضّبط

يعني لو أنّ الإنسان عاش ساعات قليلة أو يوما واحدا لما احتاج أن يأكل !!

أكيد

وهكذا ستكون الأرضُ جميلة، مليئة بالنّباتات ولا يحتاج النّاس إلى بيوت إضافيّة، ولا إلى مراحيض، يمكنُ للإنسان أن يولد ويعيشَ ويموتَ دون أن يستخدم المرحاضَ، وربّما لن يستحمّ أصلا، ولو أنّ عمر الإنسان مثل عمر شياطيني لن يجد الوقت ليتشاجر مع الآخرين لأنّه لا يريدُ أن يستولي على أرضهم أو أموالهم، ولن يكون هناك تجّار ولا مصانع، ولا أيّ شيء، لو أنّ عمر الإنسان سريع لكانت الحياة سهلة.

لكنّا نعيش حياة بدائيّة سريعة، مثل الإنسان الحجريّ، ولكن بعمر الهندباء


قالت بُدور ذلك وداست ماكنة الخياطة، كُنت أصغي إلى صوت الماكنة وهي تنهال على المكان زعيقا، وأتساءل "ما البدائيّة؟ وما الإنسان الحجريّ؟".

خلال سنتين اعتنيت بعشرات، بل بمئات الشّياطين، شهدتُ تمزّقها في السّماء وانفصالها العظيم عن جسدها، طيّرتها حينًا وأتلفتها في مكانٍ ضيّق أحيانا، ارتبطتُ بتلك الزّهرة حتّى صارت بُدور تخشى أنّها بصددِ حالةِ جنونٍ، ولم تطمئنّ إلا حين شاهدتني أجري مع غْيُوم أسفل العمارة، وأُغادر عالمي وانطوائيّتي، لا أعلم خلف ماذا جريت يومها.

عندما أردتُ أن أفاجئ غْيُوم بالشّيطان وجدتهُ يصيحُ قبلي: "محفوظ إنّه الشّيطان"، علمتُ أنّي آخر طفلٍ تعرّف إلى الشّيطان، وهكذا قرّرتُ أن أكفّ عن التّعريف به والاكتفاء برعاية شياطين الهندباء البريّة البيضاء وقتًا، ثمّ التأهّب لرعب ما، لقد كُنت طفلا تعهّد الشّياطين.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم