نجتمع في حلقة، وسط اللفافات الكبيرة والخرائط والتصاميم، منحتنا المنظّمة مكانا فاتناً للعمل. مبنى ضخم بواجهة قرميدية تحمل شعارات نحتية بارزة. وأعمدة ذات تصميم متفاخر يصعد إليها درج عريض. كان المبنى مصنعاً في الماضي، ولكنه بات اليوم مهجورا تماما، إثر تصفية الصناعات العسكرية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.

صدى أصواتنا واحتكاك أرجل الكراسي بالأرضية القديمة التي لم يلمسها بشر منذ عقود طويلة وحركة الأدوات يتردد من على الجدران العارية. أية حكمة في اختيار هذا المكان المخيف الموحش؟

كان مشروع تحويل لوحتي الأخيرة إلى بناء ثلاثي الأبعاد قد اتخذ شكلاً آخر، حين قررت المضي فيه ككاتب وليس كصحفي أو فنان. بدا لي هذا حضورا من نوع مختلف، فما هي المهمة التي سيقوم بها الكاتب وسط الوثائق المعمارية والمخططات التي سيستند إليها الفريق الهندسي ليعيد البيوت إلى حالتها الأولى بعد دمارها وتحوّلها خلال سنوات طويلة؟

وكما هي حال السلسلة السحرية التي تنظم بناء قصر الحمراء في غرناطة، تنتظمُ لغة السوريين المنطوقة والمكتوبة مع لغتهم المعمارية سلسلةٌ سحرية أخرى. فأقطار المستطيلات التي تبدأ بها الوحدات الهندسية في قصر الحمراء الذي لم أره في أي يوم من الأيام، ولكني سهرتُ ليالي طويلة أدرس أدقّ تفاصيله، ستكون متوالية متكررة تتضاعف فيها الجذور التربيعية للأرقام 5.4.3.2 وهكذا. ليتركب المبنى بكامله.

كان يمكنني الإحساس بهذا في كل متر مشيتُه في دمشق طيلة حياتي الماضية، كانت حواسي كلها تقيس الأبعاد الثلاثة من حولي، وعقلي يواصل رصد أبعاد أخرى في الزمان والخيال.

وفي المدن العريقة يصبح البناء من جديد أو ما يعرف بـ “الترميم” شأناً يشبه خدمة توفير أحدث تكنولوجيا الاتصالات في بقية مدن العالم الحديث. لا يمكن لسكان المدن القديمة التوقف عن الشغل فيها وعليها. حتى ليبدو ترميم الأبنية والعمائر العتيقة نوعاً من التصوّف. عبادة للمكان.

اخترت لنفسي هذه العادة، ويمكنك أن تسميها هواية إن شئت، لتكون حرفة جديدة، كانت قادمة أيضاً من ذاكرتي، من كتيب ملون شغلني في سن الرابعة، لم أعد أذكر كيف وصل إلى بيتنا.

ذلك الكتيب الملون صوّر مدينة كاملة في ألمانيا، ولكنها مدينة “قزمة”، تمت إعادة بنائها من جديد لتكون نسخة طبق الأصل عن المدينة الكبيرة، وتم وضعها في الهواء الطلق في إحدى الحدائق، وكان الزوار يتجولون في شوارعها كالعمالقة.

وحين مرّ الزمن وصرت أعيش في ألمانيا، استيقظتْ تلك الصور من ذلك الكتيب الكرتوني الملون. وأخذتُ أنا أيضاً أبني المدن.

اجتماعنا الأول هذا كي نناقش ما عثر عليه كل منا في مجاله. كنا خمسة وكان سادسنا التوق إلى المعرفة. كان شيطانا من الجمال يدور حول كل منا ويلفه بحقول الطاقة. هشام الرفاعي وآن وأنا، وجلس البروفيسور دورينغ بقامته الطويلة حتى بدا كما لو أنه ما يزال واقفا. أما الخامس فلا يمكنك أن تراه مثل الآخرين. كان يشارك عن بعد عبر حضور خاص يجسده هولوغرام خاص به يتيحه الإنترنت. إنه المؤرخ الموسوعي عماد الأرمشي الذي لطالما اعتبرتُه المرجع الأول، عن دمشق تاريخها وعمارتها وبنيانها وسكانها، بعد غياب مؤرخها الدكتور قتيبة الشهابي والعارفين بها من أهل الله.

أما الرفاعي فكان أحد أعضاء الورشة التي شكلتها في عقلي أولا. أتيتُ به إليها بحكم قرابته من جار لبيت أساسي في اللوحة، كما قال لي. وكنت قد عرفت الجار قبل سنوات طويلة، إنه الشيخ أحمد الرفاعي أحد حراس دمشق وكان من دلني عليه مقامُ "الأربعين“ في جبل قاسيون ذات يوم. حين قابلت صبياً منفرداً يرتدي ثياباً غريبة، تشبه ثياب السيرك، بيضاء من الأعلى والأسفل مع طربوش أحمر، وحذاء أسود، كان يمرّ بجانبي في الطريق المنحنبة صعوداً بين كهوف جبل الأربعين، حيث أولياء دمشق وحرّاسها الأربعون الأبدال، ومن دون مقدمات، وبين السلام العابر والضحكات الصبيانية، نصحني الفتى بزيارة الشيخ أحمد في البزورية، وابتعد.

قالت آن “لماذا تبحث عن مكان مفترض لا شيء يثبت وجوده؟”. وجّهتْ حديثها إليّ بصيغة صحفية.

أجبتها إن هذا المكان “واجب الوجود”، كما كان يقال في الفلسفة العربية، ولا يمكن أن تكون مدينة بحجم ومكانة دمشق خالية منه. إنه المكان الذي اشتهر كساحة لصراع بين البشر والوحوش، بين الإنسان والأسد، وهدفه كان تسلية أبناء روما القديمة، إنه الكولوسيوم السوري. كولوسيوم دمشق المخفي ساحة صراع يدور عبر التاريخ مع أسود مرئية وأخرى غير مرئية دون أن يشعر به أحد.

لماذا أسميه كولوسيوم؟ يوجد كولوسيوم واحد في روما. وقد أخذ اسمه من ”كولوسوس“ التمثال الرهيب الذي يقف قربه، تمثال مرعب مثل صاحبه المرعب. تمثال نيرون سيد الحرق والبطش والقسوة. فإذا وجدتَ مدرجاً رومانيا في دمشق في يوم من الأيام، فهل ستشعر بالدهشة إذا لم تجد بالقرب منه تمثالا رهيباً لحاكم رهيب أحرق سورية وهدمها فوق رؤوس شعبها؟ لماذا لا يكون اسمه كولوسيوم إذاً؟ وإذا كان ”كولوسوس“ عملاق جزيرة رودس قد أدخل الرعب إلى قلوب البشر على مر العصور، فهل أدخله جبار آخر في سورية أيضاً بات يسكن في عقول الناس ويغرز مخالبه في أضلاعهم عميقاً عميقاً نحو الأرواح المأسورة؟

آن رينيسيه باحثة معمارية من بروكسل كُلّفت بالإشراف على المشروع بالتشارك مع البروفيسور الألماني توماس دورينغ المتخصص في الأنثروبولوجيا، كان الاثنان ومعهما الرفاعي يشكلان دائرة إصغاء مثيرة للتفاصيل التي تتراكم من خلالها ”بكسلات“ الصورة التي أبحث عنها.

أردت أن أروي لهم كلما جاء دوري في الحديث في ذلك المبنى القديم، كيف حصل الانفجار الكبير في تلك الأزمنة البعيدة، وكيف عشنا لحظاته ودقائقه وساعاته ونهارات ولياليه وسنواته.

قلت “إن كل ثانية مضت صنعت ما نجتمع من أجل البحث فيه الآن. وحين كنا نصغي إلى الأخبار الواردة من المدن عن اعتقال الأطفال الذين كتبوا على جدار المدرسة وأدخلوا البلاد في حمأة الثورة، فقلّعت المخابرات السورية أظافرهم وعذّبتهم، كان شيءٌ ما يميل بالكوكب السوري كما لو أنّه كان يهوي في عتمة هائلة”.

يالليل. يدفع بكل فكرة لتطوف في الأركان والزوايا وكأنها شبح حيٌ يحاول الاستيلاء عليك مسابقاً غيره من أشباح الظلام. يالليل. تبهت فيه الحدود بين الأشياء والأماكن والأزمنة. يالليل. ساعةً حنينٌ وساعةً وحشةٌ.

عطرُ زمانٍ قديم، وهواءٌ رقيقٌ يدور من حولي. هذا الليل وحده هو من يحمل إليّ، كلما غمرَ العالمَ بسواده، أصواتَ الطباشير والأحبار التي خطّت على الجدار في تلك المدرسة في الجنوب السوري، كلمات ستغيّر تاريخ سورية. ستغيّر تاريخ العالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخميادو

الطبعة الأولى 2022

الناشر: Farabikitap

إسطنبول ـ تركيا

عدد الصفحات : 224

القطع: المتوسط. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم