"الفصل الأول.."

"فنتازيا النزول" "آدم... يا أدم. أما آن الأوان للإنسان أن يكون . فساعة يعرف نفسه.. واحدة ترتدي أشهى قمصان القصيدة.. وبحكمة كاهنةٍ أنثى.. تأتي إلى دمعتي وتشربها من أول فمي حتى آخر ثورة في الغرام المنتمي". مقطع من خاطرة قديمة لي

نزل آدم وزوجته حواء تحت ظل سدرة خضراء قرب مكان يلتقي فيه نهرا ميزوبوتاميا ( دجلة والفرات) في مدينة القرنة جنوب العراق. وفي أديم النص السماوي والأسطوري والحكائي الشعبي لقصة النزول تنتشر الرؤية في خيال البشر، ومنها يأخذ البشر العِبر والرسامون الصور. وتبقى قصة التفاحة من بعض أسباب هذا النزول. لهذا حين نوى أحد المعلمين على تكملة نصف دينه وجلب صندوق تفاح إلى المعلمين والتلاميذ ليوزعه عليهم لمناسبة خطوبته، وجدتها مناسبة لأزرع في ذهن التلاميذ البدايات الروحية والقصصية لقصة نزول أبي البشر آدم وفي مكان قد لا يبعد سوى اربعين ميلا عن قرية ام شعثة حيث تقع مدرستنا. برحمته وبصفاء دمعته الحزينة شاهدت ملامح آدم لأول مرة في عيون أطفال الأهوار، وثمة سعادة مشتركة بين الإثنين، ولأنني لا أعلم ان كان الأطفال في قريتنا قد سُمحَ لهم في مناسبة ما أن يقضموا التفاح الأحمر بتلك السعادة واللذة التي اراها في عيونهم عندما قلت لهم : وانتم تأكلون التفاحة استمعوا الى حكايتها. فجأة انبرى (مسعد) أذكى التلاميذ فطنة وسألني والتفاحة تملأ فمه: أستاذ لا توجد امرأة في قريتنا اسمها حواء ولا يوجد فيها رجل إسمه آدم، وعندما اتزوج مثل معلم القراءة الذي نأكل تفاحة عرسه اليوم وانجب اولادا، البنت سأطلق عليها اسم حواء والولد آدم. وحتماً بعد هذه السنوات الطويلة ربما كانت قصة النزول قد منحت أولئك الصغار في شبابهم شيئا، فهناك من استعان بدمعة النبي يوم أمرهُ الرب بالنزول الى الارض ومغادرة الجنة، لكي تشفع له وتحميه من شظايا الحرب، وهناك من استمع الى نصيحة (مسعد) الذي انتحر في يوم ما وغادر الحياة دون أن يتسنى له ان يسمي من يخلِّفهم بأسمي ادم وحواء وربما غيره فعل ذلك . غير أن تلك التفاحة الحمراء التي كنت أشاهدها تذوب سعادة في افواه التلاميذ الذين لا يرون ويتذوقون الفواكه إلا في المناسبات البعيدة بقيت تعيش في مخيلتي وتعيد اليِّ ذكريات انشداد التلاميذ لتلك القصص التي كنت أريد بها ان اعبر معهم الى العالم الاخر بعيدا عن غابات القصب والماء وقطعان الجواميس وهي تنسل من لذة الماء لتعود لتشخر الليل كله في زرائبها بعد حلبها. تعيش كلما تصادفني قصة نزول النبي على الارض مرسومة بفسيفساء ملونة في سقف كنيسة أو لوحة في متحف أو تحت اجفان امرأة تحمل اسم حواء حتى لو كانت من بلد افريقي إسمه مالاوي . النبي بقيَ دالة لنزول الذكريات على رأسي، وكل قصيدة او اغنية تحمل شيئا من حكايته توراتية كانت أو اسلامية، أعود مسرعا بمشاحيف الذكريات واتمنى أن اقف أمام البشر الواقفين على رصيف محطة قطار دوسلدورف ينتظرون معي وصول القطار الذاهب الى بروكسل، وأعيد قص الحكاية ذاتها التي كنت ارويها لتلاميذ مدرستي. وذات يوم عدت لأزور القرية لمجرد استذكار الامكنة واصحابها لأرى أن اغلب الكبار غادروا الحياة والتلاميذ كبروا وانجبوا، والمفاجأة السعيدة التي أعادت اليَّ تلك اللحظات الجميلة يوم كنت أقف امام تلامذتي وأنا اروي لهم قصة نزول آدم وحواء اني رأيت ولدَيْ مكسيم ابن طيب الذكر شغاتي، البنت اسمها حواء والولد يحمل اسم آدم.

أول رحلة فضائية هبوطا من السماء الى الأرض كان ركاب الرحلة اثنين فقط. ذكرٌ إسمه آدم، وأنثى تدعى حواء . هبطا بمظلة او جنح طائر أو بمساعدة ملاك، لا أعرف ؟ ولكنهما الآن تحت ظل شجرة سدر قريباً من ضفاف نهرين يلتقيان في مكان جنوب أور بحوالي مئة ميل . اليوم السبت . لماذا السبت. لكني أشعر أن لحظة النزول كانت في هذا اليوم وبعد الظهر . أظن أن السبت هو سبات الاشياء، ولأن الطريق طويلة فإن الهابطَيْن الأولين اخذا غفوة مارسا فيها السبات الى اليوم الثاني، فشعرا انهما لم يزلا متعبين فأعطا يومهما الثاني (الاحد) عطلة، وفي اليوم الثالث (الإثنين) هو إشارة البدء بالنسبة لهما معنى أن يبدأا بالحياة العملية، فكان التفكير الأول ان ظل السدرة التي هبطا تحتها لا تقيهما حرارة ظهيرة المكان وشعرا ايضا أن ندى الصباح الهاطل من ورق الشجرة يبللهما، فكان التفكير الاول لآدم ان يجد ما يسترهما وما يقيهما شعاع الشمس، فكان بدء حاجة الجسد بعد المجامعة هي الثوب والسقف. وهكذا بدأت الحياة من حاجة، وتطورت الحاجة الى الحاجات، واحتاجت الحاجات للتنوع وتغير امكنتها وتتسع، وتصبح تضاريسَ وجغرافياتٍ، أسسها هابيل بعد موت قابيل ـ وطورها ابناء هابيل بعد موت ابيهم وجديهم . هنا في القرنة اتسع المكان، انتشرت صرائف القصب مثلما ينتشر النخيل على الطين البارد، أولا قرب ضفاف الانهر والسواقي ومن ثم ذهب جنوباً الى حيث يتحد النهران ويكونا نهرا واحدا ويصبان في البحر العميق. قي تلك الامكنة ولد الظل ليصبح ظلالا كثيرا وتحته كانت تقام الشعائر وتتلى الصلوات وتتبادل قبلات الغرام. وتحتها يستريح الجد من لهاث تعب اليوم وهو يشاهد بسعادة ان البساتين تذهب الى الابعد والصرائف تتجمع مع بعضها في إلفة العيش وتصير قرى . ولهذا فضّل ان يكون بلده الأول وما حوله قرى من القصب فقط .لم يرد لها لتتسع، وعندما شاهد واحدا من احفاده يبني حائطا من الطين والحجر، رفسه بقدمه وهدمه وقال :ما دام آدم حيا، ابقوا على القصب سقفا لأحلام ليلكم. أما الطين فهو بركة لمسح الجباه فقط . لم يعرف آدم حساب الأعمار لأنه كان يعيش اليوم بحساب رغبته لتأسيس ما يقيه البرد والحر ويصلح بين نزاعات خلفها شجار قابيل وهابيل. يعيش يوماً ليوم آخر يعرف أنه سيأتي بعد اغفاءة ليل . لم يجدول غده، ولم يضع تصورا لما سيفعله، لأنه كان يمتلك شعورا غامضا، إنه هبط بقدر وما سيجيء بقدر. وكل انشغالاته هو الاعتناء بمستعمرته الصغيرة التي عاش فيها مع بعض من احفاده رفضوا ان يغادروها ويبقوا بصحبة جدهم الكهل وجدتهم العجوز التي جعلت من بيت القصب ومطبخها الصغير سلوى تنسيها السهو الذي جعلها تطيع ابليس وتقضم من التفاحة لتهبط عقابا وغاية ورغبة بإنشاء كوكب للأحياء الذين هم خارج جغرافية الجنة اسمه الأرض. ولم تغادر هذا البيت إلا عندما تذهب هي وبعلها ليقضوا ساعة من الراحة والاستذكار لما كان فوقاً ولم يعد موجودا، ويتمددا بحميمية يتلاصقا فيها ظلهما تحت شجرة السدر حيث لا يشاهدهما الغرباء، ومن يمر وينظر اليهما من الابناء والاحفاد يقول :هذا هو المنظر الجميل، لنتعلم منه في خلوتنا، ويقال ان تلك المشاهد الرقيقة هي من صنعت في قلوب البشر الاحساس بالغرام والعشق. لم يرغب آدم ليوسع قريته حتى عندما تزداد اعداد ذريته ويتطلب ذلك توسيعها وبناء بيوت قصب جديدة .لهذا كان ينصحهم بالذهاب الى جهة يختارونها هم، وهناك يستطيعون ان يبنوا قراهم الجديدة. وعندما يفضل البعض نصيحة الجد ويقرر الهجرة على المكان، تقام في الليل طقوس وداع، وتشعل النيران، ويشترط ان تكون الليلة الاخيرة للجلاء والرحيل عن القرية مكتملة القمر والنجوم براقة، وأن يكون مكان الاحتفال قرب النهر وليس بعيداً عن سدرة النزول، وهناك ينقسم المحتفلون الى قسمين في مشاعرهم، قسم تصبغ السعادة وجوههم لانهم سيكتشفون امكنة اخرى لانهم اصيبوا برتابة المكان وازدحام البشر في القرية الاولى، وقسم يصبغ وجهه الحزن لأنه لم يعد يتبارك في الوجه الصباحي المضيء للجد المبارك والجدة الطيبة . حينها لم يكونوا قد اكتشفوا الغناء والتصفيق وآلات الموسيقى والرقص، لهذا كانوا ينتبهون الى ما يفعله الجد والجدة ليفعلوا مثله. يضحك ويضحكون معه بصوت عال، يهتز بدنه وتهتز ابدانهم، يناجي السماء بكلمات حمد، يرددون خلفه الكلمات ذاتها، واخيراً حين تنهمر الدموع من عيونهما، تنهمر دموعهم، ويقترب بعضهم من الجد ويسألونه :ان كان بإمكانهم العودة الى القرية حين يسكنهم الضجر هناك، ولا يشعرون بملائمة المكان لما تعودوا عليه هنا . فيقول الجد: عودوا فقط متى اشتقتم. ومثل قداس معاصر تتحرك في افواههم اناشيد لغة لم يألفوا التخاطب بها إلا عندما يقيمون قداسات الرحيل وطقوس وداعه، وبصوت واحد ينشد الراحلون انشودة ـ ظلت باقية على مدى الازمان و باللغة ذاتها والمعنى والاحاسيس، فيما الذين بقوا ملازمين الجد في حياتهم سجلوا اجسادهم نذرا للمكان وشاخصا لأول مراكبه. يستمع الجد والجدة الى نشيد الابناء الراحلين، فتسأل حواء زوجها: من اين يبتكر الابناء كل هذا الكلام الجديد. فيرد آدم: من حزن غربتهم الجديدة . الرحمة يا شيخ وأنت العارف بالمسرات أشعلتَ فينا بخورك وعَطرتَ أفواهنا بالصلاة… أنت وحدكَ من يعلمنا التفاسير الحياتية في معرفة هياج الأنثى في لحظة شوق المشتاق إلى عطر الليل وشاي الهيل وعناق المحبوب لمحبوبته في ساعة شدوٍ بين الجسدين..! الرحمة أيها الشفيع السيمفوني لموسيقى الذات… لقد علمتنا طرائق كشف عطرها ومنحتنا دلالة الاستعداد لنتعرى في شمس مراياها مفضوحين مع قصائدنا في شهوة الغيب لواحدة تعرف أن تصنع اشتهاء المساكين إلى الخبز ونار الجسد التي لا تكوي سوى هاجس الود في رغبة إبائنا لنكون فحولا وجنودا وصناع مجد لذكريات العوز والفضيلة. الرحمة…لكَ…والتوسل لها…أبسط حنانكَ أيها العطر المجنون بأضلعنا ورجفة البطن، فليس لسواك أنتَ من يليق السير في الدروب البعيدة لنعرف العالم. نحن لسنا برابرة أو مغامرين بعيون مغمضة.. لقد علمنا الشيخ المضيء في مداركنا الحارس لطريقة الدراويش في الرقص. أنكّ بفضل جمالك المثير حد تمزق قمصان بكارتنا الفقيرة صرت: الفرض. ثم يتوّجونهم بالإنشاد الى جدتهم حواء ويرتلون اناشيد مديحهم لها وحزنهم على فراقها، فتبكي بحرارة وهي تخبئ رأسها في احضان زوجها: لك أنتَ النبع وجع الغيم المتدفق من شوقنا إليكْ، فكأن وجهكَ البهيَّ يغمرنا بالنور، وكأن هالة من العطر تشربنا. وجهكَ شبيه العاصفة التي تديم رعشة الطبيعة في أحضان السماء فيجمعنا على طرف رمش اللذة الروحية لمرايا النهد، نشمُّهُ، فنشعر أن خمرة آدم في فتوته الأولى اليكِ نحتاج الى بركاتك ياأُمنا وجدتنا، نحن ذاهبون الى المدن التي تبني مجدها مع موائد العشق وسلال الفاكهة.. صورتك الأجمل يا أيتها المتشحة بكل خطابات العروش المذهبة بعبارات الاشتياق المملوكة لدموع عشاق خضر جاؤوا ضيوفاً إلينا من كواكب بعيدة. نضعها على جدار حيرة جدنا القديس الذي يعشقكِ، ومتى يغفو أمام واحدة من إيماءات الخدر فيك اتركه ذائباً في نار شمسك ونجيء بظلالنا إليك ورسائل غرام من فقراء الأرض ونخبئك باشتياق في صدري. في اول الصباح يبدأ المهاجرون رحلتهم منقسمين على الجهات الأربع وكل حسب الرغبة الكامنة في قلب المهاجر صوب الجهة التي يتمنى الذهاب اليها، وكانوا جميعهم لايعرفون تضاريس وطبيعة وطعم هواء وماء وزاد المكان الذي ستتعب عنده راحلتهم وسينزلون حيث الماء والشعر وأن اعجبهم المكان قرروا البقاء وبناء قريتهم الجديدة، وعندما لا يعجبهم سيرغمهم التعب على قبوله والتكيف مع المكان مهما كانت تضاريسه، حتى لو كانت شمسه حارقة وسحناتهم بيومين اصبحت سوداء وتمددت انوفهم وتهدلت الشفاه الى الاسفل، وكلما رأوا صورهم في الماء سيقولون حين يرانا جدنا آدم :سيقول :من انتم، اشكال هذه الوجود ليست من نسلي ،لكن عندما نقص عليه وقائع حياتنا معه في القرية الاولى قرب ملتقى النهرين، سيصدق اننا ابناؤه، وسيدرك ان الجهات المختلفة ،وجوه سكانها مختلفة ايضا ،وليس سوى الجنة من تحتفظ بجمال الوجه ومحاسن العيون ،أما الارض فيختلف الجمال فيها باختلاف التضاريس. وعليه شعرت حواء بأن عليها ان تحفظ ملامحها والحفاظ عليه من التغير، فصارت تذهب كل ظهيرة الى ضفاف النهر حيث شعاع الشمس والماء صافٍ وهو ينعكس على الموج لتتأمل ملامحها وتنقل تلكم الملامح على لحاء الشجر، ترسم وجهها مستخدمة خشبة محروقة تحولت الى فحم . ولأيام اكملت حواء صورة بدا فيها وجهها يمتلك ملامح الجمال الذي لا يتغير، لتصنع الدهشة في نظرة ادم وقلبها ،فيما صار احفادها يتبركون في هذا الوجه، ومن امتلك موهبتها قلدها في رسم الصورة، وصاروا يبيعونها على البيوت، كل صورة بمكيالين حنطة ،كي يعلقها اهل القرية على جدران بيوتهم بركة وتقديساً واحتراما. من خلال هذه اللوحة كان آدم يقسم ازمنة حياته، وربما كانت تساعده في ذلك دقة التفاصيل في ملامح المرأة التي شاركته الحياة في اصعب مواقفها يوم نزلا هنا ولم يكن على جسديهما سوى قمصان من اوراق التين والصفصاف . لقد منحه الوجه وما كان يبثه من أحاسيس اغلبها تتحدث عن امنيات واحلام وفخر بما تم انجازه عندما توسعت قرية القصب، وبدأ ابناؤها يحملون امتعة ترحالهم الى امكنة اخرى يتمنى أن يزورها مع زوجته ذات يوم، لكنه كبر الان ولم يعد السير بعيدا ملائما لرجل وامرأة ذهبت بهم مئات الدهور الى الامام. كانا يسحبان الزمن بالدهور، ولأن الدهور بلا ملامح ولاتعرف بداياتها ونهاياتها، اوحت له صاحبة اللوحة بلمعان ما في عينيها من جمال وضوء وحب ان يحسب الزمن من خلال الايام التي ادركها في تعاقب الليل والنهار، وجمع تلك الايام حسب مواسمها ليراقبها وليشعر انها اربع متغيرات بين حر وبرد ومطر ونهارات هواؤها منعش وارضه موردة فكانت الفصول الاربعة وليجمعها في مسمى اسمه ( السنة )، وفي جمعها كانت تلك الفصول عاماً من الحب والعمل، الشتل والحصاد وجني ثمار النخيل من التمور، فيما تشعره نهاية الربيع وبداية الصيف بالقيام هو وابناؤه واحفاده بجز صوف اغنامهم ومن ثم يصنعون كسوة الشتاء وينسجونها تحسبا لموسم البرد والامطار في الخريف والشتاء وكذلك في هذا العالم هناك مناسبات ومواسم وطقوس لتوديع احفاده ممن كانوا يفضلون الهجرات في الصيف حيث يصير السفر ملائما في الليل والنهار . أما الساعات فحسبها مع مشاعر الجوع في بطنه، فحين ينهض من النوم يجد نفسه جائعا فيفطر كل صباح بيضتين مسلوقتين وطاسة لبن ورغيفي خبز، وعندما يجوع مرة اخرى يشعر بأن الوقت تقسم الى عدة ازمنة حسبها بستة اوقات وهي ست ساعات منذ ان انهى فطوره بساعة، وذهب الى حقله البعيد عن بيته بساعة مشي واشتغل ضعف ساعتي الافطار والمشي ثم استراح ساعة واشتغل لساعة بعد استراحته ثم شعر بالجوع فتغدى .وليقسم ما بعد الظهيرة بذات حساب الصباح والضحى فيما حسب الليل بمجموع ساعات النهار وقارن اختلاف ازمنة الليل والنهار في بعض الفصول بشروق الشمس وغروبها، ففي الصيف حسب النهار بساعات اطول من الليل ،وفي الشتاء تكون اقل، وكان ليله زمن الراحة والمسامرة على مواقد الجمر وتأمل صفاء السماء ونجومها والدعاء الى الرب، وقبل ان يتجمع النعاس في أجفانه يجتمع حوله الاطفال من احفاده فيعلمهم اصول الكلام في حضرة الكبار وضرورة احترام الآباء وان لا يجنحوا الى الغيظ والغضب مثلما فعل قابيل عندما شج راس اخيه بحجر وقتله بسبب خلاف حول اغنام قابيل التي اكلت من زرع اخيه هابيل، وحتى لا يعيدون احساس الحزن في القلوب، قائلا :ابعدوا نواظركم عن مشهد كل دم يسيل .انها نصيحتي كي لا تكونوا جنودا في حرب عندما تكبرون. أما بعد منتصف الليل فقد كان آدم يسميه ساعة المودة، يختلي بأنثاه ويمارس معها همس الذكريات ،فيرتاح جسده كله، فلقد كبرا على تلك المودة الحامية بينهما، وبدلا منها اكثرا في التعبد والاستذكار واستعادة تفاصيل يوم العمل في الحقل وما قام به من ارشاد وفض الخصومات في مجتمع قريتهم الصغيرة، وأحياناً يستذكران بدمعة من هاجروا وكانوا قريبين الى قلوبهم .أو يستعيدان مشاعرهما الاولى وحيرتهما لحظة النزول او تلك الوقفة الخاشعة والذاعنة امام الرب وهو يأمرهما بالنزول الى الارض وصنع حياة اخرى في مكان لن تكون انهره من الشهد والحليب، فأنهار الارض من ماء وطين . فسأل آدم مرتجفا: ولهذا خلقنا نحن من طين ؟ فيجيء الرد بلسان ملاك موحى: ولهذا انتم من صلب انهار الارض . فتقول حواء: ألم يكن اللبن من بعض اسرار نمو الجسد واكتماله. فيأتيها الرد: اللبن مقدس، لكن الطين سر هذه القدسية . وقتها يهمس آدم الى حواءه :أذن هي الارض قطعة من الجنة . وحين نزلا لم يجدا ما كانا يتوقعانه حيث لا بساتين تين وزيتون ورمان. لقد وجدا نخلة يتدلى منها ستة عذوق تمر على ضفاف نهر يجري .وقتها فهم آدم الحكمة وقال لحواء المصدومة مما ترى :نزلنا في هذا المكان الذي اختاره الرب لنا .لنؤسس جنة اخرى . في الليل وعلى الطين البارد وفي الليلة الصيفية المقمرة شعرا بالحاجة الى انجاب من يكمل بعدهما إعمار المكان وبنائه وصنع الخليقة المنتجة لإحياء هذه الارض . وهكذا اتى قابيل وهابيل ومن بعدهما تناسل البشر والى اليوم. وهكذا استمرت الحياة في القرية، بشر فضلوا العيش والبقاء هنا، وآخرون ارادوا المهجر بلدا فحملوا امتعتهم وذهبوا صوب أمكنة لم يرسم تضاريسها سوى الخيال والحظ والقدر، وفي الحالتين آدم يراقب المكان من النافذة كل صباح من خلال النافذة . واليوم ثمة دموع هطلت من عينيه بغزارة، بللت اجفانه وخديه، فإنعكس ضوؤهما على مساحة الفضاء المفتوحة امام البيت وما ان وصل الضوء الى موج النهر حتى انعكس خطوطا منتظمة بحُزَم براقة ليصل اجفان حواء وتشعر بها وهي تعد فطور زوجها . لم تعرف سر الدموع، فاقتربت منه والتصقت به كما تلتصق الوسادة برأس الحالم النائم وسألته عن سبب بكائه، وإن كان يشعر بألم في بدنه، فليؤشر عليه: فأنا طبيبتك ..؟ رد عليها: بدني سليم .لكن روحي هي من تتألم . فزعت من جوابه وقالت بحسرة: يا رب السماء، اخبرني ما بها روحك، انت تدري ان علة الروح اوجع واكبر من علة الجسد، ما الذي حدث، الم تقل لي ذات يوم: روحي ستظل مستقرة والى الابد. وها انا الى جانبك ولكن روحك تتألم . مسح آدم على رأسها بحنوٍّ وقال: الروح تتألم متى تشتاق لمن راحوا. تأملي دموعي يا حواء وتبيني صورة من يتلألأ فيها . قربت عينيها الى عينيه وصرخت بشهقة: ياآلهي القدير تلك صورة هابيل ولدي، ما الذي رسمها في دموعك هذا الصباح، ألم نتفق ان نُبْقِيَ رسمه في قلوبنا ؟ ولكن يا حوائي :اليوم تمر المناسبة السنوية لعودته الى الجنة قتيلا على يد اخيه . بكت حواء، وضعت راسها على صدره ثم سألته بنحيب خافت: وكيف حسبتها يا زوجي العزيز ؟ قال :بسبب وقوفي على هذه النافذة وانا اتذكر من غادرونا موتا وهجرات تعلمت تفاصيل مواقيت الازمنة ووضعت لها مددا وتسميات، وفي مثل هذا اليوم وقبل مِائتي سنة شج الاخ رأس اخيه بحجر. قالت: ما زلت اتذكر تفاصيل ذلك المساء الحزين حيث قضينا الليل في نحيب ولم يكن احد مولود غيرهما ليشاركنا المواساة فتحملنا الم الحزن وحدنا، وما زلت احن الى قابيل وهدوئه وحبه الى اغنامه، وما زلت احتفظ بثوبه مخضبا بالدم وبعصاه التي كان يهش بها على الغنم. وما زال غضبي على قابيل قائماً، ولم أزل أتساءل، كيف يقتل الاخ اخاه .؟ قال آدم: أما أنا فقد سامحته فلا يجوز ان نغضب عليه كلانا. سامحته حتى لا يتكرر ويتناسل الشر والغضب في قلب ابنائه. وحتى نعلمه ان بعد كل معصية هناك ندم قد يفضي الى المغفرة. اخذت برأسه لتسحبه الى صدرها الدائم. شم رائحة هجين الخبز والحليب في صدرها، وهمس لها: وجه هابيل مرسوم ايضا في صدرك . قالت :مرسوم في كل مكان في جسدي .ثم اخذت بيد آدم الى باحة البيت وهي تهمس له :الفضاء العلاج الوحيد لإبعاد حزن النوافذ .وجلسا على اريكة صنعها لهم من جذوع النخل نجار من احفادهما كانا يستريحان عليها كلما ارادا ان يستعيدا ذكرى ما . وعلى تلك الأريكة كانت الازمنة تمر كما تمر الغيوم على مرايا السماء، وكان سهلاً على آدم ان يتخيل ويستعيد ويتذكر تفاصيلها واحداثها فيما لم تزل حواء تدفن رأسها في صدره لتتخيل معه وقائع ذلك الحزن الذي خلفه اول مشهد حرب بين الاخوين ليدرك آدم الآن أن ذلك الجرح الذي كان اداة لتلك الحرب قد حمل قسوته معه الى امكنة اخرى ولم يعد مجرد حصى او صوان او غرانيت او زفت قيري متصلب او طين متحجر، لقد تحولت هذه الأحجار لتصير خناجرَ ورماحا وسيوفا ونبالاً، وجالت في خاطره صورة غضب قادم على شكل منجنيق وبندقية ومدفع ودبابة وصواريخ . افزعت صور تلك الآلات المستقبلية حواء وجعلت قلبها يدق بفزع وهي تراها مرسومة في احداق زوجها وسألته: ما هذه الاشياء .لم ارها في حياتي ولم اشاهد مثلها في يد احد من ابنائنا واحفادنا . قال: تلك ادوات غضب من غير التي قتلت هابيل ..اخترعها احفاد قابيل ليصنعوا حماقات جديدة يقترفونها في المستقبل من أجل إيذاء ابنائنا القادمين الى الحياة بعد آلاف السنين. لكن آدم عاد الى بكائه ثانية، ربما ادرك ان مسامحته لولده القاتل لم تكن كافية لتهدئ فيه الرغبة العدوانية وردعها . وعندما سألته حواء عن السبب ؟ قال: هذه الحياة على الأرض ..دائما هناك كفّتا ميزان .واحدة تحمل الورد وأخرى تحمل شظايا الحجر والحديد، وبالرغم من هذا، لأنني أباه عليَّ أن اسامحه، انها العاطفة التي اسكنها الله فينا حتى لو كان اولادنا مخطئين . قالت حواء :وانا بالرغم من كل الذي جرى اشعر انني أم، وسأبقى أماً حتى لو انجب هذا الرحم قاتلا وسفاحا. هذه المرة آدم هو من سحب رأس حواء الى صدره وملأ مسامعها همسا دافئا وقال: رائعة مثلك عاشت ازمنة الجنة والاض بحلوها ومرها لا يمكنها ان تنجب القتلة والسفاحين، ولكن الحياة هي من تغير في طباع وتصرفات غير تلك التي كانت تتمناه لهم الامهات عندما كانوا نطفة في الرحم. قالت: لن تقنعني بهمسة وقبلات على الرأس لتنسيني حزن أولادي الأثنين. واحد مقتول وسريره التراب ،وآخر عاجر بعيدا يحمل اثمه وندمه . وهكذا مر اليوم سريعا تلونه الذكريات والدموع في استعادة ذكرى موت ابن ومن خلال طقوس حميمية على اريكة. وهو ما انساهما جوعهما فلم يأكلا ويشربا شيئا من شراب النعناع حيث تعود آدم ان يحتسي كوبه الصباحي من حقل النعناع الصغير الذي زرعه امام بيته والذي كان ينتشي بعطره في نسائم الليل وهي تدخل الى غرفة نومه فتمنحه شهية همس الخواطر الرومانسية في مسامع زوجته التي كانت تتعمد فتح النافذة حتى تأتي رائحة النبات الاخضر وتحصل على مزيد من موسيقى الكلام لتنشط روحها وتعيدها الى الايام الخوالي وهذا ما كانت تحتاجه لتشعر انها ستعيش عمرا اطول الى جانب الرجل الذي شاركها الحياة بكل محطاتها ومواقفها . والى المساء ظلا في جلستهما على الاريكة يتبادلان استذكار ايامها بين ضحكة ونحيب حتى انهما لم يلتفتا الى كلمات الذين يمرون عليهم من احفادهم العائدين من حقولهم الى بيوتهم . غرقا في غفوة عميقة. ولم يوقظهما سوى هدهدة يد صغيرة لطفل في الثانية عشرة من ابناء احفادهما وهو يهمس لهما: جداي الإغفاءة على السرير في غرفة النوم وليس على اريكة خارج البيت. رفعا راسيهما، تأملا الطفل، احتضناه وقال له آدم: ايها الحكيم هل تريد هدية ؟ قال الطفل: اريد ان اسمع منك يا جدي قصة لا يموت فيها انسان . ابتسم آدم، جذب الطفل اليه أكثر وقال: أسمعي يا حواء حفيدنا ..يريد قصة لا يموت فيها انسان، انه يريد قصة غرامية بين وردة وفراشة ولا يريدها بين رجل وامرأة حتى لا يكون بينهما شجار . حمل الطفل معه الى غرفة نومها، فيما راحت حواء تعد له الحليب وتخبر ابويه ان طفلهما الليلة سيظل مع اجداده الى الصباح لان جده سيحكي له حكاية غرامية قد لا تنتهي بساعة او ساعتين . بدأ آدم يقص لحفيده القصة التي ابتكرها الآن ولم يقصها من قبل لأي من احفاده عن الوردة التي عشقت الفراشة والتي تمنت ان لا يشم عطرها أحد غير تلك الفراشة الحمراء التي نقطت اجنحتها بنقط سوداء مكتملة وبراقة . وحين تساءل الحفيد بذكاء ادهش الجد: جداه كيف يعشق الجامد الكائن الحي ؟ قال آدم: وكيف تسأل تلك الأسئلة وعمرك لم يصل بعد الى ضفاف تلك الاسئلة ؟ قال الطفل: احسست بأن الامر ينبغي ان يكون معكوسا لأني سمعت من المعلم الذي يعلمنا مسميات الاشياء في القرية يقول :الاعم والاغلب المتحرك يمشي صوب الساكن. والوردة ساكن والفراشة متحركة . ذعر الجد من بصيرة الطفل، وشعر بأن آدم لن يكون صاحب النبوة الاخيرة في المكان، وشعر ان النبؤة تبدأ طفولية لتكبر وتصبح نبوة ويُبشر بها، وبالرغم من هذا ذهب مع الطفل في المحاجة وقال : انا اردت للحكاية ان تكون معكوسة حتى تفهم الامور في المستقبل من خلال معاكساتها ،فيصير الامر اوضح وقابل للتحيل حتى يتبسط امامك وتفهمه. قال الطفل :جدي انا اردت قصة وليست احجية ؟ قال الجد: وانا اريدها قصة فلو تحدثت لك عن فراشة عشقت وردة فأن الحكي مسموع لديك مثله، ربما سمعتها من امك او ابيك او معلمك، ولكن هذه المرة ستفكر جيدا وتتساءل كيف تحرك العشق في الجماد وعشق قبل أن بُعشق ؟ لم يعي الطفل التفاسير بالرغم من اسئلته الكبيرة وكل الذي قاله انه سمع ابوه يقول: أن الاشياء الجامدة لا تفكر . ولهذا هو يعتقد ان الفراشة هي من تكون المبادرة في العشق كما العصفور الذي يعشق العش والفضاء وانثاه. تعجّب آدم لنباهة الحفيد الذي همس لجده: ومنذ الليلة يا جداه لا تنادني كطفل، نادني كصبي، غدا ادخل الثالثة عشرة من عمري . قال آدم: وحسبتها بالسنين . قال :نعم .معلمنا سرق جداول الزمن من عينيك وعلمها لنا . ملأت السعادة وجه آدم وأدرك ان الفكر ينمو سريعا في البشر حين ينتقل من الطفولة الى الصبا وأحس بأن حفيده هذا سيكون اول مفكر او مخترع او شاعر في هذه القرية، لهذا حرص ان يقص عليه القصة بهدوء وتأنٍّ ليستوعبها الصبي جيدا. بقي آدم يسرد اقصوصة مبتكرة من خيال اللحظة، فلم يجعل قصته عادية وسعادة انية تدفع الصبي لينام في احضانه الى الصباح، لقد منحه الطفل طاقة اخرى في ابتكار شكل الغرام بين الاشياء فكان يتحدث له عن حياة تكون فيها الحديقة بيتاً والعشب سريراً، واوصل له فكرة ان الامكنة التي تتصل مباشرة مع السماء وليس لها سقوف مثل البساتين والحدائق والتي يكون العشب سريرها تكون اجمل في صنع لحظاتها الغرامية وتكون مواعيدها مُتقنة وكلام الحب والهمس اكثر سحراً وروعة من تلك التي يهمسها الآباء والامهات ورؤوسهم على وسائد القطن او الصوف. كان آدم يقص بصوت يقربه الى صدى موسيقى نبض قلبه وهو يستعيد مع تفاصيل المودة بين الوردة والفراشة. في الشكل عندما تظهر هلامية ما في جوف أحدنا، الداخل المملوء بأساطير مبهمة عن رغبات لوجود نتمناه لكن رعشة الأصابع لا تصل إليه، لأن الورد وبسبب عشقه لفراشة حمراء نسي أن يلبس قبعة الحقل وبغزل المساء لنسمة ريح عطرة داعب خد النجمة، فرقصت محاصيل خريف البستان كآلة كمنجة أثرية في يد هدهد.. لهذا سكنها مديح القصائد وصارت تناشد لحظة الانتظار بشيء من العاطفة والقلق ولهفة الشفاه التي تنتظر قبلتها الحارة من شفاه اخرى . يتلو آدم هذه المناجاة لنفسه، ولا يبعثها الى مسامع حفيده كي لا تكبر اسئلته وتتكرر فيحتار الجد بأجوبتها، لهذا كان لمراتٍ يستغل إغماضة الصبي ويتحدث بتفاصيل بوح الوردة مع نفسه ويسمعها تقول : اجنحتك الممتدة عند نهايات العتب في رسالة الحب هو أيضا حولته أشعة الحلم إلى أمطار روحية لجفاف فينا نحن الذاهبين إلى بيادر القمح على شكل نخيل بين محترق وحي من غابات الأحياء المندثرة في قبعات المجد وحروب تفتعل الهوس لتصنع لأحفاد العشب جنودا من تسريحات قنافذ جاءت للتو من كوكب اكتشفته حكايات جداتنا الموروثة من زمن السلالات الفضية ومعابد الذهب الأخضر ومنابع أنهار الشوق. والحب لغير الله مذلة عاشق نسي خواطره بمعطف المقهى وجاء إلى ملتقى النهرين يبحث عن جسر لم تتألم أحشاؤه بعد. يفتح الصبي عينيه ويسأل جده: اين الحكاية، كنت اسمعك .جدي لقد كبرت، هذا هذيان ؟ لم يغضب الجد من تجاوز حفيده في الكلمات وادرك ان من يسمعه يتلو هكذا تفاصيل في قصة سيشعر ان من يقصها على صبي صغير انما هو يهذي . وبالرغم من هذا شعر ادم انه يقص القصة لنفسه وليس لصبي في الثانية عشرة ..غدا يعبر ببراءته الى صباه . وعاد الى حكايته مع التفكير العميق في ذات الوردة يوم يشعر الجد بسبب الاحزان التي يعانيها الاحياء الذين يعيشون حوله، صار يشعر انه يفكر مثلهم في الشكل عندما نرى الواقع المزخرف بأهازيج أصحاب نوافذ الأمل، نبدأ لنبحث عن موسم ليس فيه عطش الشيخ ودموع خيول فتوحات الوهم بأننا سنملك جبلا من جوز الحب وسنذهب إلى الممالك التي اسسها ابناء آدم هناك حفاة عراة نطلب عونا من كهنتهم . وأنت ايتها الفراشة ( الذكر ) في الشكل تذوبين. وأعماق النهر تصير آنية لذاكرة المطبخ وقراءات أقدم من ضوء الفانوس وعشقا ريفيا نام على حدائقه الحلم البشري وعلق عليه خواطر فقراء الأرض وطموحات ذكورتهم.. أنت دفتر لتواقيع لغة الخجل الطيني. فكوني واضحة ببساطة سماء مشمسة وادخلي إلى جوف عاطفتي بقدم حافية وجسد يقطر سمناً تنتجه اضرع الاناث من جواميسنا الرائعة. يضحك الصبي: ها ها. جدي الجاموس رائع .كيف يحدث هذا .انه غبي وبليد. لا يذهب الى قيلولة الماء إلا عندما اضربه بالعصا .جدي الى اين صرت تذهب .لم اعد افهم من حكايتك اي شيء. اعدني الى الواضح والمفهوم جدي بحق السماء عليك. ولكن ادم يتجاهل تساؤلات الصبي ويدرك انه يتعامل مع عاقل كبير فيهمس في اذن حفيده مختصرا لكل تفاصيل حكايته. وعلى وقع اسئلة اخرى لم ينطقها الصبي لان النوم غلبه وبالرغم من هذا وضع ادم الكلمات الاخيرة في مسامع الحفيد وهو يقول لقد حولت القصة الى قصيدة شعر وصار صعبا على الصغير استيعابها: لو كان للفراشة نهد لصارت ملكة جمال الكون حتى يوم المحشر، ولو كان للوردة نهد، لطردنا الفصول كلها من أعمارنا ورغم هذا يشعر المحتاج إلى المرأة والرغيف أن لا حياة بدون الدائرة القطبية المرسومة بتشابه ثنائي على مساحة صدرك الخضراء ورحيق حرارة التقبيل . احس الطفل بدبيب الكلمات.. وهو في لذة النعاس داهمته الاسئلة بسبب شهية موسيقى مفردات الجد في مسامعه فسأل جده: ما هو الرحيق جدي، هل هو العطر ؟ وحين سأل الحفيد عن الرحيق ؟ احتار آدم كيف يقرب له المعنى ويخبره ان الرحيق هو شبيه بما تنتجه القبلات بين الحبيب وحبيبته والزوج وزوجته وما يملأ صدورنا يوم نشم الورد .وبالرغم من هذا أصر الطفل على معرفة المعنى . وحين شبه له المعنى وقربه له . تطايرت حمامات بيضاء من تحت اجفان الصبي واحمر خداه وسكنت افخاذه رعشة غريبة، فشعر آدم أن القرية ستعرف منذ اليوم اصغر عاشق مولود فيها. ثم همس الى الطفل الصغير : كنت اتمنى ان تكون عالما او طبيبا في المستقبل، لكنك ستصير شاعرا، واظن ان الامكنة التي تنتج شعراءها قبل علمائها امكنة محظوظة. غيرت القصة من تفاصيل البراءة التي كانت مرسومة على وجه الصبي، وحتى يتأملها آدم ليقرأ في قدرة الرسل على معرفة غيب الايام القادمة تركه يغفو في احضانه الى الصباح، ومعه غفا آدم . وفي الصباح دفعت الشمس ضوءها الدافئ الى اجفانهما النائمة، استيقظ الصبي سعيدا بقصة الامس فيما بقي الجد نائما هادئا في نومته من دون شخير. قفز الصبي من الفراش دون ان يوقظ جده وذهب الى البيت، وجد امه قد اعدت له فطوره، ثم اخذ حقيبته وذهب الى مدرسته، وفي درس الانشاء اقترح على معلمه موضوعا عنوانه ( كيف تعشق الوردة فراشة ). لحظتها احس المعلم ان الطفل كان في الليلة الماضية متوسداً احضان جده . استيقظ الجد فلم يجد حفيده .ضحك وقال: هذا الصبي سيبشر الان بحدوث الاشياء المعكوسة .شيء في حياة قريتنا سيتغير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ نعيم عبد مهلهل، قاص وروائي عراقي مقيم في ألمانيا. حاز جائزة الدولة في الرواية 2003، حازت روايته "جنكيز خان" على المرتبة الثانية في جائزة دبي الثقافية 2007، حاز جائزة أدب الرحلات لعام 2011 عن كتابه "ابن بطوطة.. ناقة الجغرافية وأنوثة المدن". نشر عدداً من الأعمال الأدبية القصصيّة والشعرية والروائية منها: "فتاة حقل الرز"، "وردة بعطر الزقورة"، "اليوم الأخير من حياة الأمير".. وغيرها.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم