لطفية الدليمي

بدأت تنعم بما هو أبعد وأبقى وأنبل من المتع الصغيرة الزائلة التي تتبدد لحظة الحصول عليها، ها هي الآن تستدعي الرجل – الحلم بروحها وتلتقي به في الأمداء المضيئة لكنها تفاجأ بظل شبحي قاتم يرتسم على الستائر الشفافة وله هيئة مسطحة تنقصها كثافة الوجود الحيوي التي تميز ظلال الأحياء، توقف الظل قبالتها في وقفة عنيدة مستفزاً سلامها الجديد، وعندما أمعنت التحديق به وفي صلفه المعاند، تبينت فيه مع فزعها ودهشتها هيئة شريكها الراحل (فخري توركلي) بقامته المديدة نفسها وترفعه البارد وعناده القديم. وبعد قليل رأته ينحني على حافة النافذة الخارجية يلمس عناقيد زهور الجيرانيوم الحمراء والوردية ثم يمرق مسرعاً بحركة متلصصة ما بين شجرتي الدلب المواجهتين لها ويندغم في سماكة الجذعين ليذوب بعدها ظلا باهتاً بين الظلال، وتراءى لها مرة أخرى يتحرك وراء عريشة الياسمين الممتدة على السنادات الخشبية وبعدها يتلاشى متعلقاً بأطراف الريح ليضيع بين الغيوم.

ازدادت الموسيقى صخباً في أرجاء البيت متصاعدة من مسامات الحجر وبقايا المقتنيات العتيقة.

أعدت سامية لنفسها قدحاً من القهوة وأحكمت إغلاق الدريئات الخشبية على النوافذ واحتضنت وجه الحلم الذي تلوذ به من عالم الموت وحصار الموسيقى المخدرة، وتهرب اليه من الشرور المحدقة بها وعدوانية الأشباح التي تهددها.

بعد قليل تناهي إليها صوت نشيج مكتوم، خرق بقايا الصمت وعندما استمر ميزت فيه صوت نحيب (فخري توركلي) في ليالي يأسه وعجزه وأيام فشله عن حل لغز المرايا أو وهو يقاوم انهياره أمام (رهاب الحرائق) والحياة التي دمرها بحلمه البيزنطي العقيم.

امتزجت مع النشيج تقاسيم عودِه التي كان يعزفها في ليالي السمر البائدة حيث يسيطر بموسيقاه الصوفية على صحبه ومريديه والمعجبين بعبقريته في النحت والعزف ومعارضة الفلسفات بفلسفات  جديدة سرعان ما يدحضها بنفسه.

وبين النشيج والتقاسيم أخذت تتساقط أصداء أحاديث وكلمات وعبارات سمعتها مرارا منه ومن صحبه حتى غدت كوابيس كريهة تحط عليها كالرجوم.

قاومت، وقاومت لكي لا يهرب الحلم ولا يدمره هذا الاكتساح الشرير لأيامها، قاومت الظل الكريه وأصداء الأحاديث والنشيج والموسيقى التي تأتي مما وراء الحياة.

قاومت وهي ترى وجه الرجل الحي مشرقاً في أفقها، قاومت روائح الموت ومناورات الشبح قاومت عندما أخذ حضور الموت يهدد الحياة وما فيها.

جربت أن تتجاهل زيارات الظل المسائية وتجنبت الانصات لشهقات النحيب الممتزج مع ايقاعات موسيقى الخدر والانخطاف. ولكن الظل الشبحي ظل يحاصرها بملاحقاته الفظة بعد أن استبد بحياتها وبددها بخرافة (الحلم البيزنطي) والشطحات الباطلة. ثم اكتشفت في الصباح التالي ذبولا جماعيا للأزهار في أحواضها، تيبست بتلات الداليا الشيفونية وذوت نورات الاقحوان وانتثرت أشلاء عناقيد الجيرانيوم على البلاطات، ثم تبينت ان الذبول حدث في الليل ولم يكن بتأثير حرارة شمس النهار وما كان ليحدث لولا لمسات يدي الشبح التي نقلت اليها عدوى الفناء.

عندئذ قررت أن تتخلص من بقايا ذلك الماضي المقتنيات الخرافية والاثاث التاريخي المتهالك وكل تلك الأشياء التي أقام عليها (فخري توركلي) صرح حياته الوهمي فبدأت تنفذ الامر رفعت، كل المرايا البيزنطية التي كانت الغرف تغص بها وابعدت تماثيل رؤوس العباقرة من كل العصور، ودمى البورسلين المتشظية وعشرات غلايين الخشب والتحف والقت بها في مخزن وراء المبني ثم بدأت تزيل العفن المعشعش في البيت وتمحو   آثارالحريق الذي اجتاحه قبل أحد عشر شهراً، وفتحت النوافذ وغيرت مواقع الأشياء كلها، ولم تستبق سامية من بين كل تلك اشياء سوى المرآة التي ظل اطارها النحاسي المطعم بأنياب ذئاب طوروس محتفظاً بزينته الوحشية الصادمة، لم تتبين الدافع الخفي لاحتفاظها بهذه القنية الغريبة من كنوز زوجها الراحل، وعندما تحرت في طوايا ذاكرتها اكتشفت انه ذلك المعتقد الشعبي القديم التي يقول بقدرة أنياب الذئاب على درء الشرور فكان الناس يحملونها تمائم تدفع عنهم ضراوة الوحوش والأخطار وشبح الموت.

شيء أشبه بضباب رمادي كان يموج بين السطح الزجاجي للمرآة والطلاء القصديري، خيل لسامية انه بقايا من دخان الحريق احتبس ها هنا وركد طوال الأشهر الماضية، ثم رأت تلك البؤرة القاتمة المتكثفة وسط المرآة كأنها شارة الموت. أو لعلها أشبه بثقب (فضائي أسود) من تلك الثقوب ذات الشراهة كونية  التي تجتذب كل الاجرام اليها وتبتلعها وتذيبها في كثافتها المروعة.

علقت سامية المرآة الذئبية إلى يمين خزانة الكتب الرئيسة في الغرفة الكبيرة وحانت منها التفاتة نحو الباحة الخارجية فاكتشفت ان الزهور عادت إلى التفتح، تألقت براعم القرنفل والتمعت نورات السنتوريا الزرقاء بلون أعماق البحر، وفي خفوت الموسيقى تناهى إليها طنين اسراب نحل وصرير جنادب الصنوبر الثاقب، وحفيف أجنحة شفافة ولهاث مخلوقات مسرعة تنسرب في تيار الحياة.

واصلت الموسيقى الصوفية ترددها بدرجات متفاوتة من الوهن والخفوت، بدأت سامية تخرج إلى عملها وتنساها لكنها كانت تجدها في انتظارها كلما عادت وهي تطلق عليها غبار زمن (فخري توركلي) ومراياه وتماثيله وتذكرها بزمن الوقوف عند حافات الممالك البائدة.

2 – مرايا بيزنطة        

كان البيت قد امتلأ بمقتنيات أثرية لا حصر لها، أشياء لها التماعات زائفة، أدوات تفوح بروائح الممالك العتيقة، وصلت إلى البيت من عصور مختلفة وتراكمت في طبقات زمنية تمثل أمجاد الحضارات الآفلة، قطع اثاث استانبولية ببهرجات شرقية مطعمة بالأصداف والمرايا، طنافس سلاطين، رياش عثمانية  من دمقس عتيق وستائر بروكار وموسلين مذهب، أواني نحاس مطعمة بالميناء العراقية، فضة مؤكسدة تبقت عليها لمسات نساء مرصودات للموت، سجاد يروي حكايات عشق خرافية وأساطير بطولة، مباخر لا تزال تفوح بالمسك، مشاكي معدنية يزينها زجاج  ملون يفيض بأقواس قزح وانعكاسات لا نهاية لها.

إلا ان المرايا كانت تحتل المكانة الاولى بين مقتنيات البيت، وتغطي مساحات الجدران والزوايا والممرات، وهي مرايا عتيقة تحمل تراث منطقة تاريخية شاسعة تمتد من أواسط اوروبا حتى اواسط آسيا، مرايا تزينها تيجان من عاج الفيلة، وأكاليل من الصدف وقرون الأيائل، وتلتمع على بعضها أحجار كريمة من الجزع والعقيق وأحجار الدم، مرايا غرست في أطرها أنياب ضوارٍ ومحار من بحر  ايجه و مرايا زينت بشذرات من الفيروز واللازورد، ومنها مرايا ذات أغوار سحيقة، تبدو مثل بحيرات خادعة ومرايا تردد آلاف الانعكاسات إذا مسها شعاع تائه يسقط عليها من زاوية معينة، وبينها مرآة زينتها جماجم أفاع ٍمن أرضروم رصعت محاجرها بالتوباز واليواقيت الحمر، أتى  فخري توركلي ببعضها من أقصى بقاع الامبراطورية البيزنطية، وجمعها خلال سني عمره في تلك الأيام الخوالي التي تزدهر فيها بعض أنواع الاستثمارات من تهريب  تحف وآثار خلال  الحروب العظمى ، وأنفق من أجل اقتنائها ثروة خيالية، اشترى بعضها من خانات استانبول وقلاع أزمير وحصون ادرنة، وأحضر إحداها بواسطة عملية تهريب مدهشة من مدينة تيرانا عاصمة البانيا وحصل على  بضعة منها من بائع تحف تركي اكتشفها في سرداب ملحق بقصر من قصور السلاطين المهجورة، كانت تحتجز فيه النساء المغضوب عليهن من محظيات وجوارٍ وسبايا ولا تعطى لهن سوى وجبة طعام واحدة يومياً وحولهن مرايا كثيرة يعذبوهن بها إذ يرقبن ذبول الصبا والحسن يوماً بعد يوم في سرداب الجنون المميت.

ووصلت اليه مرايا مع ما ورثه من أبيه من طرف ونفائس ثم أمضى عمره الباقي يرمم أطرها ويعيد اليها ما فقدته من أصداف وحبات عقيق وأحجار فيروز ويواقيت وظل يحملها معه من بيت الى بيت ومن زمن الى آخر وهو يواصل الترحال عبر سنوات عمره ما بين مدن تركيا وموانىء سوريا حتى انتهى به الأمر إلى بذل ارث سلالته الذي آل اليه من أجل تحقيق حلمه البيزنطي بنفسه.

وظلت سامية النعمان طوال سني عيشهما المشترك تلهث وراء ارتحالاته المفاجئة راكضة بين المدن والبيوت، تمارس الحياة بعكس تيار رغباتها وتقاوم نذر انهيار زواجها العقيم من آخر سليل لملوك بيزنطة العظام الذي كان يسخر كل شيء لتحقيق حلمه الملكي بينما كانت سامية تتخلى عن كل الأشياء وتعيش باسلوب مضاد لمكونات وجودها.

وأمام هذا العمر المضنى بالعجز وموت الأمل، كانت تلتزم صمت النادمين الذين غصوا بوليمة خسائرهم، فيبدأ (فخري توركلي) بإلقاء تبعة الشقاء والعقم ووباء الترحال على المدن والأرواح التي تسكن البيوت، وسطوة الجهات الأربع ومهبات الرياح وأنواء البحر وحركات النجوم في أفلاكها، ثم حاول بدهاء العراقة الموروثة وثعلبية السلالات المنحدرة من عروش الامبراطوريات أن ينسيها ويتناسى معها كل الأحداث المحتدمة حولهما  الحرب الأهلية العمياء وفساد الانظمة في الأرض المطلة على البحر المتوسط وعذاب الانسان المعاصر في مستنقعات الموت  في الحروب والجوع والأوبئة، ثم دفعها بإيحاءات يجيدها، وبأحاديث يحسن تصريفها بلباقة موروثة إلى أن تهمل الانصات لهدير حركة الزمان في علبة التاريخ المقلوبة، وان تدير عينيها عن فكرة الحتميات المفروضة على الحلم الانساني، حتى آل بها الأمر إلى اللوذ بتلك الملاجىء التي يحتمي وراءها اليائسون والعجزة والقانطون من كل أمل.

وصارا يتوسلان الغيب، ويحرقان بخوراً من أصماغ جاوه لاسترضاء أرواح الاسلاف المتجولة ما بين حدود (امبراطورية بيزنطة ) والجبال الشرقية وامتدادات صحارى العرب، إلا انهما لم يحظيا بغير المزيد من الشقاء والتسليم بلعنة العقم.

فاذا انتقلا إلى بيت جديد يشتريه فخري توركلي في مدينة جديدة تراه ينشغل في الأيام الاولى باختيار أشرف الأمكنة وابرزها (لمرايا بيزنطة) ثم ينصرف بعد ذلك إلى تنسيق مجموعة تماثيل رؤوس العباقرة ودمى البورسلين وغلايين الخشب ومجلدات الفلسفة الالمانية ومصادر التصوف والموسيقى والكتب  التي تبحث في علم آثار بيزنطة في الأمكنة الاخرى.

أبدت (سامية النعمان) في عام عيشهما المشترك كرفيقي حياة -نوعاً من اعتراض مهذب على وفرة المرايا التي أصبحت تحيط بها أينما اتجهت في أنحاء البيت وتضللها عن حقيقة الأشياء والملامح والحجوم والألوان، وتعكس لها عشرات النساء اللائي لهن وجه سامية وملامحها المستكينة القانطة واللائي يناقضنها بشرارات تمردهن واشتعال عيونهن، وأولئك الهازئات منها، حتى كادت تفقد صوابها، فأخذت تغطي المرايا بأستار وسدول كلما خرج (فخري توركلي) من البيت، لكن أوقات خروجه بدأت تتناقص بالتدريج، حتى قطع معظم علاقاته بالخارج واكتفى باستقبال الضيوف من الصديقات والأصدقاء كل ليلة في منزله.

وزاد من رعبها ان المرايا كانت تقلب كل شيء بطريقة تخلف اضطراباً دائماً في وعيها، إذ يصير اليمين يساراً واليسار يمينا وتختلط الجهات، وتضيع الحقائق التي تعلمتها في فوضى الانعكاسات اللانهائية بين المرايا الغريبة.

  • مقطع من رواية قصيرة (نوفيلا) عنوانها موسيقى صوفية.
  • الطبعة الأولى 1994.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم