"الصفحة الأولى" "خيرات" نائمةٌ الآن بجواري، مبعثرةً في أركان السرير الأربعة، تشبه حالتها كادراً نموذجياً، بجسدها المكشوف حتى نقرة التقاء ظهرها بردفيها، ثم الملاءة التي تغطيهما حتى المنتصف الداخلي للفخذ الممدود، وإلى رُكبة الرِّجل المطوية جانباً. هي تنام على بطنها، تقريباً، بميل خفيف إلى جنبها الأيسر، ضامَّة رجلها اليمنى المثنية إلى أعلى، ومادَّةً اليُسرى حتى تلامس أصابعها حدود السرير. وكما ينبغي لكادرٍ في صفحةِ مجلّة مصوَّرة؛ كنت أطوِّق ركبتيَّ، جالساً في المساحة الضيقة المتبقية لي في السرير، وأنا أنظر إليها. أتخيَّلُ بالونة الحديث ذات الدوائر الصغيرة – كناية عن التفكير بصوت غير مسموع - التي تشير إلى رأسي. تُرى، ماذا سيكون مكتوباً فيها، لو كنتُ داخل صفحات مجلة "تان تان"؟ أو في إحدى قصص "درونا"Druuna، أو "ميلو منارا" Milo Manara الجنسية؟ إنني الآن مُخدَّرٌ بالخيال.

رافقني هوسي القديم بـ "البورنو" حتى اليوم، لكن كنت مختلفاً عن أقراني، بتفضيلي المرسوم على المرئي. ففي حين ظلوا يلهثون خلف الأفلام؛ كنت أبحث عن الكوميكس، فللقصص المصورة عندي لذةٌ لم يطفئها تقدمي في العمر، حتى وأنا أجتاز سنواتي صوب الأربعين. لماذا أحب الكوميكس؟ أظن الأمر ذا علاقة بالخيال. أستطيع في القصة المرسومة، تركيب الصوت الذي أريد، وأنا أقرأ غيمة الكلام المعلَّقة فوق رأس الشخصية. أمرٌ آخر يشدني إلى الكوميكس أكثر من الأفلام، هو أن الرسّام يرسم الجسدَ كما ينبغي أن يكون، بالمقاييس التي أُحبُّها في كمالها المستحيل، ويحبها هو. يصعب أن تجد جسداً كاملا في الحياة. يصعب أن تعثر على واحدة مثل "خيرات" كل يوم. أنا مفتون، كما ترى، بالجسد؛ هذه المعجزة القصوى، التي تجعلني أحدِّق بعينِ الباطن في ذلك الكمال الحيّ، متسائلاً عن نوع الصمغ الإلهي الذي يلصق كل هذه المتنافرات القبيحة – سمها الأنسجة – لتصبح في النهاية شيئاً مكتمل الجمال! لذلك – ربما - لم أحب رسوم المانغا، رغم غزارة إنتاجها للبورنو، رسوماً متحركة وقصصاً مصوّرة. لا أستطيع الدخول في إيقاع المانغا، فدائماً ثمة ما يفصلني عن الانسجام الكامل مع الرسوم التي تشبه الرسوم، الأعين الكبيرة، الشَّعر المرسوم كمثلثات، أو الانفعالات الهزلية الطفوليّة بمبالغاتها المسرحية. لا أستطيع الولوج إلى عالم افتراضي لا أحبه. أنا أحب الريالست، تعجبني التفاصيل، دقة الرسَّامين في تصوير كل انحناءة للجسد، كل حجر في المبنى، وكل طيَّة في الملاءة، يسحرني التلوين اليدوي، بأخطائه الصغيرة التي تضيف قيمة، وتجعل كل رسم فريداً. يعجبني ذلك منذ افتتاني برسوم مجلة "تان تان"؛ وأنا أسرح في الكوادر الموضوعة وكأنها نوافذ تطل منها إلى العالم الحي في صفحات المجلة. لا أحب رسوم "هيرجيه" وطريقته التي يرسم بها شخصية "تان تان"، فهي طفولية، لكني أحب قصص ريد داست، وأليكس، وبرنار برانس، وريك هوشيه وغيرها من القصص الناضجة؛ إنها حية للغاية.

الآن، يدفعني التمعُّن في الجسد العشريني البُنِّي لـ "خيرات"، إلى التفكير – مثل كل مرة – في لغز جسد المرأة. أنا أميِّز كما تعلم بين الجسدين، إذ لا يبدو لي جسد الرجل ذا أسرار، أو يحمل أي شبهٍ بسحرٍ هارب من مجلة مصوَّرة للبالغين، مثلما هو جسد "خيرات" مثلاً. لقد أحببت البنات اللائي يشبهن شخصيات الكوميكس، يتصرفن مثلها، أو يحملن شيئاً من روح العبثية التي تسم الرسوم. بألوانهن، حركاتهن، بروائحهن الشبيهة بخليط الخيال والورق الرخيص وحبر الطباعة. نعم، أحب في المجلة المصورة شخصيات الأبطال الرجال التقليدية، لكني أحب فقط سمتهم العام، ومن ثم انسجامهم مع خيال القصة. أما المرأة، فأول ما أنظر إليه يكون: كيف رسمها الرسام؟

تشبه "خيرات" قصةً مصوَّرة مسلسلة، تصرفاتها خيالية، جامحة في اتزان. تتحرك في عوالم لم أظن قبلها أنها بهذا الثراء، أعني تلك العوالم الخفية رغم عريها أمام عينيّ يومياً؛ عوالم باعة الأقاشي، وتجار الحبوب المخدرة، وملمعي الأحذية الصغار. هناك أيضاً عالم المسرح الموازي الذي لا يشبه أي مسرح، لا خشبة له ولا تذاكر ولا جمهور يصفِّق. هو شيء أقرب إلى الرقص الطقسي، يمارسه فتية وفتيات في سنِّها، يرغبون بقول شيء ما، لم أدركه بعد، إلا أنهم ينفقون في رغبتهم هذه جهداً. تتحرك "خيرات" في تلك العوالم بيسر، أنتقلُ معها من كادر إلى آخر، ومن صفحة إلى أخرى، بل ومن قصة غير منتهية إلى أخرى نبدأها من حيث انتهت الحلقة السابقة، ودائماً هناك مغامرة. تجعل "خيرات" كل سعيٍ مغامرةً، حتى وإن غام عني الهدف. لكني وطنتُ نفسي على عيش قصة "خيرات"، فهي قصتي أيضاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • فصل من رواية قيد النشر
  • روائيّ سودانيّ
  • اللوحة – سخن بل الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم