غرقت المدينة في الظلام إجبارياً بناءً على تعليمات مُشددة من القيادة العامة للجيش، وذلك بغرض إخفاء الأهداف العسكرية عن أنظار الطيارين الجنوبيين المشهورين بمهارتهم في التصويب، وكذلك ليسهُل على الدفاعات الأرضية رؤية الطائرات المُهاجمة والتصدي لها وإسقاطها. ورغم أجواء الحرب وهدير طاحونتها الجهنمية، فإن مجرى التحقيق في حادثة القتل البشعة التي تعرضت لها (ثائرة عبد الحق محمود) لم يتأثر تقريبا. كانت الدفاعات الأرضية المحيطة بالمدينة تنسج شبكة مُحكمة من النيران كلما لاحت في السماء الطائرات النفاثة "السوخوي" المُغيرة من عدة مطارات جنوبية. عند بوابة قسم شرطة الحلقوم وقف عسكري مسلح للحراسة، وقد بدا عليه الاستمتاع الشديد بحفلة الألعاب النارية المُقامة في الأعلى، وكان يُرهف سمعه ليلتقط أزيز طائرات الحزب الاشتراكي الآتية من جهة الشرق ليُبلّغ عنها بواسطة اللاسلكي.. وأحياناً كان يبعث ببلاغات كاذبة، فتهدر مضادات الطائرات راسمة في السماء خطوطاً حمراء متقطعة تتعامد في نظام هندسي شبيه بأقفاص السجون. وفي حوش القسم اصطفت ثلاث سيارات جيب شرطة، وسيارة واحدة مرسيدس سوداء. وعلى ضوء شمعة كان الضابط (سيف) يواصل عمله دون كلل، وبجواره مساعده (حاجب) الذي كان يتولى كتابة محاضر التحقيق وهو يكاد يسقط أرضاً من شدة الإعياء. كانت غرفة التحقيق بسيطة الأثاث وضيقة إلى حد ما، ولها نافذة وحيدة تم سدّها بدولاب حديدي لدواع أمنية. سأل الضابط (سيف) وهو يدخن منزعجاً من تجاوزه السقف الذي حدده لنفسه يومياً من السجائر:

  • هل الجثة التي عاينتها هي جثة زوجتك ثايره عبد الحق؟ بدا (علي جبران) في حالة انهيار تام، وعيناه مُحمرتان من البكاء، فأجاب بصوت واهن مُزعزع:
  • نعم. التهم الضابط (سيف) قطعة بطاطس مقلية من صحن بلاستيكي وضعه بينه وبين مساعده، وقال وهو يسوط علي جبران بنظرات فولاذية مُنذرة:
  • هل عاشرت زوجتك ليلة الأمس؟ عضّ (علي جبران) شفته السفلى قائلاً وكأنه يندب:
  • لا. قال الضابط (سيف) بلهجة جافة خشنة:
  • لماذا حزمت القتيلة ملابسها في حقيبة؟ هل كانت تنوي السفر؟ تلكأ (علي جبران) في الإجابة، وسحب تنهيدة مفرطة الحزن من كعبي قدميه:
  • نعم، كانت رحمها الله ناويه تسافر اليوم الصباح لى عدن. رفع الضابط (سيف) حاجبيه غير مُتوقع نبأ كهذا:
  • لماذا؟ مسح (علي جبران) عينيه بمنديل قماشي وتكلم بصعوبة وهو يعاني من جفاف لسانه:
  • قالت تشتي تزور واحده قريبتها هاناك. رسم الضابط (سيف) بالأصبع الشاهد إشارة على سطح المكتب، ربما كانت تعني عثوره على خيط مهم في حل لغز القضية.. قال وذهنه شارد إلى حد ما:
  • هل كانت بينكما خلافات زوجية في الفترة الأخيرة؟ تصبب (علي جبران) عرقاً لأنه أدرك أخيراً صعوبة موقفه:
  • لا. أفلتت آهة سخرية مقصودة من ثغر الضابط (سيف) المُقفل في الحالات العادية بصرامة، ثم قال وكأنه يزن كلماته في ميزان حساس لا يستخدمه إلا صاغة الذهب:
  • أين كنت ليلة البارحة؟ وضع (علي جبران) يده على خده، وأخذ يستعيد أحداث الليلة الماضية، ووجهه يزداد شحوباً وضآلة:
  • شا احكي لك ما وقع بالتفصيل.. تثاءب المساعد (حاجب) وألقى بقلمه السائل الأسود في سلة المهملات، وأخذ يفرد ذراعه اليمنى ويطويها ليُعيد لها مرونتها بعد أن تيبست من جراء العمل ست ساعات مُتصلة في كتابة المحاضر. ناوله الضابط (سيف) قلمه الحبر المُعبأ بسائل أزرق ليتابع التدوين، وأشار بهزة من رأسه لـ(علي جبران) ليكمل روايته، فقال الأخير وعيناه تغيمان وكأنهما تنظران إلى الداخل في مرآة الذات:
  • أمس الساعه واحده بعد نص الليل قمت من النوم وحسيت بالأرق، خرجت من غرفة النوم وتركت المرحومة راقده في الشق الثاني من السرير، نزلت لى الصاله وفتحت التلفزيون، وتمددت على الكنبه وبيدي الريموت كنترول، وبعدها قمت أقلب القنوات، ولقيت قناه فيها مباراه في كرة القدم، تابعت المباراه حوالي ربع ساعه، وبعدها ثقلت أجفاني ونمت. زم الضابط (سيف) فمه مُفكراً، ثم سأل:
  • ألم تشعر بحركة مريبة وأنت نايم في الصاله؟
  • لا.
  • هل تتهم أحد معين بقتل زوجتك ثايره عبد الحق؟
  • لا.
  • هل لديك أقوال أخرى؟
  • لا. خلع الضابط (سيف) قناع الصرامة وانفرج فمه عن شبح ابتسامة:
  • تقدر تروّح يا أستاذ علي، وآسف جداً إذا كنت أرهقتك بأسئلتي. نهض (علي جبران) محدودب الظهر مُتيبس المفاصل، وكأنه طوى في يوم واحد بحار العالم مُرسياً سفينته عند ضفة الشيخوخة:
  • ما بش مشكله، أنت بتقوم بواجبك وما بش لوم عليك، أتمنى لك التوفيق في القبض على المجرم. ابتسم الضابط (سيف) بمكر:
  • معقول.. أنا مش مصدق إنك بتتمنى لي التوفيق من قلبك! فتح (علي جبران) باب غرفة التحقيق وعبّ ملء رئتيه هواءً نقياً:
  • صدقني.. من كل قلبي يا فندم. أخرج (علي جبران) كشافاً يدوياً من جيب معطفه، وأرسل تحية باردة مُلوحاً بيده اليسرى، ثم غادر مُغلقاً الباب خلفه. ضيّق الضابط (سيف) عينه الشمال وقد تناهى إلى سمعه دوي طائرات نفاثة، وبعد ثوان محدودة سُمعت قعقعة المضادات الأرضية التي كانت تتفاوت في شدتها بحسب قربها أو بعدها من قسم الشرطة، فبدت له في لحظة تجلي وكأنها تعزف النشيد الوطني.

ــــــــــــــــــــــــــــــ صدرت طبعة جديدة من الرواية عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2019. *وجدي الأهدل- كاتب يمني.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم