"صاحبُ الوصيّةِ يموتُ أخيرًا"

1

عدت إلى الحيّ بعد أن جاءني مبعوث أبي يلهث، في حالة ما بين السعادة والتحفّز، بدا وكأنه يُنهي مهمّةً جليلة. أخبرني أن جدّي يُحتضر، أردت أن أتركَ العجين الذي بين يديّ وأسارعَ نحو الحيّ، لكنّ صاحب المخبزة ألحّ أن أكمل عملي، كنت أستجيب لأمره الصّارم عندما أضاف تعليقا جعلني أنتفض في وجهه، ربما قال "اللي مات الله يرحمو كمل خدمتك وروح".. غادرت المخبزة وقد انفرطت من دفئها إلى غضب حارق، فجأة اصطدمت بالجوّ البارد خارجها، جريت قليلًا معتقدا أنّ ذلك سيصدّ عنّي مسار التجمّد الذي تقترحه المدينة، بعد بضعة أمتار كنت أشعر بالبرد يتغلغل إلى داخلي وأنفي يسيل، لم أعرف أيّ شعور ينبغي أن أكون مأسورَه الآن، هل ينبغي أن أتذكّر كلَّ ذكريات جدّي، أم أمتنع عن ذلك إلى غاية دخول بيته؟ هناك سأشاركهم الحزن الجماعي، ذلك الحزن الذي لا يرقى كثيرا عن مستواه في الأيام العادية بمناسبة موت أحدهم، فلا لون مميز له، كما لا لون مميز للحياة هناك، ربّما ينبغي لي أن أفكّر في عملي الذي فقدته منذ قليل، لم أعد ضمن فريق العمل الليلي، وهذا ـ- على الرغم من أثره السلبي عليّ - إلا أنه خيار يمنحني اكتشاف النهار بعد أن ظللت غائبًا عنه طوال سنواتٍ، أثناء حثّي للخطى نحو ديار الشّمس كنت أستعيد غربتي في حيّي، لقد انفصلت عنه وأنا في الرّابعة عشرة، فشلت في الدراسة فشلًا متكررًا ومقصودًا، لم يكن بوسع أبي معه أن يضمن لي أكثر من توجيه إلى حِرفة تعيلني يوما ما، لم يكن الفشل أمرا خطيرا في حيّنا، أغلب الرفاق تتوقف أحلامهم الدّراسية باكرا، مع أننا نحلم مثل الجميع أن نصبح أطباء وطيارين ومهندسين.. كلُّ الذين حلموا معي بذلك توقّفوا عن الحلم سريعا وكرّسوا حياتهم للظهور ككبار، كان المخطط يفترض العمل والسعي للزواج في أقرب الفرص، أنا تمكّنت بعد أشهر قليلة من التدرّب أن أتحكّم في كلّ ما يحيط بالفرن، العجن والتقسيم والوزن وإدخال وإخراج الصّفائح المحملة بالخبز إلى جوف الفرن النهم.. ساهمت بنيتي الجيّدة في منحي صورة عامل يشقى دون عناء، الآن أنا أتجاوز العشرين بأسبوعٍ وساعتين، فأنا مولود قبل عشرين سنة في الرّابعة صباحا، ونحن الآن في السادسة وثلاث دقائق، شعرتُ بالتعب، لا بدّ وأن البردَ قد شلّ حركتي، بوسعي أن أدخل إلى الحيّ دون العبور على مقبرة النصارى، فقط أن ألتفّ على مقبرة المسلمين أو "الجبانة الخضراء" أو أدخل مباشرة من أحد أبوابها فأشرع في المناورة تجنبا للقبور، ولكنها طريق أسهل لن أسلكها، نزلت إلى يساري عبر شارع يلتزم الصّمت ولا يبدي أيّ موقف منذ الأبد، رغم أنه شارع يربط بين دينين ومقبرتين وموتى كُثْر، بلا لون ولا موقف، وبدا لي أقل رعبا مما سبق، وقفت حيث مقبرة النصارى التي ظلّ جدّي يحرسها طوال سنوات، لم أكن قد ولدت عندما قرّر أن يجد له عملًا فكانت المقبرة من نصيبه، هناك بدأت أحاول أن أجدَ ذكرياتٍ تُلائمُ الموقفَ الحزين الذي أنا عليه، حاولت أن أصف حُزني لي فأكون في قمته، جدّي الذي كان يعتني بهذه المقبرة لم يعد موجودا، ولكن ما الضّير في ذلك؟ سوف يجلبون جدا آخر ليقوم بالمهمة، لكنه لن يكون جدي، هو جدُ حفيدٍ آخر! لا يبدو أني موفقٌ في شحذ الحزن رغم أن قبور المسيحيين لفّها الحزن بكثافة كأنّها تفتقد حاديها، لماذا اعتنى جدي بتلك المقبرة أكثر من بيته، لقد كان يمسح حتى الأزهار الحجرية التي وضعوها في قفص بطول مترين وعرض متر ونصف، كانت تبهرني أحيانا لكن ليس لدرجة الاعتناء بها، قال لي جدّي مرّة: "إنهم يضعون أزهارا من الجبس والإسمنت حتى يَطول عمرُها"، وأضاف وعينه تلمع بدمعة "على الأقل لن تذبل كعجوزٍ في الثمانين"، تجاوز هو الثمانين بكثير، لا أدري كم في عمره الآن، لا أدري إن كان سيعيشُ لسنوات أخرى، أم أن الخبر الذي دشّنَ به مرسولُ أبي صباحي حقيقيٌّ، وسيموت حقا؟! ربّما يكون قد مات وانتهى الأمر، هكذا يَمنح فرصة لشخصٍ آخر ليكون عجوزا وجدّا وراعيَ مقبرة النصارى. كانت زقزقة العصافير الكثيرة تتحوّل إلى صراخ وعويل في الشّجر المحيط بالمقبرة، جدّي لم يحرس المقبرة وحدها فقد حمى طوال سنوات طويلة أجيالًا من العصافير التي لجأت إلى المقبرة، ودخل في صراعٍ يومي مع الصيادين البُلهاء، كان يعرف أن الصّيد ليلًا لا يستهوي تلاميذَ المدارس ومشرَّدي الأحياء المجاورة، فاكتفى بتطبيق كم هائل من الخُطط لمنعهم نهارا، وأصرّوا هم على مواصلة السّعي للحصول على عصفور واحد من مقبرة النصارى دون جدوى.. ربما أمكنهم ذلك الآن. تعتبر انتصارات جدّي الكثيرة على كلّ الأجيال التي حاولت الصّيد مثل سيطرة إمبراطور على بلاد لفترة طويلة وصدّه الطامعين فيها، كانت سترته الزّرقاء هي سلاحه وجيشه المجيّش، ورقيبه وعيونه على القبور والأشجار، كلّما غادر المقبرة انسحب في حرص كامل، وترك السترةَ معلّقةً حيث يراها الجميع، لهذا فإنهم ظلّوا يعتقدون أنه مقيمٌ في المقبرة ليلا نهارا، بينما كان يقضي قيلولةً مُريحة وآمنة في بيته بإحدى الغرف الشاغرة والباردة دون أن يشكو فيها من الوحدة. وصلت إلى بيت جدّي، وقد اجتمع كلُّ الجيران وأهلُ الحيّ وهم ينظرون إليّ بعين الشّفقة، حاولت أن أجدَ سببًا يجعل الناس يأسون لموت رجل يكادُ ينطح القرنَ فلم أعثر عليه، لا أذكر أن ملامح جدي كانت أقل شيخوخة، منذ رأيته قبل سنوات طويلة وهو بالملامح نفسها، الأمر الوحيد الذي قد تغير هو شكل شاربه، في البداية كان أقرب إلى الفكاهة منه إلى الصرامة، كانت لطخةٌ سوداءُ تحتَ أنفه أقلَ عرضًا من منخريه، بعدها منحه حقّ التوسع فتركّزت الصّرامة على وجهه كقبر مسيحيّ. كنت حزينا لفقدان عملي بالمخبزة أكثر من حزني على جدي الذي يحتمل أن يكون ميتا الآن، للحظة كدت أعود أدراجي إلى صاحب المخبزة وأطلب منه أن يغفر لي خطيئتي، لكنني تورطت في وسط هذا الجمع من الناس، بعضهم يمرّر يده على كتفي والبعض يواجهني بحضن صادق، والبعض يكتفي بهزّ رأسه تضامنا معي، وأنا أحيل كلّ ذلك إلى مُصيبتي في عملي، أما جدّي فقد عمل أربعة أضعاف عمري ويكفيه هذا القدر، دخلت إلى بيت جدّي الذي يقع بجوار بيتنا، كان السّائد أن أنزل درجتين لأنّ التزفيت الأخير زاد ارتفاع المنازل بما يقرب درجة، ولأني لم أزر بيت جدّي منذ وقت، فقد احتفظت ذاكرة قدمي بدرجة واحدة، ألقيت رجلي فلم تصل إلى الأرض وبدا أن نهايتي ستكون سيئة، في أقلّ من ثانية كنت ممدّدا في وسط الفناء وقد تلطّخت ملابسي بماء الغرف التي تعمل النسوة على تنقيتها، صاح الجميع تضامنا معي "المسكين لا يستطيع الوقوف"، "حليلو جدو الدايم ربي"، "عاونوه ينوض واعطولو حاجة حلوة".. عندما صلبت طولي كان أبي يشير إليّ بالدخول إلى غرفة جدّي، وقبل أن تطأ قدمي عتبة بابها انخرطَ في بكاء شديد كأنه أجله إلى غاية حضوري، في تلك اللحظة أردت أن أقول له "عليك أن تتأكّد أني لن أبكي موتك بهذا الشّكل" لكنني تضامنت معه لفترة قليله، ثمّ دفعني وهو يمسك بيدي لأرى وجه جدّي، ما الفرق؟! يبدو وكأنه نائم، انتظر الجميع موقفي، دخلوا ليروا ما يفعله الحفيد المفجوع، كأن الأمر يتعلّق بمتعة بالنسبة لهم، قد تكون موضوع حديث لأيام، لكنني لم أخضع لهذه التجربة في أيّ وقت، ربّما يجب أن أبكي وأصرخ "لا يا جدي.. لن أعيش بعدك"، الأصحّ أنني سأفعل المستحيل لأظلّ بعدك أطول وقت يمكنني خارج ديار الشّمس، الأجدر بي أن أقول "متَّ متأخّرا وأخذت عملي معك"، كنت أفتّش عن الكلمات المناسبة لشابّ في العشرين من عمره يفقد جدّه الذي لم يره منذ سنة رغم أنه لا يفصل بينهما سوى جدار بسُمكِ ثلاثين سنتيمترا.. "الله يرحمك".. ها قد خرجت من فمي عبارة مؤثرة جدا، وانطلقت بعدها همهمات من الحاضرين "آمين"، "الله يرحمو"، "عاش ما كسب مات ما خلّى"، "خلاكم رجال". تدخّل صوت ما ليحثّ الجميع على الاستعداد "جهزوا الميت ودوروا على أحوالكم"، عندما بدأوا في المشاورات حول تجهيز الميت انصرفتُ متّجهًا إلى بيتنا، وقد التصق بذهني جسم أبي وهو يؤكّد أنه جهّز بالفعل كلّ شيء قبرهُ، كفنهُ وما يتدبّر وليمة للجيران والأقارب. أثناء خروجي من بيت جدّي نحو بيتنا تقاطعت مع عمّتي كلثوم، دخلت إلى المنزل مثل عسكريّ لا كلام ولا تحيّة، ملفوفة في ملحفتها وبعينها الوحيدة، كانت عمّتي نموذجا حديثا عن "السيكلوب" اليوناني ذي العين الواحدة، أو كأنّها إبرة متضخّمة في ثوبها الذي أصبح رمزا لها. ارتميت في فراش شقيقي وأنا أفكّر بقليل من المنطق في فكرة الحياة، هل كان جدّي حيا فعلا كي يموت؟ لقد أمضى عمرا بين الموتى، وهل سكان هذا الحيّ يعيشون أم يتوهمون الحياة؟ إنه فضاء من المقابر، كأنها جزيرة يُنقل إليها المعاقبون، من إذن هذا الذي عاقبنا جميعا ووضعنا في حيّ ديار الشّمس، بدل أن نسكن السّجن المحاذي له؟ واجهتني في غرفة شقيقي ثلاث رسومات غريبة، في الجدران الثلاثة للغرفة، الرّسم الأوّل لطَيْف امرأةٍ ورجلٍ في حالة عناق ربما، أو أحدهما يخنقُ الآخر، الرّسم الثاني لرجل يمسك خنجرا مزروعا بقلبه، ونقاط كأنها الدّم تتخلّص من أسر القلب، والجدار الثالث يحمل رسما مركّبا، لثلاثة وجوه خلف بعض، كأنها في صفّ نحو الجحيم، وتقرأ كل عين القفا الذي يسبقها، كأنهم امرأة ورجلان يتبعانها.. لم أعد أرى أخي منذ وقتٍ طويل، بل إن الجميع نسي أمره، كنت أشاهده يعبر أمام المخبزة يأخذ خبزة من البائع ويخرج في أسماله دون أن يحّدث أحدا، لكنه في الفترة الأخيرة غاب تماما عن الأنظار.. وقفتُ وتأمّلت رسومَه التي تركها على الجدران الثلاثة، نقشها بتفانٍ وبدقة كأنها وصيّته لنا، ولكن أين اختفى؟ عندما دخلت أمّي وارتمت عليّ تبكي لم أستوعب ذلك، هي لم تكن ابنته وموتها يخدمها فقد نتوسّع في بيت جدي بعد أن أصبح فارغا، ولا وريث له إلا عمّتي التي لا تهتم كثيرا لأمر البيت، ثمّ إنها تودّع خدمته المضنية وطلباته المتعدّدة، تأمّلت حزنها، فوجدتُه حقيقيا، في الحقيقة إنّ أمّي كانت تبكي وضعها، أكثر ممّا تبكي وفاة جدّي، كانت تبكي ابنها الخفّاش الذي لا يلتقي الناس بسبب عمله الليلي، وابنها المعتوه الذي غادر دون أثر.

2

بعد أن صلينا على ميتنا- وكنت أصلي مجدّدا بعد سنوات من توقفي عن ذلك- همّ الشباب بحمل النعش والإسراع به إلى المقبرة فتدخّل أبي وطلب مني أن نحمل نعشنا ونمضي به.. حملت النعش وأنا مدفوع بجموع الماشين في الجنازة، تدريجيا لم أعد أنا الذي يحمل النعش، وأصبحت متشبثا به ثمّ تحوّلت إلى شيء لاصق بالنعش. نسيت أننا نتّجه إلى "الجبانة الخضراء" وتصوّرت أن جدّي سيُدفن إلى جوار أصدقائه الموتى المسيحيين في مقبرته، كنت أتخيّل أيّ قبر سيتّخذ هذا الذي ملك كلّ القبور، لكنّ خيالي توقّف عن ذلك بمجرّد الدّخول إلى مقبرة المسلمين، واشتدّ صياح الجميع في فريقين، أحدهما يردّد "لا إله إلا الله" والآخر "محمد رسول الله"، وفجأة توقّف الجميع لا يعرفون أين يتجهون، نطق الشّيخ "الماحي" موجّها الكلام لأبي "يا لخضر هاه ها ورّاه قبر بويك؟" وبدا وكأنّ أبي يلتحق بشقيقي فلم يجب، كرّر الشيخ الماحي السؤال فاضطر أبي إلى القذف بخطوات إلى اليمين ثمّ إلى الشمال، قبل أن يصدر جملة واضحة من شفتيه اللتين لم تكفّا عن التحرّك "يا الطالب كان القبر هنا" وأشار بأصبعه إلى عمق المقبرة حيث العشرات من القبور، وشرع الجميع وكأنهم يبحثون عن طفل مفقود، كلّ يسعى لترجيح احتماله، كان جدّي قد قرّر أن يحفر قبره بعد وفاة جدّتي منذ واحدٍ وعشرين سنةً، وأسبوع وعشر ساعات، فهي ماتت قبل مولدي بسنة كاملة بالتمام والكمال كما ظلّت تردّد أمي، ونحن الآن في الساعة الثانية زوالًا. حفر إذن القبر وأغلقه كأن بداخله ميتا وأحضر أخي الذي كان طفلًا وأبي الذي كان كهلا وعرفا مكان القبر، وانتظر أن يموت في الأشهر الموالية، لكنَّ رغبته بدأت تخفُت وأقبلَ على مقبرة النصارى بشغفٍ أكبرَ من قبل، وهكذا.. نسي هو أنه سيموت، ونسي أبي أمر القبر، ونسي الجميع أخي. بقينا على تلك الحال لساعة ونحن نبحث عن القبر المحتمل، فيؤكّد البعض أنهم شاهدوا جدي وهو يحفر ولم يكن قبره بعيدا بأكثر من عشرين متراً عن مربع الشهداء، ويقول البعض لم يكن كذلك، فقد شاهدوه وهو يحفر أمام المدخل الآخر قرب السّور، وأبي ينفي الفرضيتين ويشير ببلاهة إلى عمق المقبرة الذي تتدافع فيه القبور، ثمّ قرّر الشيخ الماحي أن نحفر قبرا جديدا ونقبر الرّجل، وكثر اللّغط فرفض نصفهم القبر الجديد ما دام الميت قد ترك وصيته وحفر قبره، وناصر البقية دعوة الإمام الماحي لتجديد القبر، أما أنا فكنت مشدوها من الصراع الفكري الذي نشب فجأة في مقبرة المسلمين، من أجل رجل خدم في مقبرة النصارى.. انسحبت من الجدل القائم وتجوّلت بين القبور أقرأ شواهدها وأحسب أعمار الموتى، وجدت أنّ جدي قد تفوّق على الجميع، عمّر بعد أن حفر قبره عقدين من الزّمن، لهذا فقد قرّرت أن أحفر قبري عندما أبلغ الستين، وسأكتفي بثمانين سنة أعمل ستين سنة منها في مخبزة محترمة، فأضمن الخبز لأهلي، سبع خبزات كلّ صباح بالإضافة إلى أجري.. فجأة حملوا نعش جدّي، اعتقدت أنهم قرّروا العودة به إلى أن يعثروا على قبره، أو لعلّه أفاق من موته وسبّهم وقرّر أن يدلّهم على القبر، عدت أرى ما الجديد فوجدتهم قد اتفقوا أخيرا على حفر قبر جديد، والساعة الآن تشير إلى الرابعة مساء، ما يعني أني تجاوزت العشرين بأسبوعٍ واثنتي عشرة ساعة، نصف يوم يفصلني لأدخل الأسبوع الثاني بعد العشرين. حملوا نعش جدّي واتجهوا به إلى أقصى جنوب المقبرة، حيث وجدوا قبرا محفورًا ومُهيّأ، سرعان ما جاء موكبه، دخل أصحاب الميت الجديد بعد صلاة العصر، بينما ما يزال ميّتُنا ينتظرُ دورَه في الدفن، إنه دَفْنٌ عسير بعد عمرٍ طويل، طلب الشيخ الماحي من القادمين مع جدي الانسحاب والتوجه إلى أقصى شمال المقبرة لإتمام مراسم الدفن العسير، واتجه الجميع في موكب صامت هذه المرة إلى أقصى الشمال، عيون الجميع على الباب الشمالي فربما يدخل موكب ميت آخر، فنعود إلى موقعنا الأول.. قرّر الإمامُ أن يحفر القبر في مكان ما، لكن حفار القبور عارضه، وشرح له الأسباب العلمية والمنهجية التي تتعارض مع ذلك فاقتنع، وانزاح به أمتارا نحو قلب المقبرة إذا افتُرض أنّ لها جسدا. عندما تأهبّ حفّار القبور ليضرب الفأس الأولى صاح به أبي: "لن يحفر قبر أبي أحد غيري...أنا من ضيّع وصية والده أنا من ضيع قبر أبيه"، وامتلأت عيناه دمعا بينما كانت يده تمسك مقبض فأس الحفار، هذا الأخير لم يطلق فأسه وبدا أكثر إصرارا على إتمام مهمته، وأكّد لأبي أنّه لن يطلب مالا مقابل ذلك، لكن أبي أكد له أن المال لا يعيد الموتى، وأنه فقد والده ولا يفكر الآن في المال، فلو عرف أن مال الدنيا يعيد له والده لدفعه. كدتُ أُوقِفُ هذا العرض الساذج وأضرب رأسيّ المتحاورين، فأبي لا يملك مال الدنيا ولو ملكه فإنه لن يعيد له جدّي، وسيكون من الغباء أن تدفع مال الدنيا من أجل رجل كجدي قطع عمره بالطول والعرض وملّ من الحياة، وربما أكل عليه الدهر وشرب وتبوّل أيضا، في حين يشكو كلُّ سكان ديار الشمس من العوز المزمن والفقر المدقع. وحفار القبور الذي أظهر لهفًا لدفن جدّي كأنه قاتله لا يحتاج إلى قبر جدّي كي يشفى من عقده. أصبحت السّاعةُ السادسةَ والنصفَ، هكذا قال أحدهم، وقد دخل المقبرة ثلاثة موتى جدد بالإضافة إلى جدي، دُفن الجميع وما يزال جدّي ينتظر، حفر أبي القبر مقوسا، فعلّق أحدهم "هل سيدفن والده راكعا؟"، ورغم أن الجميع أرداوا التدخّل لتصحيح الوضع إلا أنه ظلّ يبكي ويصرّ أنه من سيحفر قبر والده، عندما همّوا بدفن جدّي تعّذر عليهم الأمر فتدخّل حفّار القبور يعدّل ما أفسده أبي بشراهة وهو يتمتم بما لا أسمعه. في الساعة السابعة والنصف دفن جدي ورفع أذان العشاء فانصرف الشيخ الماحي إلى المسجد بعد أن أمضى ثلاث صلوات في المقبرة ينتظر إتمام الطقوس التي لم تتمّ بسهولة، ستغرق موت جدّي عشر دقائق، ودفنه عشر ساعات كاملة.

3

في شارع بيتنا وبيت جدّي كان الجميع مستعدّين لتناول "عشاء الميت" الكسكسي واللّحم، وحقّق أغلبهم مأربه عندما بدأت "قصع" الكسكسي تدخل فارغة وتخرج ممتلئة، ولعلّ جدّي أصبح نسْيًا منسيًّا منذ دُفن، قبل ذلك كان الجميع في المقبرة يتذكّرون مآثره من حكاية "اليقطينة الغريقة"، إلى موت زوجته، إلى حفره القبر إلى كبش العيد الذي لم يذبح في العيد، ولم يعد بوسعي تحمّل هذا العالم أكثر من ذلك، قرّرت أن أعود إلى البيت وأنام قليلا وفي الغد أجد لي عملا في مخبزة أخرى في حيّ آخر، أمي علّقت على موقعة المقبرة "كلّ واحد يعرف وين يدفن أمه" لماذا يتدخّلون في شأن لا يعنيهم، أرادت أن يأخذ "لخضر" دوره كاملا ويقرّر أين يدفن والده، لكن أبي المسكين لم يكن يوما بتلك القوّة، وانصاع لرأي الجماعة والجماعة المضادة، وشدّني كم كان الجميع منشغلين بالموت ساعتها، كأنه الوضع الوحيد الذي يتيح لهم التأكّد بأنهم كانوا موجودين، أتصوّر أن أقصى ما يتمناه سكان هذا الحيّ المنسي أن يموتوا، فينالهم احتفاء بأسمائهم وأعمالهم وما كانوا، لأنه لا أحد يحلم بما يكون.
 في غرفة شقيقي أعدت قراءة رسوماته الخُرافية ولم أفهم منها الكثير، لكنها كانت ستبدو أكثر إثارة لو أنه رسمها على ورق، وبمناسبة الورق كان أخي مولعا بالسرّية في الفترة الأخيرة، ولم أر أيّ شيءٍ كان يكتب، أمي قالت إنه يخرج كلّ يوم ليحضر ورق تغليف اللّحم الذي يستخدمه الجزّارون، وينكبّ عليه بقلم الرّصاص. اعتقدت أن شقيقي كان يرسم، وأغرتني لوحاته الثلاث لأرى ما الذي فعله أيضا، فتّشت وعثرت سريعا على أوراقه، كومة ثقيلة من الورق تحت سريره، قلّبت حتى تعبت ولم أعثر على شيء، لا وجوه ولا أجساد ولا خناجر، ما الذي كان يفعله بالأوارق؟ واصلت تقليبي في الورق لأعثر أخيرا على صفحات واسعة من الكتابة، كان يكتب ولم يكن يرسم، شعرت ببعض الخيبة فلم أعثر على إدهاشه في الرسم الذي كدت أسلّم به، لكنني قرأت عبارةً .. جعلتني أتوقّف عن الخيبة وأشعر بأن الأمر يتعلّق بشيء مختلف "هذا كتابي، وقد ضمّنته ما رأيت وما سترون، أنا رجل من حيّ ديار الشمس، أملك قبرا في الجبانة الخضراء، يفترض فيه أن يكون لجدّي، لكنه عصيّ على الموت لهذا فسيكون لي، أملك حكايات في مقبرتي النصارى واليهود، سأكتب الوصية دون توجيه أيّ أمر، فقط حاولوا العثور عليها وتنفيذها، أتمنى على الذي قرأ الوصية أولا أن يتحمّل مشقّة تنفيذها، لا تتعجّب كثيرا مما ورد فيها، ولا تدعوني بعد هذا الكتاب معتوهًا أو درويشًا أو مجذوبًا، ادعوني فقط باسمي وسأرضى، ألم يكن لي اسمٌ؟". 
  في الساعة التاسعة كنا قد فرغنا من دفن جدّي بعد عناء، وكانت موائد عشائه تصنع الحدث في الحيّ، أما أنا فقد بدأت أقرأ كتاب شقيقي بحذر، فجدّي لم يتحقّق له الكثير مما أوصى، أقرأ في سرّي لكي لا يسمع أحد وصيّة المعتوه، ولأضمن تنصّلي من أيّ عبء قد يرميه صاحب الكتاب عليّ، وتتصاعد حالة القراءة حتى أكاد أغيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • إسماعيل يبرير: روائي وإعلامي جزائري، كانت روايته “وصية المعتوه، كتاب الموتى ضد الأحياء” قد فازت بجائزة الطيب صالح العالمية في الروايةفي 2013، كما كانت روايته “ملائكة لافران” قد فازت بجائزة الرئيس الجزائري سنة 2008، ومسرحيته “الراوي في الحكاية” بجائزة الشارقة للإصدار الأول العام 2012.

smailyabrir@gmail.com

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم