"العودة"

"سقوطٌ مدّوٍ"، هكذا قال المَلَك عن يميني. انشقّ الهواء أمامي، حتى أنني رأيت ذراته تغلّف قطرات حمراء وقد أدركها شعاع نور ينبثق من باطن العدم. لا أسمع صوت ضربات أمي بيدها فوق الأغطية المفروشة على النافذة وذرات الغبار المضيئة تتناثر من حولها، ما من قطرات ملونة تتطاير من ترعة "أبو خليفة" وتسقط فوق أهدابي،لستُ موجوداً،لستُ هنا أو هناك... تزحف أحزمة النور تدريجياً لتحتل ظلمةً تملأ البصر. حُملتُ على أجنحةٍ قوية تنثر حبات اللؤلؤ، كل لؤلؤةٍ تُنبت جناحاً جديداً. المَلَكان يشرعان في سؤالي، أقول لهما:"هناك خطأ ما، هل تعرفان أنِّي شهيد؟"يَخِزني الملك عن يساري بجناحٍ فضيّ، يحدّثني ولا أسمعه، فيقول الملك عن يميني:"إنّا منتظرون لنصطحبك إلى هناك". أقولُ: "إلى أين؟" أصبح لساني ثقيلاً، تجهدني الكلمات،أجيباني! لا أحد يجيب. تبدّلت أجنحة اللؤلؤ بأخرى من رمال، عصفت بها الرياح فتخللتها وضيّعت ملامحها. وجدتُ روحي تسقط ثانيةً والظلامُ يحتلُّ بصري من جديد. هل بإمكان الميّت أن يفتح عيناً؟ أن يرفع جفناً؟ أشعر أن تلك مخاطرة كبيرة،ولكن ما الضرر؟ سأحاول. لا أستطيع أن أرى جيداً، كل الأشياء تتماهى وتتداخل، بإمكاني تمييز صوت واحد فقط، أعرفه،أعرفه جيداً. –ملازم طه...طه...أفِق... أفق أرجوك...أعرف أنك حيٌ... – من؟ شاويش إلهامي! أين أنا؟ –في النقطة الحصينة يا بطل. لا تخف، أنا معك، لن أتركك. –ما الذي حدث؟ –بعد استشهاد عبّودة، هبطتَ من أعلى التلّة لاصطياد الدبابات التي تهددنا، أصبتَ واحدة بقنبلة انفجرت فيها بعد ثلاث ثوانٍ، وفي طريق العودة إلى أعلى أصابتك قذيفة من الدبابة الثانية. صوّبتُ الـR.P.Jعلى عجلة الإدارة فتعطّلت ووصلت النيران إلى داخلها فانفجرت هي الأخرى، ثم فرّت الدبابة الثالثة. استطعنا سحبك من داخل هذا الجحيم وربطنا جرحك والحمد لله كُتبت لك النجاة، الحمد لله. – لا أستطيع أن أتحرّك.إنني أفتح عينيّ بصعوبة. اتركني هنا واذهب. –ملازم طه، انظر، لم أنقذك كي أتركك، ستنهض وتأتي معي وسنعبر إلى الضفة الغربية كما جئنا. سنأخذ طريقاً وعراً بعيداً عن كثافة النيران وبعيداً عن عيونهم. انهض. احتضن الشاويش إلهامي جسدي بقوة ورفعني إلى أعلى وبدأ يساعدني على المسير.فتّحتُ عيني بصعوبة لأنظر إلى قرص الشمس، صادف أنها كانت تسقط سريعاً في الأفق، لم يكن غروباً، بل اختباءٌ أو أن الشمس تُحرِّض كلينا على ضرورة الاختفاء، هربتْ وتركتْ دماءنا في قلوبنا عالقةً بين السماء والأرض.ليس خوار جسدي وحده الذي يردّني عن المسير.ليس في إمكاني أن أطأ تلك الأرض المخضّبة بدماء إخوتي. إخوتي يرقدون هنا. أنا أيضاً مازلتُ أرقد هنا. يريدني إلهامي أن أواصل المسير.جرحي ينزف من جديد، جرحي الجديد. أزيز الطائرات، زمجرة الدبابات، خوذة عبّودة وبقعة دم داكنة بدلاً منه. عيون القردة مازالت تحاصرني من كل جانب، ذيولها تلتفّ حول رقبتي.مِلحٌ على جلدي...ملحٌ على جرحي! آهٍ يا أمي...اكبسي جرحي بتراب الفرن كما فعلتِ يومَ شجّ رأسي حجرٌ أوقعتُ به طرح النخلة العالية في أرض الجمل. يهمس إلهامي: –الملاّحات أمان.تحمّل أرجوك حتى نصل إلى الشاطئ. سنختبئ في هذا التجويف حتى يحلّ الظلام. جلدي يحترق! لا أستطيع الصراخ.هل سأصل إلى الشاطئ؟ وكيف أعبر وأنا أنزف؟ كيف وأنا أقف بالكاد؟ ستائرٌ سود تُرخَى أمامي، والهواء ينفثُ فيأذني كأنها فارغة. أقبل الليل وإلهامي يجرّني إلى الماء، يهمس في أذني أنّ علينا السباحة ببطء شديد كي لا يكشف اليهود المتربّصون حركتنا في القناة. هل ما يحدث الآن حقيقي؟ في غمارٍ من التدريبات القاسية والليالي الطويلة كنّا نحسب أنهم يبالغون، وأن ما يفعلونه بنا ضربٌ من التعذيب. لم يخطر ببالي أنّي سأسبح بيدٍ واحدة وأنا مصاب وأنزف تحت مظلة الليل،وأني بيدي الأخرى سألملم لحمي المتهتك.كان من المفترض أن أموت.البقاء على قيد الحياة مفاجأة كبيرة لي لم أخطط لها. لا أرى من القمر إلا شبحاً يطاردني.أرتجف في الماء كذيل سمكةٍ كبيرة تسبح بقربي. لا أذكر كم من الوقت مرّ ولا يهم.يبدو أن النهاية وشيكة على أي حال! – لن أكتم أنفاسي أكثر. لن أسبح أكثر. اتركني وامضِ يا إلهامي. – حضرة الملازم، ها هي الضفة، وصلنا، وصلنا يا بطل. أصواتٌ كثيرة، ضجةٌ كبيرة في الخارج.لا، ليست ضجة، إنها الصلاة. الخطيب يدعو:"اللهم انصر قواتنا... اللهم أهلك أعداءنا"، كل البشر في صوتٍ واحد:"آمين" يهزّ الجدران، ترتجّ له الأرض من تحتي.أريد أن أراهم، سأنهض وأطلّ من تلك النافذة، سأدع دموعي تنهمر الآن، الآن فقط بإمكاني أن أبكي، فرحاً وحمداً وحباً.الطرقات مفروشة بالعباد، صلاة الجمعة المشهودة على الأرض المحرّرة،أرض بلادي. لا أصدق أن أسبوعاً قد مرّ. مازلتُ حيّاً، ورغم نقلي عدة مرات على مدار تلك الأيام ولكنني أستطيع أن أتذكّر كل شيء. نقلني طبيب الكتيبة إلى مستشفى الزقازيق الجامعي، سمعتهم يهمسون: "يا له من جرحٍ غائر، يحتاج إلى تنظيف قبل أي تدخل جراحي.يبدو أنه نزف كثيراً، لا بدّ من نقل الدم فوراً"، ثم نقلوني إلى هنا، مستشفى كوبري القبة العسكري. صعد إليّ الطبيب ليلاً وأنا أرتجف من الحمّى، طلب مني النزول في كرسي متحرك بصحبته إلى أسفل حيث أهلي وجيراني ينتظرون ولا يريدون المغادرة إلا بعد رؤيتي.دفع الطبيب الكرسي ورأسي مربوط من كل جانب. رغم الإعياء الشديد وعددهم الكبير فقد التقطت عينيّ أمي من بينهم. بمجرد رؤية نبيات بدأ قلبي يبحث عن عينيّ لبنى، ولكنها لم تكن موجودة. زاحمت أمي الجميع،وأبي لا يستطيع اللحاق بها، حتى وصلت إليّ، جلست عند قدمي تبكي. أقول لها:"أنا بخير يا نبيّات،بخير يا أمي".تفتّش في جسدي كله، تسأل عن رأسي فيرد الطبيب عني. وجدتُ أبي أمامي... لا أدري أي الأحزان بإمكانه أن يجعلك تبدو هرماً هكذا يا أبي! هل تحبني إلى هذا الحد؟ يصيح الجميع: "حمداً لله على سلامتك". يهمس الطبيب في أذني بأن عليه أن يصعد بي،فطلب من الجَمع الانصراف والمجيء في مواعيد الزيارة تباعاً. صعدتُ ورائحة طرحة أمي عالقة بروحي، واكتشفت لأول مرة منذ أيام –مرّت كسنواتٍ طِوال – أملاً جديداً يولد في قلبي كي أرى حبيبتي. وجاءت لبنى، واخضرّت صحراء سيناء في قلبي،كان اللقاء أعذب من ساعات النوم القليلة التي لا أتألم فيها، أكبر من ابتسامة مطمئنة أرقبها على وجوه الأطباء إذ يكشفون جرحي الذي لم أره بعد، أرحب من صدر إلهامي الذي حملني وأنقذ حياتي. لبنى تجلس فوق سريري، إلى جانبي تحتضنني، أشمّ عبق الفقدان في ملابسها، يشبعني الشوق في عينيها ويشمّلني الحنان بين يديها، لا يعنيها أحد كعادتها ولا تلتفت إلى رفيقَيّ في الحجرة ذاتها. في غيابها كانا يغبطانني عليها وكنتُ مغبوناً من دونها. كعادتها أيضاً تفهمني من دون كلمات، قالت: "هيا يا طه لتغتسل"، هي تعلم أن لا أحد بإمكانه أن يفعل ذلك غيرها، لا أستطيع أن أطلبه حتى من أمي نفسها. أجلستني في المغطس الصغير ونظّفتني كطفلٍ مدلّل، من أوساخي وأحزاني ودماء إخوتي المتناثرة على جسدي... لبنى أنا بشكلٍ آخر... في جسدٍ آخر. سامحيني يا حبة القلب.الحياة مفاجأة كبيرة لي لم أخطط لها. بدأت رحلة العلاج، علمتُ أن القذيفة اخترقت الأذن اليسرى وسبّبت تهتكاً في الجزء الملاصق لها من جانب الرأس، فقدتْ على إثرها الأذنُ اليسرى وظيفتها، وذلك هيّن بالنسبة للجرح الغائر في جانب الرأس، لم يكن في إمكاني رؤيته، تنظيفه وتمرير "فتيل" طويل يومياً بعد غمره في صبغة اليود الحارقة يسلبني أنفاسي على يد حامد التمرجي،الذي كان أول من صارحني عندما طلبتُ منه أن يصف لي جرحي، فقال: "هو ككتابٍ مفتوح يا بني". نُقلتُ إلى مستشفى متخصص في جراحات التجميل لإجراء جراحة وراء جراحة ثم انتهى بي المطاف إلى المعادي العسكري. لم تستطع لبنى أن تتردد كثيراً عليّ لبعد المسافة وبسبب تضييق أخيها.ازداد حزني خاصةً عندما أبصرتُ رفيق حجرتي الجديد، نبيل،الجندي المقاتل الذي فقد بصره ويده اليمنى إثر انفجار قنبلة. دخلت شابة في زيارةٍ له، لم تنطق بكلمةٍ واحدة، خلعت خاتمها من يدها اليمنى ووضعته بهدوء إلى جانبه وأشارت إليّ كي أبلغه بعد انصرافها. حاولتُ مراراً، رفضت الكلمات أن تخرج من فمي، ثم استجمعتُ قواي وأخبرتُه. انهار نبيل تماماً، بكى كالأطفال، قال لي: – هل تعاقبني لأنّي أضعتُ خاتمها من يدي المبتورة؟ أم لأن عيني المنطفئة لم ترَ اللصّ الذي سرقها؟ وضعوا الكثير من الزهور فوق أسرّتنا، زارونا وغمرونا بكلمات الشكر والعرفان، فلم يكن بوسعهم أبداً أن يعيدوا ولو شيئاً صغيراً مما فقدناه هناك فوق الرمال... مثل خاتم زواج في يدٍ مبتورة!

ـــــــــــــــــــ روائية مصرية. صدرت رواية "الفيشاوي" عن دار الساقي في بيروت 2016م.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم