قصدَ أستاذ اللغة الإسبانية، منتشياً بما ظفِر به، طبيب الأمراض التناسلية ليعرض عليه حالته الغريبة التي تحدث له كلما سمع انفجاراً، وباتت تؤرقه وتسبّب له حرجاً أينما كان خارج البيت.

فور انتهائه من محاضرته الوحيدة ذلك اليوم حول "المفارقة في رواية الدون كيخوته"، عرج إلى مكتبة الكلية، لا إرادياً، ليسأل أمينتها العانس هيام عن الكتاب الذي طالما منّى نفسه بقراءته منذ صدوره قبل سنتين، رغم أنه كان واثقاً من استحالة قدرة المكتبة على اقتناء أي كتاب من الخارج آنذاك.. كيف يتأتى لها ذلك في تلك الأيام العصيبة؟ يكفيها أنها نجت من حريق مدبّر في الأيام الأولى من الاحتلال.

كانت أمينة المكتبة تتودد إليه دائماً، وتصطفي كلماتٍ مهذبةً ورقيقةً في مخاطبته. وفي بعض الأحيان تتدفق بنوع من المشاعر التي تبدو غامضةً بالنسبة له، فيردّ عليها بعبارات مجاملة يمكن أن تقال لأي امرأة يسمح المقام بمخاطبتها. لقد سألها عن ذلك الكتاب مراتٍ عديدةً، متجنباً أن يذكر لها أنه منشور في بوينس آيرس سنة 2004 كي لا يصدمها، إلاّ أنها في كل مرة كانت تنسى اسمه، وتطلب منه أن يتكرّم بتذكيرها، فيقول ببطء شديد، ماطّاً الحروف مطّاً: اسمه "يوميات القراءة: تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة" لألبرتو مانغويل. لكن الأمر في هذه المرة كان مختلفاً، فما إن لمحته داخلاً حتى أسرعت إلى أحد الرفوف وسحبت منه كتاباً مجلداً وقدمته له، وقالت بفرح غامر:

- أخيراً أستاذ كمال.. آه لو تعرف كم أنا سعيدة.. والله كنت اليوم أنوي أن أجلبه لك...

- أين عثرتِ عليه؟

- لن تصدّق.. أهداه لنا لاجئ عاد من الأرجنتين قبل أسبوع.

- عاد من الأرجنتين؟ رجل مغامر..

- بعد ربع قرن، تصور!

- هل تعرفينه؟

- لا، يقول أخوه الطالب عندكم في القسم إنه غادر العراق عام 1979.

- لابدّ أنه شيوعي.

- شيوعي، إسلامي، ليبرالي.. ما علينا، أنت ماذا ستهديني؟

قال كمال مازحاً:

- أهديكِ رأس المال.

سألت هيام باستغراب:

- أي رأس مال؟

- كتاب كارل ماركس.

- كتاب مقابل كتاب؟ ماذا أفعل به وأنا وسط غابة من الكتب؟

- ماذا تريدين إذن؟

- أريد هديةً تذكرني بك دائماً.

سار كمال على عجل ليصل إلى عيادة الطبيب في الموعد المحدد وهو يفكر بالأسلوب الذي سيعبّر به له عن حالته الغريبة، أيقول له بشكل مباشر إن عضوه ينتصب كلما سمع انفجاراً، أم يستخدم تعبيراً شبيهاً بالتعابير التي يستخدمها الأطباء، أم يوحي إليه بذلك إيحاءً؟

كانت العيادة تقع في شارع المغرب (الشارع نفسه الذي يقيم فيه)، فخاضت قدماه في الوحل حتى تسرب إلى حذائه. ثمة ضباب خفيف كان يغشى الجو، بعدما خفّ المطر، وعلى امتداد الفضاء كان يسمع زئيراً متواصلاً للريح يشعِره بالسأم. ما إن قطع السور العالي لمبنى كلية الفنون في الوزيرية، منكمشاً على نفسه من البرد، حتى فاجأه دوي انفجار هائل في الجهة الثانية

من الشارع، فرمى نفسه على الأرض، ثم زحف بسرعة واحتمى بساق شجرة ضخمة. شعر كالعادة بانتصاب عضوه، وباحتقان عنقه بسبب ضغط بنطلون الكتان عليه. لم يستطع تمييز نوع الانفجار، هل كان عبوةً ناسفةً أو عجلةً مفخخةً؟ لكنه سمع أصوات استغاثة على مقربة من هيكل معدني يحترق. بعد قليل لمح سائلاً أحمر ينبجس من جسده ويختلط بالوحل، تلمس بكفه اليمنى رأسه وصدره وأطرافه، فأدرك أن شظايا الانفجار اخترقت معطفه المطري، وأصابت ذراعه وساقه. لم يشعر بألم، وفقد الإحساس بهما كما لو أنهما بُترتا عن جسده.

نقلته سيارة إسعاف إلى مستشفى حكومي، وعقب ساعتين على تلقيه العلاج دهم الردهة خمسة مسلحين ملثمين، وجروه من سريره إلى الحديقة الخلفية للمستشفى. أوقفوه مع بقية الجرحى في صف واحد، وأخذ زعيمهم يسألهم عن أسمائهم وأماكن سكناهم. كان عددهم يزيد على عشرين جريحاً، وخلال دقائق جرى تقسيمهم إلى صفين. أمر الزعيم جرحى الصف الأيمن بالعودة إلى ردهاتهم، وجرحى الصف الأيسر بالمكوث في أماكنهم، وكان كمال واحداً منهم، يسند نفسه بصعوبة إلى كتف جاره بسبب ألم ساقه، فأيقن أنه مقتول حتماً، واعتراه فزع شديد، وفقد توازنه وترنح ساقطاً على الأرض. أوعز الزعيم إلى أحد أفراد جماعته بأن يأتي به إليه. أمسكه هذا من شعره وأخذ يهز رأسه:

- جبان أيضاً؟ ما اسمك مرة أخرى؟

أجاب كمال بصوت مهشم متحشرج:

- كمال ترزي..

- وما معنى ترزي.. أهو اسم هندي؟

- معناه الخياط بالتركمانية.

- أنت تركماني إذن؟

- لا، أنا عربي، لكن جدي مولود في كركوك فأحبَّ اسم ترزي.

- جدك حمار. ألم يجد اسماً أفضل من هذا.. ماذا تشتغل؟

- أستاذ جامعي.

- خرا عليك.. قف جنب الحائط ريثما أنتهي من هؤلاء...

أشار الزعيم برأسه إلى اثنين من جماعته، فتقدما بضع خطواتٍ إلى الأمام وأطلقا وابلاً من الرصاص على الجرحى. تكومت جثثهم بعضها فوق بعض، وأضاء البرق سيل الدم الذي راح ينزف منها بغزارة على العشب، ثم أسرع الزعيم بدفع كمال أمامه إلى خارج المستشفى. كانت الريح قد ازدادت شراسةً وعويلاً، وانقشع الضباب عن الجو فاسحاً المجال للسماء بأن تسكب على المدينة رشقاتٍ من المطر كسهام عشوائية. أمام البوابة أخرج الزعيم من جيبه خرقة سوداء وعصب بها عيني كمال بإحكام، ثم انتزع هاتفه واقتاده إلى إحدى السيارتين اللتين كانتا بانتظارهم، وحشره في صندوقها الخلفي.

أمضى كمال أربعة أيام محجوزاً في قبو بيت قديم تفوح منه رائحة بعر الغنم وذرق الدجاج. لم يعرف موقع البيت بالضبط، لكنه خمّن أنه يقع في أطراف بغداد، فقد استغرقت السيارة وقتاً طويلاً في الذهاب والإياب. كان يتعرض كل يوم إلى أكثر من استجواب في القبو للتأكد من هويته المذهبية، ولم تخلُ بعض الاستجوابات من استخدام العنف ضده. وقبل أن يخلي المسلحون سبيله في اليوم الأخير وقّع على اعتراف طويل أملاه عليه زعيمهم بلغة ركيكة. وخلال ليالٍ عديدة تالية صار كمال هدفاً لرؤى كابوسية تعكّر صفو نومه، يستيقظ في الفجر صارخاً كالممسوس، وتظل عيناه مفتوحتين حتى الصباح.

عقب مضي أسبوعين على تلك الحادثة اتفق كمال على موعد جديد مع الطبيب ذاته، ذهب إليه مع جهاد البشير، وهو صديق مقرّب له من أصل فلسطيني، درس اللغة العبرية معه في كلية اللغات وأصبح مترجماً بارعاً. ومن باب المصادفة وقع انفجار قريب خلال اللحظة التي كان فيها ذلك الطبيب يقوم بفحصه سريرياً، فأخذ يقرع على عضوه بعنف، مستخدماً مقرعةً خشبيةً، خيّل إليه أنه سيهرسه. وبعد نصف ساعة أمره بأن يجري فحوصاتٍ مختبريةً وشعاعيةً. وحين اكتملت الفحوصات تبين أن سبب الانتصاب المفاجئ الذي يحدث له مسألة نفسية وليست عضوية، وعليه أن يراجع طبيباً متخصصاً في هذا الشأن. لكن كمال لم يأخذ النصيحة على محمل الجد،

وقال لصديقه جهاد "بماذا سينفعني الطبيب النفسي؟ هل سيحول دون حدوث الانفجارات في البلد، أو سيأمر بإرسالي إلى سويسرا لقضاء حياتي فيها على نفقة الحكومة؟".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صدرت الرواية عن دار فضاءات في عمّان 2009.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم