محمّد فتيلينه

قبل البدء

 (كان حلمي أن أعود إلى الجزائر) ردّدت غزلان ريفيرا هذه الجملة أكثر من مرة، بينما كانت تجلس على الكرسي الخشبي الرابض كشاهد على حقبة من الزمن. في الجهة الغربية للمقهى-الذي يتوسط الشارع-رمت جسدها على الكرسي القديم، تراقب بإبهام سماء المدينة الساحلية. رحلت تلك السماء بغزلان إلى أيام الشباب، حينما كانت تذْرُع هذا الشارع المسمى قديما "بولفار سوغان".

   قبل وُلُوجها المكان، وقفت لحظةً تراقب اللوحة المعلّقة أعلى بوابة المقهى. بعدما تجاهلت "صورة التقويم السنوي" التي يُطل منها الثلاثون من جوان/حزيران 2018.

وهران

     أثناء دخولها، ارتعشت يدها بشكل عفوي ثمّ تحسّست قلادتها الفضية. كلما لامستها تذكرت زميلة الدراسة، رفيقة شبابها الأول شيماء ابنة "حي الزنوج". هي هديتها بمناسبة عيد ميلادها العشرين.

   لحنٌ ما تهادى إلى سمعها الثقيل، أغراها كي تُدندن في أعماقها الأوراق الميتة، تلك الأغنية التي أشعلت في بدايات الخمسينات الرغبة الجامحة في مشاركة أحاسيسها شبّان حيها الأوروبي. كانت "الأوراق الميتة" قد جعلتها كفتيات وهران، مهووسة بالبحث عن أسطوانات "إيف مونتون"، المغني المعروف في فرنسا وأوروبا.

   مع مرور السنوات، اعترفت غزلان غير مرة-وهي تدوّن أيامها الماضية والحاضرة-أن الرغبة في مواصلة سماع الموسيقى قد خمدت في داخلها، مثلما خمدت في أحد أيام الصيف من سنة 1962 الحياة والنضارة في شوارع وهران، حينما تساقطت الأوراق على أرصفة "بولفار سوغان".

    ساد الصمتُ المكان، قبل أن تعلن موجات إذاعة القناة الثالثة-الناطقة بالفرنسية-عن تمام التاسعة صباحا. بعد جلوسها مباشرة اقترب منها النادل، بدا لها الرّجلُ في آخر الكهولة غير أنّ روحا نشطة تسكنه. كان عفويا حينما لبّى طلبها. لم يكن من العسير عليه أن يتجاوب مع غزلان بكثير من اليسر والعفوية. دون تردد اندمجت معه، بعدما تبادلا بضع كلمات أدركتْ من خلالها مقدرته على التعبير بلسان فرنسي واضح.

   لم يكن النّادل فضوليا، لكنّ شيئا ما في عينيه أغراها كي تستحضر أنفاسا من زمن الماضي، شعرتْ بها تحلّق في فضاء المدينة، تنسابُ إلى داخل المقهى وبين كراسيها الخشبية بكثير من الألفة. كراسي منحت غزلان شعورا مُختلفا بألفة المكان، جعلتها تعود دون غبشٍ إلى يوم الثلاثين من جوان/حزيران 1962. لم يتغيّر جدار المقهى الأمامي، مازال مُطرّزا بالطوب، مثلهُ مثل البوابة ولون الطلاء. كانت البوابة تحتضن دفتين، جزآهما العلويان مُطعّمان بقطع الزجاج الأندلسي، تستقبلان رواد المقهى من الرابعة صباحا حتى الحادية عشر ليلا.

  • بماذا أخدمك، سيدتي؟

سألها النادل، بعد أن أحضر قارورة ماء معدني بسعة 33 سل وقهوة مضغوطة، يرافقها كوب حليب صغير الحجم.

نظرتْ إليه جيدا، تردّدتْ وهي تفتّش عن قلمها، ثم سألت:

  • هل هناك ورّاقة مجاورة؟

تجاهل السؤال كي يعرض خدمته:

  • هل ترغبين في شيء؟
  • نعم! أريد قلما.

لم يغبْ النادل طويلا، خرج سريعا من وراء منضدة المقهى التي تعلوها كُوّتان، تبعثُ إحداهما نسمةً من نسماتِ الساحل المتوسطي، على غير أيام جوان اللاهبة:

  • هذا قلمُ ريشة، أو إن شئتِ قلم حبر. أعتقد أنك من جيلٍ تَعوّد على الكتابة به مثلي!
  • شكرا هذا لطف منك، بالفعل هذا صحيح، لكن ...؟

قبل أن تحاول الرفض بلباقة، سبقها النادل بهدوء:

  • يمكنُكِ الاحتفاظُ به. إن شئت تقبّلته هدية من المقهى.

دفع الفضول غزلان لتسأل:

  • أنت صاحبُ المقهى؟!
  • يمكنك اعتباري صاحبه! فهو المكان الذي كبرتُ فيه، والذي يحمل قصصي وذكرياتي.

     (لستما وحدكما-أنت ومقهاك- من تحملان قصصا وذكريات!) همست غزلان في أعماقها، بعدما وجدت نفسها وحيدة، أمسكت قلم الحبر وأخرجت دفترها الذي يرافقها من مارسيليا إلى وهران. لم تسأل عن اللافتة الخارجية للمقهى المكتوبة بالعربية والفرنسية "تيمقاد"، لأنها ما زالت تستطيع رؤية بضع طلاسم منقوشةٌ على الجبس، في الجهة العلوية للمقهى دُوّن عليها بخط لاتيني مائل "كافي ريش".

  • هي أكثر من مقهى، يا سيدتي. يزورها البعض كي يستشعروا أنفاس الراحلين، حركاتهم، أرواحهم. هي ذاكرتهم. التي تذوب بين جنباتها كلّ وهران، بأحيائها وساكنتها ومشاعرها.

تردّد صدى إجابة النادل بينما كان يبتعدُ.

 بقيت غزلان ساهمة بعض الوقت ثمّ بدأت بكتابة كلمة استوحتها من آخر كتاب قرأته عن "الأقدام السوداء"، كتبت عنوانا عريضا في دفترها يُشبه ما تستهل به الجرائد صفحاتها الأولى: "شاهدة على حرب الجزائر". أبعدت ريشة قلمها عن العنوان الفرعي، المدوّن في وسط الورقة. كُتب بخطٍ لطالما حلمت أن تكتب مثله.

     قبل أن تخطّ أول حرف، استحضرت آخر ما حفظته ذاكرتها عن مطار وهران.

 في البداية كان صعبا عليها استحضار الكلمات، رغم أن ذاكرتها تزخر بأحداث وأمكنة وليالٍ ورحلات وبكثير من الشغف، لكن الأمر الذي يهيمن عليها مع رشفتها الأولى للقهوة، داخل "كافي ريش"، أول قبلة استرقها الحبيب الأول منها.     

    تساءلت هل ستكتب أم ستدع الذاكرة تُعيد الأمس البعيد؟ ستطلب من النادل أن يسمعها؟ تريد أن تجد جزائريا ينصتُ إليها. كانت شيماء آخر شخص ودّعته من الجزائريين.

    شيماء، فتاة المدينة الجميلة وشاعرة ليسيه الحي الأوروبي. التي مزجت غرائب وهران القديمة. المُشابهة لغرابة كل الجزائريين خلال سنوات الحرب الممتدة من 1954. كان انضباط شيماء يدعو للإعجاب. تغري نظراتها العربية كل من يراها، خصوصا في ساعات الدراسة بصفوف الثانوية.

هل سأكتب عنها، عن شيماء؟ تساءلت غزلان. ربما تكون هي بداية الحكاية؟

لكنها ما تلبث أن تسأل من جديد:

     هل تستطيع امرأة يهودية من الأقدام السوداء مثلي أن تكتب عن يوم رحيلها من الجزائر؟ من سيصدق؟ همست غزلان مرة أخيرة. وعاد الصدى يتردّد: ومن يهتم بغزلان وبأيام كافي ريش؟! شيماء، هي البداية والنهاية، شيماء هي الخير الذي عرفته وهي الشّر المُخبّأ في تفاصيل الحب التي أخفتها عني وأخفاها جون عنّي... طاردت غزلان كل التفاصيل في جزء من الثانية، اختصرت به الزمن والأحداث.

     استطاعت أن تكتب كلمة عربية "شيماء". سريعا بعدها، حلّقت مع قطرات الحبر الأولى غيوم رمادية في سماء "كافي ريش"، اقترن سريعا اسم شيماء بالحب وبـ "جون" وبالمنظمة الخاصة الفرنسية. للحظةٍ، تحوّل الحنين الذي استهوى غزلان إلى شبه يقظة ضمير! لم تقو على محو صورة شيماء ولا مصيرها الذي انتهى على يد "طاسو"!

  • لا أحد عرف الحقيقة!

    لم يكن النادل يُخاطب غزلان ولا رواد "كافي ريش"، بل يُخاطب نفسه، مُستحضرا أول شخص فتح أبواب المقهى منذ قرابة قرن من الزمن. جاء مالك "كافي ريش" من بعيد، من بلادٍ في أقصى شرق المتوسط، لا يُدفن فيها الناس إلا وهم فلاسفة!

في هذه الأثناء، لم تردّد العبارة التي لازمتها من مارسيليا. وأيقنت أنها الآن في الجزائر دون مقدمات ودون خوض في الذكريات. لم تعد العودة إلى الجزائر حلما طالما راودها في الضفة الأخرى.

 استفاقت على عمرٍ يكاد ينقضي، على صورة وهران المرسومة بكل ألوان الطيف في إحدى جدران مقهى. وعلى كلمات النادل الذي ختم حديثه قبل خروجها:

 - تيمقاد هو اسم المقهى منذ الاستقلال!

*

إعلان، جريدة " لوكوتيديان دورون"

يونيو/حزيران 2018

   بعد أسبوع من الآن، ستحتفل مقهى تيمقاد/ "كافي ريش" سابقا، مع زبائنها من مختلف الأعمار والجنسيات بمرور خمسين عام على تجديدها، وعلى تقديم أول فنجان قهوة لأول زبون.

 مرّ بين كراسي "كافي ريش" عدد لا يحصى من البشر من شرق العالم وغربه، وتزامن افتتاحها بحدث مهم، وكان أول زبون يحصل على شرف الصورة الأولى لعربي بن محمد، ابن وهران وحي "المرابطون الأربعة".

سيكون أسبوعا للاحتفال بمن خدم زبائن هذا المقهى العريق، وهناك برنامج حافل على مدار الأيام السبعة، يبدأ كل صباح بعرض صور المقهى، وينتهي بسهرة أندلسية ومتوسطية في ساعات الليل.

هناك قائمة مبدئية بأسماء من خدم في المقهى من نادلين ومحاسبين وحتى زوار موسميين نرحب بالجميع والأكيد أن هناك أكثر من مفاجأة.

(وهران، وهران، روحتي خسارة) صدح المغني من الراديو، يُذكّر المُستمعين بوهران، ذلك الجسر الرابط بين القارات القديمة.

غزلان 1

   لم تكن صفحات الفايسبوك مُجدية مثلما كانت في تلك المرة، عندما استقبلت فيها رسالة جيرار. يكتب كعادته رسائله بخطّ اليد، لكنه أرفق معها هذه المرة صورة من الدعوة التي أرسلها إليه مالكو "مقهى ريش".

     في البداية لم أحمل الأمر على محمل الجد، إلا أن رسالته التالية أكدت كل شيء، وشرحت في بضعة أسطر الكثير واستحضرت أيضا الكثير. جاء في رسالته:

 عزيزتي غزلان، ها هي الفرصة التي تحدثتِ عنها. كنت تترددين دائما في زيارة وهران، حتى مقالاتك التي كنت ترسلينها إلى الجريدة تخفي شغفك بمدينة "سانتا كروز"، أو إن شئت "تورو" أو "الباهيا".

لنذهب سويا هذا الصيف ولتكتبي عن جون، وعن طاسو، وعن صديقتك الحميمة شيماء وأشعارها.

وختم الرسالة: تذاكر الطائرة عندي...

  لم أكن أحب الطيران ولا رؤية الأرض من فوق، من السماء، لأن ذلك يُذكرّني بجون، ويدفعني إلى تذكّر ألم الدوار، الذي شعرت به أول رحلة لي. أحب البحر كما أحببتُ وهران، لكنني بالتأكيد لن أتردد في الذهاب إليها وإلى كافي ريش.

...وتذكرة أخرى باسمك.

كانت رسالة جيرار قد خُتمت بهذه الكلمات.

وهران

(الحفلات تشبه القدر تبدأ بلحظات سعيدة يجتمع فيها النّاس، ثم تنتهي سريعا وينتقل كل واحد من المدعوين إلى مصيره المحتوم) جيرار.

  بدأ الحفل في السادسة مساء، امتلأ المقهى عن آخره. كل الرُوّاد يحلمون بليلة مميزة. مُبتسما، كرّر النادل:

  • كل طلبات الزبائن على حساب المقهى.

تملك السرور والرضا كل من جلس على الكراسي الخشبية، أما ضيوف الشرف ممن حملوا "دعوة ماسية"، فكانوا قسمين. ضمّ واحدٌ منها غزلان.

كان النادل الأصغر على الأرجح من الضيوف، على الرغم من تجاوزه الستين، لكن انضم إلى الحفل لاحقا، بعض الرجال أقل منه سنا. إنما المفاجأة حقا، كانت في انضمام نادية.

  • لا أصدق نادية ما زالت حية؟
  • بشحمها ولحمها يا أتعس نادل!
  • أي شحم؟ لا أرى إلا عظاما بالية، ههه!

قبّلها النادل بسرعة وارتسمت علامة الحيرة عليهما معا، ومعه ابتسامة قد تخفي ما في قلبيهما من الحنين.

  • لم تتغيري يا نادية! ولولا ...

صمت النادل، بعدما تحركت نادية وهي تعرج بلا مبالاة:

  • من يتذكر يا عزيزي؟!

أدرك النادل أنه نكأ جرحا، لطالما حاولت نادية اخفاءه ثم قال:

  •  أتتذكرين يا نادية عندما كنا نطارد أعقاب السجائر من الأوروبيين عند مغادرتهم المقهى؟
  • وكيف أنسى وطاسو يرمقنا بعينيه السّامتين؟!

*

    نادلة المقهى ضمن عشرة رجال. كانت نادية الوحيدة من سُمح لها بالتّردد عليه، بل والاستمرار في العمل فيه لسنوات طويلة. لم يكن النادل يُخفي تساؤله، وهو في مطلع الستينيات، كلما رآها تهدي تحية الصباح لـ "طاسو" ربّ المقهى، لكنه لم يفاجأ بجوابه نادية ذات صباح:

  • صباح الخير سيد طاسو. أعتذر عن تأخري. الترام لا يعمل اليوم. اضطررت إلى المشي!
  • هذه آخر مرة يا نادية. كان يمكنك الاستيقاظ باكرا. هذا مقهى يحترم وقت العمل، ليست "زاوية" عمّك الهوّاري!

   كان "طاسو" يتجاهل ما يجري في وهران خلال الأشهر الأخيرة. فمنذ التوقيع على المعاهدة بين ممثلي جبهة التحرير وممثلي ديغول في سويسرا، شعر كل من يعيش في وهران أنه مهدّد. لم يكن يهتم بشيء كاهتمامه بدخل المقهى. لم يكن النادل يعي بأن اتفاقا سبق الفوضى العارمة في مدن الجزائر، كان شقيا لكنه ليس بالكفاية ليعي ما تقوم به المنظمة الخاصة وبالتنسيق بين جنود جيش التحرير وقوات الداخلية الفرنسية، لتنظيم الحركة في المدن الكبيرة. وهران لم تترك لأمثال النادل الصغير وقتا كافيا للوعي بما يجري حوله. كان يشعر بالفرح كلما غادر "كافي ريش" عائدا إلى "حي الزنوج"، يعي أن "طاسو" يكره أن تكون وهران لأمثال قاطني ذاك الحي، لأنه يسمع منه يوميا جملة ما زالت محفورة في ذاكرته تتواتر مع السنين:

  • أنا أو العدم. فرنسا أو اللا شيء! لا جزائر بدون "طاسو".

   تراقب عينا النادل حركات "طاسو" الذي يُردّد من حين إلى حين ألحانا يونانية لا يفهمها الكثير، بصوتٍ يعرفُ نشازه من يرتادون "كافي ريش" في الصبيحة. لم يكن يجرأ على أن ينبس ببنت شفة أو يسأل أو يناقش، يكفي أنه يتقاضى أجرا أسبوعيا مقابل توزيع القهوة والشاي وأنواع النبيذ على الزبائن من 7 إلى 14 بعد الزوال.

   لاحظ النادل أن مزاج ربّ عمله يسوء من يوم إلى آخر. لم يكن يسمح له أن يدخل بيته حينما يرافقه إلى البناية حيث يسكن. لم يشعر بتأنيب الضمير وهو يحمل دزينة النبيذ كلما تذكّر جدّته "فطيمة" تُردّد ما يقوله جارها الشيخ البشير:

  • ألن تتوب من عمل المقاهي ومُصافحة مُلّاكها "النصارى"؟ لم لا تشتغل عند أخوالك في "حي الزنوج"؟

 (هل بوسع هؤلاء الأخوال الوهميين منحي 700 فرنك كل أسبوع؟)

 يعي الفتى أن المال الفرنسي بوسعه أن يمحو لفظة "الجزائر حرة" من قاموسه، كما يعي أن جدّته لا ترغب في أن يترك المقهى، هي عادة تلوك بها كلاما يكرّره أبناء حي الزنوج. لم يكن مقتنعا ولا متصورا أن جزائريا سيكون بمقدوره تأمين ذلك المبلغ الأسبوعي! الفرنك الفرنسي أكثر قيمة من الذهب، جُملة نادية تبهره مثلما أبهرته آلات رحى القهوة، وتحميصها التي كان أول شيء يراها مع مطلع العام. تلك الآلات الإيطالية المشحونة من اليونان رأسا إلى المرسى الكبير، كانت فخر "كافي ريش".

دار نشر ضمّة، سمنة 2019/2020. مُرشحة لجائزة محمد ديب/ 2020

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم