كانت منال فتاة هادئة وهبها الله حسنا وجمالا بضغط من نادر ومراد وذلك لإسكات الأفواه التي بدأت تندلق في الحي من أنها ترافق شبانا وتتخذ لها عشاقا وبالأخصّ الياقوت التي كانت معجبة بمنال وأرادت تزويجها من شقيقها، ما زلت أذكر ذلك جيدا في أصيل يوم صيفي بعد انتهاء الموسم الدراسي، دقت باب بيتنا عائلة حميد على رأسهم الياقوت العجوز التي تلتحف حائكا بعين واحدة بدت "كالمينيونز ستيوارت" لا أدري لو رآها الكاتب "بريان لينش" هذه الأيام لا منحها دورا بطوليا في فيلم "المينيونز" بينما كانت والدة حميد تطرق الباب طرقا خفيفا كانت شريفة تصرخ في وجهي لا أدري لما دوما الصغار توكل لهم مهام فتح الأبواب، إغلاق النوافذ، وإحضار الأحذية، يلقون اللوم على الصغار في كل شيء حتى في مزاجهم السيِّئ أو حين لا تسير معهم الأمور كما يجب... على مضض فتحت الباب، استقبلني وجهها الأصفر النحيل بأعين غائرتان خاطبتني الياقوت قائلة: أبلغ وردة أن خالتك الياقوت في الموعد المحدد. ـ موعد؟. ـ انزعجت.. ثم أردفت، تحشر أنفك في كل شيء.. صفقت الباب في وجهها وعدت أدراجي مختالا منتشيا كأنّي هزمت مصارعا في حلبة المنافسة، وردة كان ردّها بلباقة رمت الكرة في ملعب منال لأنّ الكلمة الأخيرة تخصها هي وحدها. منال حينما عرفت خبر خطبتها، لم تعرها بالا، كانت رافضة لفكرة الزواج من "حميد ألكوليست" ترعرع أفراد بيت وردة على الاستقلالية في اتخاذ القرارات في حدود المعقول، وردة غرست في بناتها التحرر كيف لا؟ وأمي وردة عاشت حياتها تناصر قضايا المرأة أليست رئيس جمعية تعنى بحقوق المرأة؟ الياقوت لم تتقبل فكرة أن ترفض منال الارتباط بشقيقها، وعدّته نوعا من المهانة، الحادثة ولدت الضغينة بين الأسرتين وزادت حدّتها لما تقدم لها قريب وردة المغترب بفرنسا. أسابيع من الاستنفار والاستعداد تحضيرا لعرس منال، وردة كانت طيلة الوقت دقيقة ولم تترك شيء للصدفة تحضيرا لزفاف صغيرتها منال أذكر جيدا ذلك المساء عندما طلبت مني الريم إشعال الشموع، بينما كنت بصدد وضعها على شمعدان نحاسي كان بالقرب من مكان تجمع النسوة، لم أنتبه لخطواتي اصطدمت بمؤخرة عجوز تعثرت لتسقط الشموع على فستان منال، واشتعلت النيران في فستانها، تعالت أصوات صراخ النساء والفتيات في القاعة، منال كانت تصرخ وتحاول إطفاء النيران التي امتدت للفستان من محيط خصرها إلى صدرها وشعرها... على وقع الصراخ اختلط الحابل بالنابل وبعد جهد مضني سيطروا على ألسنة اللهب وخبت النيران، لم أشعر بساقي ركضت هاربا وجدت نفسي، على بعد شارعين أمام منزل زكي طرقت الباب طرقا عنيفا، فتح زكي الباب دفعته حتى كاد يسقط، كنت خائفا مذعورا كأرنب ينظر خلفه خشية لحاق مفترسه. في غرفة زكي لساعات جالسا مستغرقا أفكر في شقاوتي، في المساء من ذلك اليوم التعيس، سمعت طرقا على الباب، عرفت أن نادر ومراد لن يتركاني وشأني، كانا يبحثان عني، استقبلتهم العمة زهية ورحبت بهم، رجوتها أن لا تخبرهم بوجودي، ترددت في البداية، سرعان ما أكدت لهما بأنّي لست في البيت ولم أزرها إطلاقا، لاحظتُ تعابير وقسمات وجهها الغاضبة من خلف ستار النافذة كنت أتابع المشهد لأتأكد من مغادرتهما البيت. في الصباح بينما كنت ألوك قطعة الخبز، رغيف رديء الطهي لا يختلف عن المطاط في شيء وكوب حليب أبيض، كنت أفضل الحليب بالقهوة لكن زهيّة صارمة جدا في مسائل التغذية" اسمع يا نجيب، اشرب الحليب أبيضَ لا تضف شيء إليه لتستفيد من الكلسيوم، فأنت لازلت صغيرا جسدك بحاجة للنمو" هامسا في أذن زكي وهل أمك تعاملك دوما هكذا. ـ لا تنسَ أنها صيدلية، حريصة كل الحرص ومسائل التغذية وغسل اليدين، الأسنان وأدركت أن حياتهم تسيرها لوائح من التحذيرات والممنوعات، حياة مضبوطة على إيقاع منظم لا شيء للصدفة والعبث، كل شيء بقدر. زهيّة أسرت لي أن وردة اتصلت بها لتبدي قلقها طمأنتها أنّني أبيت ليلتي نديما لزكي، لم أكد أنهي تناول الفطور سمعت طرقا خفيفا على الباب، بدا صوت دافئ كصوت وردة يناديني... أسرعت وضمتني بقوّة ... ماما وردة لم أقصد إسقاط الشموع". ـ يا صغيري : لا داعٍ للقلق، أعرف ذلك. ــ ولكن منال هل أصيبت بمكروه ما، كيف هو حالها؟ ألا زالت غاضبة؟ أمطرتها بوابل من الأسئلة. ـ إنّها بخير...

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

عدت للبيت الكل يزدريني دوما ما كانت ترفع "فيتو" كما كنت خارج حسابات توبيخ وردة خطا أحمر، لا يجرأ نادر ولا مراد، يكتفيان بالصمت والتسليم بالأمر في سريرتي كنت مدركا طعم الحقيقة المرة لولا وردة والفيتو المنيع لكنت لقمة سائغة في يد القدر الذي لن يرحمني، قدر يرسمه نادر ومراد بإساءتهم. كان قد مر وقت طويل قبل أن أزور اليوم بيتنا القديم في حي العالية، ظل على حاله بدا صامدا أمام الزمن لم يتغير فيه شيء، سنين قضيتها هنا دخلت للحي رضيعا لا زالت شجرة الصنوبر وارفة يحرك نسيم الليل أوراقها أسمع حفيفها، موسيقى كنت قد ألفتها وقفت متأملا عدت لذكريات الطفولة إلى كل شبر من أركان الحي من الزاوية التي اتخذت شكلا هندسيا مثلث الأضلاع مقرنا الدائم إلى الصخور التي أزيلت حلت مكانها حديقة صغيرة الطرق صارت معبدة بإسفلت ذو نوعية رديئة تتخللها أثار حفر حديثة وبطريقة عشوائية، لازلت أذكر الطين الذي كنا نكوره شتاء ونتقاذفه على بعضنا بعض، الملعب الذي كنا نمارس فيه رياضة كرة القدم استحال إلى بيوت وموقف سيارات غير بعيد حيث كنت أقف سمعت صوتا بدا لي مألوفا استدرت نحوه لم يكن سوى حليم رفيق الدرب وصديق الطفولة حليم لم نلتقِ مذ سنوات طويلة تغيرت ملامحه كثيرا يبدو أن السنوات قد أرهقته و ارتسمت على جبينه تجاعيد وترهل للجلد، السنون فعلت فعلتها زكي هو الآخر نزل لأرض الوطن لزيارة والديه كان يستعد للمغادرة يحزم حقائبه ركب السيارة خرجت امرأة لم أر وجهها لانعكاس أضواء السيارة... اختارت ماري مدينة بسكرة التي تبعد 400 كيلومتر عن العاصمة الجزائرية في الجنوب الشرقي أعجبتها المدينة، أخبرتني أنها زارتها في السبعينات سائحة وتعلقت بها، ماري وجدت في المدينة الراحة و الدفء الذي كانت تصبو إليه، كانت السيدة ماري تزورنا صيفا، ونتبادل الرسائل في المنتصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، كانت آخر رسالة لها بتاريخ ديسمبر 1987.قلق صوفيا جعلها تقرر زيارة الجزائر والبحث عن والدتها، تحرياتنا لم تقدنا لشيء، رفضت العودة إلى فرنسا وبقينا هنا نسمع أخبار من هنا ومن هناك. لا أدري متى بدأت نوبات السعال الحادة تشعرني بصداع يكاد يفجر صدغي، كان سعالا جافا في البداية، ازدادت حدته مع مرور الأيام للوهلة الأولى لم ألقِ له بالا، كنت أشعر بارتفاع درجة حرارتي وأحس بالتعب لأقل جهد، أذكر أني في أحد الأيام كنت أجري عملية استبدت بي نوبات سعال كانت مصحوبة ببلغم، اختلطت ببقع دم حمراء تناولت أدوية بسيطة داومت على مشروب مركز الزعتر الجبلي ومضادات حيوية لم أشعر بتحسن صرت أسعل كثيرا رافقني صداع لم يبرح رأسي، كنت أعلم أن السعال ليس جديدا على نجيب حين كنت صغيرا، عانيت الأمرين منه بسب استحمامي في البرك في الأيام الباردة، كما أني كنت مستهترا لا أرتدي ألبسة تقني برد الشتاء، طالت فترة معاناتي نصحني الزملاء بزيارة أخصائي لأمراض الصدر، كنت أمضي لعملي دون اكتراث. مع مرور الأيام اقترب موعد السفر أنهيت الإجراءات والاستعدادات نوبات السعال تزيد أحيانا وتخفت حينا، في آخر يوم لي في المشفى جمعت أغراضي ودعت الزملاء مررت بالعم حسن ألفيته جالسا على الكرسي الحجري كعادته، يمرر السبحة سريعا بين أصابعه في خشوع دنوت منه بادرته بالتحية، نظر لي نظرة عتاب أكثر منها شيء آخر دون كلام رسم ابتسامته التي تأبى الغياب عن وجهه. في صباح اليوم التالي، تلقيت مكالمة من سعاد لم تشأ اطلاعي بشيء طلبت مني التقائها في مكتبها، دون انتظار كنت أقف أمام المركز بدا على غير حالته التي تركته فيها كان ورشة حقيقية، تم اقتلاع بعض الأشجار وضعت أساسات لتوسعة المركز، أضيفت مقاعد حجرية ونافورة مائية، عبد الممر الترابي بالإسفلت، سمعت أن المركز تلقى هبة من أحد رجال الأعمال تنفيذا لوصية والدته والتي ماتت مؤخرا و التي كانت تزور المركز ولا تبخل بمالها ووقتها. سعاد كانت في انتظاري حللت بمكتبها، استقبلتني دون مقدمات كانت تضع على مكتبها دفترا، سلمته لي وأخبرتني أنه يخص مريم أكتشف أثناء ترميم غرفتها كان مخبأ بإحكام مربوطا إلى سريرها. كانت سعاد قد اطلعت على محتوى الدفتر، سألتها عن فحواه لم تشأ إخباري بشيء فكل ما أخبرتني أنه موجه لي . كان الدفتر عبارة على أجندة متوسطة الحجم عبر زهاء مئة صفحة بخط يد جميل ولغة فرنسية وعربية، بلباقة وجهت الشكر لسعاد لتعاونها. وضعت الدفتر على المكتب جلست أحتسي القهوة، أشعلت سيجارة لتعدل من مزاجي، سرعان ما أخذ الفضول يستعر في قلبي حملت الدفتر فتحته على الصفحة الأولى: "Il y a toujours quelque chose d'absent qui me tourmente" Camille Claudel النسيان فاكهة المكلومين في متاجر الحياة.. ......................................................................... سأغرق حتى تمتلئ فصوص رئتي ببقايا كوابيسي ............................................................ ................................................................... أقلب الصفحات لا أدري ماكنت بصدد قراءته، بدت لي خواطر مريم كهذيان عبارات وكلمات غير مفهومة بلغة عربية سليمة، استرعى انتباهي كتلة بين الغلاف والأجندة تلمست الغلاف الأخضر، نزعته وجدت صورة تجمع فاطنة ومريم وصبيا، الصورة نفسها التي وجدتها في حقيبتها، الصبي لم يكن في الحقيقة سوي صورتي وأنا صاحب الخمس سنوات ارتديت معطفي ذهبت للمركز، في مكتب سعاد استدعيت فاطنة، جلست صامتة دون أن تنبس ببنت شفة، نظرت إليها مليا وضعت الصورة أمامها حدقت في الصورة، صمتت لبرهة... ـــــــــــــــــــــــــــــ

  • رواية "يعذبني دائما شيء غائب" رواية اجتماعية، هي باكورة الكاتب عادل قريد، الصادرة سنة 2017 عن "منشورات المثقف" الجزائر، طبعة أولى عبر 151 صفحة.

الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم