ـ الورقة الرابعة ـ

"حين صفعَـتِ البابَ خلفَ إحباطها لم تكن تائهةً، لكنّها لم تكن قد حدَّدتْ وجهاتِـها. كانت تريد أنْ تبحث عن حبٍّ لا يرتدي ممارسَة الجسدِ بشراهةٍ جنحَ الليلِ خلسَةً، لينفِضه في وضح النهار.. يتبرَّأ من غواية فتنَتِه.. و يسيِّج بالسّواد انفلاتَه.. و يرمي طهرَه بكلِّ الآثـام.

لم تكن تطيق كل ذلك اللعــاب المتدفِّـق الذي يسيل على مـذبـح جـسدهـا العــاري بنهمٍ شرِس، يحوِّلها إلى إنـاء لا ينضحُ بما فيه.. إلى إناء قاتِمٍ.. حزين.. موجوع.. يُلعَـقُ و يُلعَـقُ من جميع جوانـبه.. تغوصُ الأصابعُ الشرِّهة بكامل أجزائها في كلِّ انحناءاته، لكي لا تفرَّ عن اللعق قطرة عسلٍ واحدة.. يلحَسُه اللسان جيئة و ذهاباً مثـل لفافة الحلوى اللذيذة، يغمرها الدِّبقُ و اللعاب من كلِّ زواياها دون أن تشتكي قطعة الحلوى، أو يسمَع لها صوت. أليست مجرّد قطعة حلوى خرساء.. أليست هي طاقة الفتنة التي تُسيل اللعاب.. كيف لها أن تقرفَ من الدّبق أو اللعاب بعد الاشتهاء.. كيف لها أنْ تـتـورّمَ بـشرتُها، و أنْ تـتوجَّع، و أنْ تشتكي من نــيـلِه مُـتـعَـه الكـاملة و الشرعية من جسدها الذي يملكُه، دون أن يكُون لها؟. كم كانت تكرَه تحوُّلَها كلَّ لـيلة إلى مـأدُبـةٍ ينتشي بها إلى أن تخورَ قـواه، و يسـتغـرِق في مـوتٍ عمـيق، لا تـنـام هي أثـناءه من فـرط ألـمـها و قـهـرها و حزنها.. و شخيرِه. تتحوّلُ وفق رغبتِـه و اشتهائه و طوعَ بنانِه إلى موضوعٍ يستهلَـك.. و يستهلَـك بشبقٍ مغرِق في الإيذاء. و يكبُر في أعماقِها إحساسٌ تائهٌ بأنها أدنى منه، لذلك يعتليها وفق اشتهائه هو دون أن يكون لمزاجها دخلٌ بما يُقدِم على فِعله بجسدِها هي.. يكبَر إحساسُها بأنها أقلُّ شأناً منه، لذلك يحكِم إغلاق الباب خلفه طيلة النهار، ليفتَح ليلاً باسمِه حين يعود كلَّ مغاراتِها و يلتَهِم بانتصابِه كلَّ درَرِها المكنونة.. يكبُر إحساسـها بأنها مجـرّدُ شيء محـجـوزٍ لمُتـعـتـه الخاصة، لذلك يأتيها لــيلاً بعـرقِه و قـذارتـه و روائح العطن تغمر أنفها، ليغتَسِل للصلاة فجراً بعد التهامِها كيف ما شـاء.. و قدر ما يشاء.. "

أنْ تحتَبِسَ في قلب قلبِكِ كلُّ الكلمات لأيامِ طوال، بل لسنوات مديدة، ثمَّ بعد الزمن بزمن تجدين نفسك في لحظة أمام فضاء مفتوح للبوح.. للصَّوْغ.. للانفجار، هي متاهةٌ لا تدرين المسالك الآمنة لمُفارقتها.. المسلَك المختصَر ليس الأهمَ الآن.. لم تعُـد للزمن هوايةُ المفاخَرة.. الغاية الخروج عبر مسالك آمنة وحسب.. و ليْـكُـن ما يكون.. الأضرارُ الجسامُ لا جموحَ سيمحِيها، والخسائر لا رادِعَ لكلفتها.. و العمرُ لا يُدارِي حسراتِه.. و الغد لا تبينُ شموسُه مهما كان ظلامُ الليل كالِحاً.. يبدو جنوناً غير متوائم الدَّفـقات تحرُّرُكِ المباغتِ من كلِّ القبائل و العشائر التي كنت تحملينَها بداخلـكِ، دون أن تحمِلي ذاتَكِ.. أنتِ. كنتُ تضعينَها دوماً بصمتِكِ في المقدِّمة دون أنْ تُدركي ذلك، ثمّ تلْهَـثِـين أنتِ و ذاتُكِ المغبونة خلف تعاليمِها و محرَّماتها. كم كان وهماً كلُّ ذلك اللهاث.. كم كانت سُخفاً كلُّ تلك الاستكانة. الأمس ولّى مارِقاً قبلَ أنْ يرتَدَّ البصرُ. و اليومُ ظلَّ في كلِّ يومٍ طيفَ حضور مُصادَرٍ و محاصَرٍ. و الغد ذلك المأمولُ طوقُ النّجاة في مستنقعٍ هادِر موبوء لا تفتُر طحالِبُه عن التكاثُر و التّفاخُر. قد يأتي أو لا يأتي. من يدري ما تواريه أسطرُ الرواية المراوِغة.. من يستعجل قبل طيِّ الصّفحات بلوغَ ذروة المنتهى.. من يقلِّب الأوراق ليقطفَ الوريقات الأخيرة و هي تسبُك سريعاً مسارها نحو اللاعودة.. إثمُ الحياة لا يفتُر عن غسلِ ذنوبِه كلَّما انتفضتْ في جوفِ العصفورة العالِقة في مصيدةِ التَّعالِيم رعشَةُ الموت.

"يبدو ماحِقاً أن تمتلكي بمفردكِ، في فجر يومِ سبتٍ عادي لكنه لا يشبِه باقي الأيام، كلَّ ذلك الاندفاع الأهوج.. كلَّ ذلك التَّوق إلى البدايات التي لم تطئِـيها خوفاً أو جبناً.. حريقٌ لاسِعٌ يدبُّ في كلِّ أوصالك و أنت تتمِّمين كلّ التفاصيل التي لم تفكِّري فيها طويلاً.. لم تخطِّطي لها.. لم تنشغِلي بحبْكِها.. ظهرت قبالة إدراكِك بغتةً بشغب طفلةٍ لم تكُـونيها يوماً في طفولتِك المستسلمة للصّمت.. جنونٌ ممتِع يقذِفك نحو أقاصي الإدراك أخيراً. لم تملكي إلا أن تستيقظي باكراً فجرَ ذالك السبت. كان العبث دوماً يدفعك نحو المزيد من الجموح. لا تنتظرين منه شيئاً، تدركين أنّه منذور للوفاء يصِلُ يومك بأمسِـكِ دون ترفُّقٍ بالخيبات المتلاحقة. رصيدك الذي تباهين به ليالي الحلم ليس ما كان لك منذ أكثر من خمسَ عشرة سنة، بل ما كنتِ له. جنون آخر لا تُـعرضِين فيه عن رزانة مصطنعة، بُعَـيْد بلوغك الثلاثين عاماً. تلك حياتك، و لهم أن يلوكوا الفراغ الذي لا يملكون غيره. أما الامتلاء فرحيـق أزهـارك الذي لا تبدِّد طـيـبَه فصول السنة، مهما تطـايـرتِ الأوراق و ذبلتِ الأغصان. أكنت متهوِّرة؟ قطعاً سيقولون ذلك و أكثر. لكنهم لم يعلموا حقّاً من تكونين. لم يعرفوا أنك كنت صادقةً حدَّ محاربة كل أحابيل الكذب التي لم يرَوْها، لأنها كانت ببساطة من صنع أفكارهم الزائفة."

في بدء العمرِ كنتِ ساذجةً تلهين.. في منتصف الحنين كنتِ ولهىَ تماماً.. قبلَه قليلاً كنتِ تنشُدين خلاصاً مستحيلاً و الكلماتُ المُحتَضِرة تهمِسُ لقلبك بصدى السنين.. في غفلةٍ من يومِك الأسود هناك بـ"أصيلة".. و غفلةٍ من مقامك المُحاصر في "الرِّيـنْـكُون". بعد مفارقتِكما لمجاورة المحيط الأطلسي و عودتكما إلى ساحل الأبيض المتوسط، تفجَّر بين فُـتُـوق تربتِـك الشاحبة الجافّة النائمة ذلك التَّـوْق إلى الحياة التي مرَّت في كلِّ السنوات الثلاثين التي عشتِها قيد سجلِّ القبيلة أمامَك دون أن تغتَنِـميها. و كان مرفأ يقظتك تلك الأم الرّؤوم التي لم تنجِبك و لم تنجِب غير ذكور تكبُرُ أمومتها فخراً كلما أتَتْـها أخبارهم من هناك.. بإسبانيا. فحملَتْ أحلامكِ المجهَضة و شوقها إلى ضفاف لم تزرها في شيخوختها. و مضتْ بك نحو حلْمٍ آخر محرَّم. كان محرَّما قبل أن تطئي عتبة بيتك في "الرِّيـنْكُـون" قبل أسابيع، دون أن يقفَل بابُه بالمفتاح في وجه حرِّيتك.

كنتِ عصفورة صغيرة تجرِّب طاقة جناحيْها المهيضَين على التحليق من جديد بعيداً عن تعاليم العشيرة. و كانت ورقة طلاقِك التي تحمِلينها بين وثائقك آخر صكوك الغفران التي وضعْتِها في محراب تقـديـس القبـيـلة. كانت فـرحاً لم تنـتـظريه، و عـرسـاً لم تتجهَّزي له، و موسِماً لم يبلُغكِ خبرُ اقترابه. لم تحتفلي كثيراً حينها بموسِم الانعتاق. و لم تفكّري في الاحتفال. كان فرحُك أهوجَ لا يفكِّر بل يسارِعُ الزمن للحياة، لاقتناص الفوز المستحقّ بالحياة أخيراً بعيداً عن كلِّ أعراف القبيلة و تعاليم العشيرة. لم يكن مهمّاً حينها الاحتفال، كان الأهم الإسراع بالتحليق.. كان التحليق فرصة العصفورة الأخيرة في الحياة دون موت.. في الحياة قيد الحياة، بدل الموت قيد الحياة. ستحتفلين لاحقاً دون أن تخطِّطي لذلك الاحتفال.. في كلِّ أيام الفرح الذي انفتحتْ سبُلُه بين يديكِ.. و يديه.. ستحتفلين بكِ.. بالحياة.. بالحبّ.. بالحرِّية.. بالجمال.. بالأنوثة.. بالإنسان... ستحتفلين به.. معه.. له.. ذلك الطريدُ الشريدُ الذي جمعك به ذلك الخميسُ الأسود على عتبات ألم مدينَتِكما المجيدة "تطوان"، و حفرَ عميقاً في ذاكرتيكما أوجاع الدم المهدور. ختمَ يومَها على قلبيكما بنذور لقاء سيأتي بطعم الفرح ليغسل أوجاعكما دون أن يلغيها. فذاكرتاكما مثقلتانِ بندوب يصعب شفاؤها. للفرح غدٌ تستوي فيه كلُّ الندوب و تطيب فيه كلّ الجراح.. لكن اليوم ما زال قيدَ الحبّ و الفرح و الأمل.. و الغد.. ذلك المنتظَر سيأتي..لأنهُ هو اليومُ.. لأنك ترتشفينَه لحظةً لحظة دون استعجالٍ.. فالظمأ، و إن لم يرتو ـ و لن يرتو ـ يظلُّ في القلبُ متَّسعٌ دائمٌ للهفة.. للتوق.. للشغف.. للحب.. و مواسِم الاحتفال تعقدينها كلَّ يومٍ لحياتِكما معاً أنتِ و عزيز الحبيب.. لحياتكم أنتم الثلاثة و "تودُّد" بينكما تتورّدُ براعِمها كلَّ يومٍ أكثر.

في واقع الأمر لم أحب المواسم يوماً. كنتُ أدرك أنها خدعة ملفوفة بورق التغليف الأحمر اللامع المبهِر.. يزيِّنونَها على مقاس اللهفة و الشهقة و الخدر اللذيذ.. يدركون و هم يسربلون أيام الاحتفال البهيج أمامَ بصَركِ المشدود عنوةً إلى مقاليد الحزن أنّ الفِخاخَ منصوبة للضحايا ببراعة وصفةٍ تُـكثِرُ من السُّكَرِ دون أنْ يكون طعمُها حلواً بالضرورة. مكرُ فرحٍ يأتي على مقاييس جيوبٍ فارغة و قلوب يابِسة.. و صناديقَ تبحث عن الامتلاء.

لم أكن أنصاع للمواسِم إلا لبهرجةٍ تقتضيها أعراف القبيلة. الآن، أستغرِب كيف تتغيَّر كلُّ الأشياء حين يمتلكُ الإنسانُ حقَّ التغـيُّر. لم أعد مهدية التي كانت.. و لم يعد لمهدية تلك وجود.. لا أحبُّ بالضرورة ما كانت تُحبّ.. أحبُّ من كانت تحبُّ و حسب. و لا أكره من كانت تكرَه بالضرورة.. أكره ما كانت تكره و حسب. أعشق المواسم في يومي الفرِح.. و أحب ورق التّغليف بكل ألوانه و إبهاره و لمعانِه. أتقنُ فنونَ التّزيين بحثاً عن لهفةٍ أقرؤها في أعين من أزيِّنُ لهم عالَمهم.. و بحثاً عن شهقةٍ تنفلتُ من حناجِرهم حين تصعَقُهم دهشة الجمالِ الذي أدَّخِره لبيتهم أو لمكتبِهم أو لفضائهم الخاص.. و بحـثاً عن خـدرٍ لذيذٍ يسكُـنُني كلَّما بلَـغـتُ بإبداعي ذروةَ الاكتمال، و فق ما أراه و أحسُّه و وفق ما أدركُه من تلقِّ كلِّ الآخرين لبصمات ذاتي المبدعة. لم أتخيَّل يوماً، في ذلك الماضي الذي كُنْتُه و كأنّــني مهديَّةٌ من زمنٍ آخر، أنّ تصميم الديكور و هندسته ستحتضِنُ كلَّ طاقاتي الإبداعية المصادَرَة طيلة ثلاثين سنة أو أكثر قليلاً. ستضعني أمام كلِّ الاختيارات المحرَّمة و الأحلام المحظورة و الأماني المرفوضة. حين ركبتُ الباخرة منذ خمس سنوات من ميناء طنجة رفقة مـاريّـا، في ذلك السبت البعيد من سنة 2002، لم أكن أعلم ما ينتظرني في الضفة الأخرى. كان ميغـيل ابن ماريَّـا الأكبر كلّ ما أمتلكه من ذلك الآتي. كم كنتُ طفلةً تستفتي قلبها الصغير أيصغُرُ الحبُّ أم تضيق العيون فلا تبينُ عيوبُ الحب بعد مرور الزمن على تخوم الجسد المتعَب؟ كانت وجـوه البســطاء الذين لم أعرفهم في تلك الطفــولة الغابـرة أكثر حـبّــا و انبساطاً و فرحاً.. من كلِّ الذي أخلصتُ لهم الحبِّ.. مـاريّـا كانت دوماً أنشودة الحب السّمح التي لا تستوقف الآخـرين العـابــرين في حـياتـها، إلا لتَـصِلَ قربَهـم بالمزيد من العــطاء و العـطاء و العطاء.. كم كانت تبذل دون أن تسألَ مقابلاً لحبّها أو لعطائها.. كانت مثل تلك الأيقونات و المجسَّمات الكثيرة التي تضعها فوق المنضدة المرتفعة أسفل صورة مريم و الطفل في بيتها، تملأ العابر أمامها بالصفاء و الفرح دون أن يدرك السبب.. لم تكن تتركني و الفتيات نبلغ زاوية الصلاة، مثلما كانت تدعوها، بل كانت تمنعنا من ذلك و تحثنا في المقابل، على الالتزام بمواعيد صلواتنا الخمس. لكننا كنا ندرك أنها متى مرّت أمام لوحة مريم تقف بخشوع و تبتُّل للحظات طويلة. ماريا كانت دوما منبع سلام و حب لا ينضب. في طـفـولتي كانت وجوه البـاعة نـساء و رجالاً و هي تقتَسِمُ الفـرح و المرح و اللـون و النبض، أكثرَ عطاءً و سخاءً من كلّ الوجوه التي صادفتها بعد أن تجاوزتُ عتبة بيتِي الزوجي في "الرِّيـنْـكُون". كان الفرح غائباً عن كلِّ قسمات الناس.. و السّواد و ظلالُه القاتمَة يوشِّح الدروب و الأزقة بإسراف أزياء استوطنَتِ الأجساد المؤنّثة.. تلك التي كانت مؤنَّثـة ذات ولادة.. تلك التي كانت أنـوثةً قبل أن يُفـيـض عليها السّوادُ قـلاعَـه و حـصونـه و أقفالَه. كان جلبابُ أمي، في زمن مضى، و هو يكسو جلَّ الأجساد المؤنَّثة أكثر أنوثةً. كان ينسدِلُ مستقيماً أكثر من اللازم. ينسكِبُ على كلّ الجسد من منابت الشعر إلى أخمص القدمين. يخفي كلَّ الملامح و المنحنيات. يغلّفُ مدارات الفتنة بامتيازِ ثوب سميكٍ. و الألوان تتهادى بحـثــاً عن رزانة لا تخـذُل في الاختيار المُشتريةَ أو البائع أو الخـياط المحـتـرف.. و اللثام الأبيض الجميل المطرَّز بنقوش و تخريمات متناسبة يزيِّنُ ملامِح الوجه بألَقِ صفاء يانِعٍ، يتركُ للعينين بمفردهما متنفَّساً للتطلُّع إلى العالم بحرية غير مشبوهة. كان الجلبابُ أنيقاً.. رشيقاً.. يتحدَّثُ بفطرة أنثى تخفي ما تخفي بجمالٍ دون ابتذال.. يسرُد حكاية حَياء لا تتورّعُ عن الاحتفاء بالجسد الفاتِن، و هي تكيلُ له سياجَ الثياب.. يروي غواية العفّة التي تداولَ الخيّاطُ الماهر حياكة استقامتِها بانسجام.. كان الجلبابُ رزيناً.. راشداً.. لكنه أكثر نقاءً و أنوثة و جمالاً من كلِّ تلك الخيام السوداء المتحرِّكة لوجوه لا تبينُ أعيُـنُها. كم رأيت مدينتي مدينةً أخرى و أنا أعبرها بمفردي. كنتُ أتخيَّلُ قبل أن أتخطى عتبة محـبِسي أنّني سأطـيرُ في سماء المدينة لأحتضنَها من الأعلى.. من فوق الجبال و الأسوار و الأبواب و الأمجاد.. سأشرِف على بيـاضِ جِيــرِها البـهي الذي يتألـق في امتـداد البيوت و المنازل مثل لوحةٍ بيضاء شفّافة تغتسِل بالحبِّ و الصفاء و الطيبة.. سأشرِف على اخضرار الأبواب و النوافذ و الحواشي يغمر العين بنضارة لا تصفرّ و لا تشحب و لا تذبل.. سأغترفُ من نداها ما يروي جوْفِي الجاف.. كنتُ أتخـيَّل و حسب. مدينتي التي أحمِلها في داخلي.. في ذاكرتي المعتّقة بالحنين إلى طفلة ساذجة.. بريئة.. كانت تتقِنُ شَـكَّ الأسئلة.. و لا تنتظر للجواب يقيناً.. لم تعُـد مدينتي.. لم تعد الحمامة البيضاء الشهيّة.

تطوان مدينتي لم أعثر عليها و أنا أجوب دروبها مزهوّة بجناحين أكتشفُ أنني ما زلـتُ امـتـلكُـهـما رغم أنـف الصـيّـاد و القــنّـاص.. رغم الخـمـار الأســود الذي يـغـلِّـفُ تعـثُّـري و انتكاسي.. رغم التيه الذي يقذفني في ضلال لا أهتدي فيه إلى بيت أسكُنُ إلى دفئه. و أكتشفُ أنني قد استعدْتُهُما إذ تجاوزتُ قفل الباب و عتبة البيت. استعدتُهما و أنا أفارقُ عتمة العزلة و أمسحُ عن جسدي بقايا لُعاب المَذبح. في تلك الآونة الماضية، كنتُ أسعى في منتهى جهدي إلى استيعاب معيش يومٍ يحكِم متاهاته المستعصية. و تأبى الليالي إلا أن تحوط سمائي بالمزيد من الاختبار. لكنّي و أنا أفـرُّ من "الرِّيـنْـكُــون" لكي لا يضبط أخي الأكبر، خليفَة الأب، حرِّيتي على مقاس فحولته.. أو على نزواتِ مراجَعات الطلاق.. كنتُ أعرف أنَّ في جعبةِ تحرُّري نفَـساً أخيراً لا يحتَملُ التفكير كثيراً قبل الزّفير.. شهيقي حينها كان بعثاً بعد موات.. و لم أكن لأخطِئ الحياة ثانيةً. ماريـا كانت أمَّي التي لم أمتـلِـكها يوماً لي خالِصة النيّة و الحبِّ و الأنوثة و الأمومة.. أمّي ماتتْ.. أمّي التي أنجبَـتْـني في خريف عمرها ماتت دونَ أن تكونَ يوماً أنثى مثلما أراد لها جسدُها أن تكونَ فعلاً، حين ارتضى لها يوم ولادَتها شَـكْلَ أنثى.. لم تكن يوماً أنثى كاملة الدلال و الأنوثة و الجمال. أمي التي كانت مثلما أراد لها المجتمع و التاريخ و الذاكرة أن تُـبْعِد كلَّ معالم أنوثَـتِها كي تنشأ على قـيمَ تكمِيمِ الجسد و تأثيمِ الأنوثة، ماتَتْ بعيداً عنّي.. هناك في بيتنا الذي بيعَ مباشرةً بعد ذكرى أربعـينِها، و كأنّ كلّ معامَلات البيع القانونية كانت خجلى من توثيق توقيعاتها قبل أن ينفُـضَ الحزنُ آخرَ أوراقه. رحلَـتْ و رحلَ معها ذلك البيتُ الذي آوى أحـلامي التي خـاصَـمها الزمن طـويلاً. رحـلَتْ دون أن تـكـون أنـثى.. نشأتْ.. و كـبُـرتْ.. و أينَعـتْ ورودُها.. و حين أينعت ثمارُها قَـطفَـها الـزواجُ و الأمـومـة و التـضـحـية و البـيـت و المسؤولية، لتُمتَصَّ كاملُ أوصاف الأنوثة.. و يظلَّ الدلالُ انزياحاً بليغاً بعيداً عن مراميها. حين أذكرها.. و أذكر أنوثةً استعجلتْ جسدي مواعيدَ تفتُّـقِـه، أعي الشيء الكثير مما كان غائباً عن إدراكي في ذلك اليوم الهارب.. لم تكن أمِّي أنثى كاملة أوصاف الأنوثة لترأف بـبـراعِـمـي الغـضَّة.. لم تكن تـعي جـسَـدَها أو ذاتَـها أو وجـودَها خـارج ضـوابـط الأسـرة و العائلة و القبيلة و العشيرة و المجتمع.. شرفٌ و عرضٌ ينتقل من وصاية إلى أخرى.. من حامٍ إلى آخر.. من بيتٍ إلى بيت.. من رجلٍ إلى رجل. و حين تشارَك أبناؤها حماية عرضِها، كنتُ أنا ذلك الشّرف المرصود للعار إن لم يحسنوا صونَه.. و قد كانوا على بيِّـنة من مسؤولياتهم و على قدر عزائمها. أبو زكريا لم يتركني لأبلُغ "تطوان" يوم جنازتها قبل صلاة العصر كي أودعها. لم يرأف بغربتي ليسدِّد دربَ يُتمي نحو تطوان قبل أن يحملوا نعشَها خارج البيت، ليصلّوا عليها صلاة الجنازة. كان يعلم مثلما يعلمُ كلُّ التِّـطاوْنِـيِـين من أهل المدينة أو ساكنتها أنّ موعد صلاة الجنازة و الدفن إنما يـتِـمَّان عصرَ اليوم.. و أنّ الموتَ في بيوتِنا إن دخلها باكِراً لا ينام الفقيد إلا في قبره.. لكنّه لم يكن معنِياً بغير ليلـه يتوسَّدُ فيه جسدي، ليكتمِلَ يومُه و نومُه و شخيرُه. حين وصلتُ بيتَنا بشارع "الوَحدة" صبيحة الغد، كان قبرُها النديّ قد صالح التراب الذي أهيلَ على كفَـنِها. و كان نعشُ زيجتي قد تاخَمَ قبرَه كذلك في دواخلي. كان صعباً عليّ أن أثق في جواره أو أن أطمئن إلى ظلّه. لم تسعفني أيامي معه بغير الـنَّهش و النهش.. حرمانٌ على شفا استهلاك. يمضي يومي مفرَغاً من كلِّ معنى.. كنتُ مثل كرسي تركه أصحابه في صمتِه العبثي يوماً كاملاً داخـل مستودعٍ ضيِّق لا يرى نـور الشمس.. نوافذه محكمةُ الإغـلاق.. و الحديدُ على أحرُفها يوغِلُ ـ بمكرِ حدّادٍ أتقَنَ الصّهرَ و النفخ و التبريد ـ في الخوف و التخوين.. و بـابـه يقـفُ وحـيـداً يتـحدّى صبرَ السّجـيـنة ليكافِـأ خبـثَ السّـجـان.. و حين يفتحون بابَ المستودَع ليلاً، عليه ذلك الكـرسي أن يكون سعـيداً و هم يتناوبونَ على اعتلاء شجنه و قهره و صمتِه البئيس. حين انقطعت به أسباب الرزق في مدينة "أصيلة"، مثل كلّ الباعة المتجولّين الذي يفترشون الأرض ببضاعتهم الزهيدة ناداه أصهاره، إخوتي، إلى الاحتماء بظلّهم. اكترى بيتاً صغيراً يقع في أعلى "الرِّيـنْكُــون" و سحبني، أنا ذلك الكرسي، خلفه دون أن يعـلِمني بشيء أو يطلِعَني على ما كان له في "أصيلة" و ما سينقله إلى "الرِّيـنْـكُـون". بعد كلّ ذلك نعتني بالأرض البور التي لم تُـنعِم عليه بالخَلَـف الذي ينشُده، رغم جهاده المتواصل في حرثِها طوال سنتين اثنتين. و رمى في وجهي آخر حقوقِه جملةً واحدةً لم يكرِّرها، ثم سافرَ ليتركني أغادر حياته بمفردي. دخَلَ في ذلك البيت نفسه الذي سجنني خلف بابه طيلة ستّة أشهر بزوجه الجديدة، قد تكون الثالثة أو الرابعة أو.. ، لم تعد تهُّمني حكاياته و سيره.. لقد خطبها قبل أن يطلِّقـني، و عقَدَ عليها قبل أن أتوصلَّ بوثيقة طلاقي. ليس لأنه لا يريد أن يجمع في الوقت نفسه بين كل أزواجه، و إنما لأنه حين يطلِّق السابقة يحلو له وجه اللاحقة.. و يخلو له الليل لحرثها دون ضجيج أو تنغيص.. و يخلو له البيت الذي لا يملك أن يكتري غيره للانفراد بمتعه بعيداً عن عيني أيِّ متلصِّصة. ماريـا فتحتْ قلبها و بيـتها و ابتسامتها لعـناقي. حمتْـني دون حـساب من جـهالة إخوتي و من تسلُّطِهم، إرضاءً لفاتِنِهم أبي زكريا. كان منتهى رغبتهم أن يكتروا له بيتاً ثانياً يمْكِنه إيوائي تحت لوائه من جديد، ليخلو البيت الآخر له و لزوجه الثانية. كم كانوا عطوفين عليه.. عليّ.. على خوفِهم من أختهم المطلَّقة.. على عرضهم المرصود للإثم المضاعف.. امرأةٌ و مطلَّقةٌ.. شتيمتان لا يستوعِبُهما إلا لفظ ينطِقُ عن فحولة واهمة. حين تجوّلتُ في تلك الأيام بين جوانب مدينتي التي لم تعد تشبِه مدينتي، كنتُ أغْزُو الدروب الظّليلة و الأبواب المجيدة و الأقواس الواطئة.. أغُوص في أزقة المدينة العــتيـقـة و أستجْدِي عطر التاريخ بين أفيائها.. أغتسِلُ بطعْـم الجير الأبيض و فيض أنسامِه يسْكُـن كلَّ حواسي.. و بامتداد الرطوبة الذي يترُك للحجر لوناً و عطراً يدرِكُه أنفي قبل عينيّ. ذاكرتي كانت تخون الحاضر.. حاضري حينها. كنتُ متخَمَةً بمدينة أخرى تحيا داخلي منذ طفولتي الغابرة... حلوى اجْـبَـالَة بساحة "الفَـدَّان" و النّحل يطاردُ رائحتَها الحلوة المغدِقة في رحيق عسلٍ آخر... "الفَدَّان".. "الفدَّان".. ذلك الذي كان، ذلك الذي ما يزال يسكُن ذاكرتي.. و ليس هذا الماثل أمام عينيّ في خيانةٍ و قحةٍ لتاريخِه و تاريخ المدينة.. و تاريخي. حبّات الكـاوكـاو المحمية داخـل قـشـورها السمـيكة فـوق العـربـات في "باب الـنـوادر" و "العيون" و "باب التُّوت". و أكـوازُ الذرة على الجمرات تلتهِبُ في كلِّ المنعطفات فيصدُر للهيبِ صدى جوعٍ و سُكْـرَ خياشيم. تداخلٌ مغوٍ لأطايب عديدة تباعُ هنا و هناك.. تمتزج على أنْـفِ الطفلة التي كُنْتُها يوماً في تحدٍّ أحسَنَ تدريبَه، فتميِّزين المكان و عيناك مغمضتان.. وحده أنفُكِ كانَ يمكِنُه أن يقودَك في خريطة المدينة التي رسمتِها طفلةً على وقعِ أنفاسِكِ و رجْعِ الشهيق و الزفير.. روائح تغمر الأنف تعلمك بأنك هناك.. لكنك تعرفين في عمق الحنين أن تلك الروائح ليس لها وجود خارج ذاكرتك المفعمة بالطفولة. لم تـعُـدْ للمكان الذي تذكرينه و أنتِ طفلة من ذلك الزمن المقابِـلاتُ الحـسيّة التي تضعـينها له. قد تغيّـرت الأشـيـاء مثلما تغـيّـرت الـروائـح و أنفاس الحياة. و ما زلت تكدسّين كلَّ ذلك في دواخلك، و تصرّين على حملِه معك إلى كل مكان تنتقلين إليه. تقاطُعات الأمكنة و الأزمنة في ذاكرتك تمعن في خداعك كثيراً، فتغيب عن عينيك الحدود و التفاصيل لتحلّ محلّها تفاصيل و حدود زمن آخر لا يمكن أن يعود.

ـ الورقة الرابعة من الفصل الثالث "أنـا أرانِي أخرى". من رواية " إِنِّـي وضعْتُها أنـثـى" للكاتبة المغربية سعيدة تاقي، سلسلة روايات الهلال ـ عدد ماي، دار الهلال القاهرة 2015.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم