ترك السيد فيرلوك البيت، الواجبات المنزلية، والعمل على حاله في طريقه باتجاه الغرب في الساعة العاشرة والنصف صباحاً. مبكراً على غير العادة، كان جسده بأكمله يتنفس روعة العذوبة الندية، ارتدى معطفه الأزرق مفتوح الأزرار، جزمته اللامعة، حلق ذقنه للتو، كان يلمع بعض الشيء، حتى جفنا عينيه الثقيلان، انتعشا بفضل ليلة من النوم الهادئ، وعيناه ترسلان نظرات تأهب نسبي. من خلال أسوار الحديقة العامة ترصد تلك النظرات المارين من الرجال والنساء في الشارع، الزوجان يتبختران بوئام، الآخرون يمشون برزانة في نزهة، مجموعات يتسكعون من ثلاثة أو أربعة أشخاص، الفرسان فرادى يراقبون بشكل غير ودي، النساء فرادى يتبعهن من على مسافة طويلة السائس مع شريط معقود على قبعته وحزام من الجلد حول معطفه الضيق. العربات تمشي بخفة، غالباً عربة بروم* بحصانين، هنا وهناك عربة فيكتورية مع جلد بعض الحيوانات البرية من الداخل ووجه امرأة وقبعة تبرز فوق غطاء العربة المطوي. وشمس لندن الاستثنائية ـــ بالمقابل لا يمكن قول أي شيء ما عدا أنها كانت تبدو محتقنة بالدم ــ تُبجل كل هذا بوهجها. معلقة بعلوٍ معتدل فوق زاوية هايد بارك مع جو من الحذر اللطيف والمتحفظ. حتى أن الرصيف تحت قدميّ السيد فيرلوك كان له مسحة من اللون الأصفر الغامق في تلك الإضاءة الوافرة، حيث لا السور، ولا الشجرة، ولا البهيمة، ولا الرجل يلقي ظله. السيد فيرلوك ذهب غرباً عبر حديقة دون ظلال في محيط مزين بغبار ذهبي عتيق. كان هناك ومضات نحاسية حمراء فوق سطوح المنازل، على زوايا الأسوار، على أغطية العربات، على أغطية الخيول، على الظهر الواسع لمعطف السيد فيرلوك، تتسبب في انطباع صدئ مملّ. لكن السيد فيرلوك على الأقل لم يكن مدركاً للصدأ. كان يعاين من خلال أسوار الحديقة العامة التي تشهد على بذخ البلدة وترفها بعين الرضى. كان لابد من حماية كل هؤلاء الناس. الحماية حاجة أساسية للبذخ والترف. كان لابد من حمايتهم، وكان لابد من حماية خيولهم، بيوتهم، خدمهم، ولابد من حماية مصدر ثروتهم في قلب المدينة وقلب البلد، النظام الاجتماعي كله مناسب لكسله الصحي وحماه من حسد البوليس السري لعمل غير صحي. كان من الممكن ــ والسيد فيرلوك يفرك يديه بارتياح أن لا يكون نافراً من وجهة نظر الدستور لكل مجهود غير ضروري. كسله لم يكن صحياً، لكنه مناسب جداً له. كان في حالة حرص عليه مع نوع من التعصب البليد، أو ربما بالأحرى البلادة المتعصبة. ولد لأبوين كادحين من أجل حياة من التعب، اعتنق الكسل بدافع عميق، متعذر تفسيره، ومُستبد مثل الدافع الذي يوجه خيار رجل لامرأة معينة من بين آلاف. كان كسولاً جداً حتى لمجرد أن يكون غوغائياً، واعظاً، أو رئيس عمل. كانت هذه مشكلة كبيرة جداً. كان يطلب شكلاً أكثر مثالية للراحة، أو ربما كان هو ضحية شك فلسفي في فاعلية كل جهد بشري. مثل هذا الشكل من أشكال الكسل يتطلب، ويقتضي ضمناً، قدر معين من الذكاء. السيد فيرلوك كان مجرداً من الذكاء ــ وفي مفهوم نظام اجتماعي مهدد ربما كان يغمز لنفسه إذا لم يكن هناك محاولة لحل علامة الشك تلك. عيناه الكبيرتان، البارزتان لم تكونا ملائمتين للغمز. بالأحرى، كانتا من النوع الذي يُغلق بهيبة في هجوع لتتركا انطباعاً عظيماً لديك. متحفظ وقوي البنية في مظهر خنزير سمين، السيد فيرلوك، دون أن يفرك يديه بارتياح أو يغمز بتشكك على تفكيره، شرع في طريقه. مشى على الرصيف بتثاقل مع جزمته اللامعة، ويوحي مظهره العام على أنه لميكانيكي ثري خرج في عملٍ لحسابه. قد يكون عمل في كل شيء من صناعة إطار الصور الى صانع أقفال، رب عمل في مجال متواضع. لكن كان هناك أيضاً شيء لايمكن وصفه عن مظهره ، مظهر لا يمكن أن يحصل عليه ميكانيكي في مزاولة حرفته اليدوية مهما مارسها بلا أمانة: المظهر العام لرجال يعيشون في الرذائل، الحماقات، أو المخاوف الزائفة للبشر، مظهر من العدمية الأخلاقية الشائعة لحراس جحيم القمار والبيوت المخالفة للقانون، لعملاء المباحث الخاصة والتحقيق، لباعة الشراب، ويجب أن أقول، مظهر باعة أربطة التنشيط الكهربائية ومبتكري الأدوية المجازة. لكن بالنسبة لأولئك المبتكرين لست متأكداً، لم أجرِ تحقيقاً عميقاً حولهم حتى الآن. كل ما أعرفه أن مظهر هؤلاء المبتكرين قد يكون شيطانياً تماماً. لا ينبغي أن أندهش. ما أريد أن أؤكده هنا هو أن مظهر السيد فيرلوك لم يكن شيطانياً بأي حال من الأحوال. قبل وصوله نايتسبريدج، انعطف السيد فيرلوك الى اليسار للخروج من الطريق الرئيسي المزدحم الذي يضج بحركة المركبات العمومية المتمايلة والعربات المسرعة، الى بعض الهدوء وتدفق سريع للعربات. تحت قبعته التي يرتديها مع إمالة طفيفية الى الوراء، شعره الناعم الممشط بعناية يوحي بالوقار، لأن عمله كان مع السفارة. السيد فيرلوك، ثابت مثل صخرة ــ نوع ناعم من الصخور ــ يسير الآن بمحاذاة شارع يمكن وصفه بكل لياقة على أنه شارع خاص. في عرضه، فراغه، وامتداد له عظمة الطبيعة غير العضوية، المادة التي لا تموت أبداً. التذكير الوحيد على الموت كان توقف بروم الطبيب في وحشة أغسطس بالقرب من حجر الرصيف. مقارع الأبواب المصقولة كانت تلمع على مد البصر، النوافذ النظيفة تسطع مع بريق ضبابي. وكل شيء كان ساكناً. لكن عربة الحليب تهتز بصخب من على مسافة بعيدة، صبي الجزار يقود عربة بالتهور النبيل لقائد عجلة في الألعاب الأولمبية، انطلق حول الزاوية وهو يجلس عالياً فوق زوج من العجلات الحمراء. قط مع نظرة المُذنب يخرج من تحت الحجارة راكضاً من أمام السيد فيرلوك، ليتجه الى قبو آخر، وشرطي غليظ، ينظر بغرابة الى كل انفعال، كما لو أنه، أيضاً، كان جزءاً من الطبيعة غير العضوية، يندفع بوضوح بعيداً عن عمود إنارة، ولا يولي أي اهتمام للسيد فيرلوك. مع انعطافه الى اليسار سلك السيد فيرلوك طريقه بمحاذاة شارع ضيق من جانب الحائط الأصفر الذي، ولسبب غير معروف، كُتب عليه بحروف سوداء رقم 1 ساحة تشام. ساحة تشام كانت على بعد ستين ياردة على الأقل، والسيد فيرلوك عالمي بما يكفي لأن لا ينخدع بأسرار طوبوغرافية لندن، واصل سيره بثبات دون أي لمحة مفاجأة أو سخط. أخيراً، مع الإصرار العملي، وصل الى ساحة تشام، وانحرف بمساره الى الرقم 10. هذا ينتمي الى بوابة نقل فخمة في جدار عالٍ ونظيف بين بيتين، حيث حمل أحدهما بمنطقية الرقم 9 والآخر كان مرقماً بــ 37 ، لكن الحقيقة هي أن الأخير ينتمي الى بورتهيل ستريت، شارع معروف في الحي، كان معروفاً بنقشٍ معين وُضع فوق نوافذ الطابق الأرضي من قبل سلطة، أياً كانت كفائتها، كُلفت بواجب العناية ببيوت لندن المهملة. لماذا لم تطلب السلطات من البرلمان لإخضاع تلك الصروح للعودة الى حيث تنتمي (لو كان عمل صغير لقامت به)، هو واحد من أسرار البلدية الإدارية. السيد فيرلوك لا يُشغل عقله بهذه الأمور، مهمته في الحياة هي حماية آلية المجتمع، وليس تحسينه أو حتى نقده. كان من المبكر جداً أن يخرج بواب السفارة مسرعاً من منزل الحراسة وهو مازال يتصارع مع الرُدن الأيسر لمعطفه الوبري. صِدَارُ معطفه كان أحمر، وكان يرتدي بنطلوناً قصيراً يصل الى ركبته، لكن مظهره كان مرتبكاً. السيد فيرلوك كان مدركاً للهجمة المحيطة به، أبعدها بمجرد أن أظهر ظرف مدموغ بختم السفارة، وسُمح له بالدخول. أخرج نفس التميمة أيضاً للموظف الذي فتح الباب، وعاد الى الوراء ليسمح له الدخول الى القاعة. كان هناك نار تحترق في موقد طويل، ورجل مسن يقف وظهره للموقد، يرتيد ملابس سهرة رسمية وسلسلة حول عنقه، رفع نظره عن الجريدة التي كان يمسكها مفتوحة بكلتا يديه أمام وجهه الهادئ والصارم. لم يتحرك، لكن خادم آخر يرتدي بزّة خاصة بالخدم، بنطلون بني وسترة الفراك* بحاشية من شريط أصفر رفيع. السيد فيرلوك المقترب أنصت الى همس اسمه، استدار على كعبه بهدوء، مشى دون أن ينظر الى الوراء ولو لمرة واحدة. بعد ذلك، قاد السيد فيرلوك على طول ممر الطابق الأرضي الى يسار درج مفروش بسجاد فخم، أشار له فجأة الدخول الى غرفة صغيرة جداً مؤثثة بطاولة كتابة ضخمة وبعض الكراسي. أغلق الخادم الباب، وبقي السيد فيرلوك وحده. لم يجلس. كان يمسك قبعته وعصاه بيد وينظر حوله، يمرر يده القصيرة البدينة الأخرى على رأسه المكشوف الأملس. بابٌ آخر فُتح بهدوء تام، السيد فيرلوك جمّد نظرته بذلك الاتجاه ورأى فقط في البداية ملابس سوداء، رأس أصلع، وشعيرات رمادية غامقة على كل جانب من يديه المجعدتين. الرجل الذي دخل كان يُمسك مجموعة من الأوراق قبالة عينيه ومشى الى الطاولة بخطوات أنيقة نوعاً ما، تصفح الأوراق لبرهة. المستشار الخاص فورمت، مستشار السفارة، كان قصير النظر الى حد ما. هذا الموظف الجدير بالثقة، وضع الأوراق على الطاولة، كشف عن وجه شاحب البشرة وقبح كئيب محاط بالكثير من الشعر الناعم الرمادي الداكن الطويل، وخُطَّ بقسوة بحاجبين سميكين كثيفين. وضع نظارة أنفية مؤطرة بأطار أسود على أنف مدور وغير متناسق، بدا منزعجاً عند ظهور السيد فيرلوك. تحت حاجبيه الضخمين تَطرفُ عيناه الضعيفتان بشكل مثير للشفقة من خلال النظارات. لم يبدِ أي إيماءة للتحية، وكذلك السيد فيرلوك الذي عرف مكانه دون سؤال، لكن تغيير بارع في شكل أكتافه وظهره أوحى بانحناء طفيف للعمود الفقري تحت الظهر الواسع لمعطفه. كان هذا نتيجة رغبة حماية غير ظاهرة. "لدي هنا بعض من تقاريرك" قال الموظف بصوتٍ مُرهَق ولين بشكل غير متوقع، وضغط طرف سبابته على الأوراق بقوة. توقف، والسيد فيرلوك، الذي تعرف على خطه جيداً، انتظر بصمتٍ حابساً أنفاسه. "لسنا راضين تماماً عن سلوك الشرطة هنا" أضاف الآخر، مع ملامح إجهاد ذهني. أوحت أكتاف السيد فيرلوك، بدون أي حركة فعلية، أنها اهتزت. ولأول مرة منذ أن ترك بيته ذلك الصباح فتح فمه. "كل بلد لديه شرطة" قال، متفلسفاً. لكن مثل موظف السفارة تابع النظر اليه بثبات وشعر بأنه مكره ليضيف: "اسمح لي أن أُبدي ملاحظة، ليس لدي أي وسيلة للتأثير على الشرطة هنا". "ما هو المطلوب" قال الرجل الذي لديه الأوراق، "هو حدوث شيء معين يحفزَّ حذرهم. داخل مقاطعتك ــ أليس كذلك؟" السيد فيرلوك لم يرد إلا بتنهيدة، أفلتت بشكل لا إرادي، حاول على الفور أن يمنح وجهه تعبيراً مرحاً. الموظف نظر بارتياب، كما لو أنه تأثر بضوء الغرفة الخافت. كرر بشكل مبهم: "حذر الشرطة ــ وخطورة القضاة. التساهل السائد للإجراءات القضائية هنا، والغياب التام لكل الوسائل القمعية، هي فضائح لأوروبا. ما نتمناه الآن هو تصعيد الاضطرابات ــ الاضطرابات السياسية موجودة بلا أدنى شك ـــ" "بلا شك، بلا شك" تدخل السيد فيرلوك بجهير عميق وجاد ذي نبرة خطابية، تختلف تماماً عن اللهجة التي تحدث بها من قبل، أبقت محاوره متفاجئاً للغاية. "موجودة بدرجة خطيرة. تقريري عن الاثنى عشر شهراً الأخيرة جعلتها واضحة بما فيه الكفاية". "تقريرك عن الاثنى عشر شهراً الأخيرة" عضو مجلس الدولة فورمت بدأ بنبرة لطيفة هادئة، "لقد قرأته من قبل. وفشلت في كشف السبب الذي جعلك تكتبه على أي حال". ساد صمت كئيب لفترة. كما لو أن السيد فيرلوك ابتلع لسانه، والآخر كان يحدق بالورق على الطاولة بثبات. وأخيراً دفعها دفعةٍ طفيفة. "حال الأمور التي كشفتها من المفترض وجودها كشرط أساسي في عملك. ما هو المطلوب في الوقت الحاضر ليس الكتابة، لكن تسليط الضوء على حقيقة واضحة وهامة ــ ما أود قوله هو، تلسيط الضوء على حقيقة مرعبة". "لا أريد القول إن كل المحاولات يجب أن توجه لهذه الغاية" قال السيد فيرلوك، مع تحويرات مقنعة في لهجته الحوارية الغليظة. لكن شعور أن تُراقب خلسة خلف البريق الخدّاع لتلك النظارة على الجانب الآخر من الطاولة أربكته. توقف قليلاً مع إيماءة أخلاص كامل. العمل الجاد، النافع، إذا أُعجب عضو مجهول من السفارة بفكرة ولدت حديثاً. "أنت بدين جداً" قال الموظف. هذه الملاحظة في الحقيقة، ذات طبيعة بشرية، ودعمها تردد بسيط لموظف أكثر دراية بالحبر والأوراق من متطلبات الحياة الفعلية، جرحت السيد فيرلوك مثل ملاحظة شخصية وقحة. تراجع خطوة الى الوراء. "ها؟ ماذا كنت تود أن تقول؟" صرخ باستياء وصوت مبحوح. مستشار السفارة، وُكل بإدارة هذه المقابلة، يبدو أنه وجدها كثيرة جداً عليه. "أظن" قال، "من الأفضل أن ترى السيد فلاديمير. نعم، أعتقد بلا تردد أنك يجب أن ترى السيد فلاديمير. هلا تكرمت بالانتظار هنا" أضاف، وخرج بخطوات أنيقة. مرر السيد فيرلوك يده على رأسه مباشرة. تصبب عرق قليل على جبينه. سمح للهواء أن ينفذ من بين شفتيه المزمومتين مثل رجل نفخ على ملعقة من الحساء الساخن. لكن عندما ظهر الخادم الأسمر عند الباب بهدوء، لم يتحرك السيد فيرلوك من مكانه الذي شغله طوال المقابلة إنشاً واحداً. ظل ساكناً، كما لو أنه شعر بنفسه محاطاً بالشِراك. مشى في ممر مضاء بشعلة غاز واحدة، وبعد ذلك حلق على درج لولبي، وخلال مدخل مزجج ومضيء في الطابق الأول. فتح الخادم باباً، ووقف جانباً. لمست قدما السيد فيرلوك سجادة سميكة. الغرفة كانت كبيرة، وفيها ثلاث نوافذ، ورجل شاب بوجه حليق، كبير، يجلس على كرسي واسع أمام طاولة كتابة ماهوغانية*، قال لمستشار السفارة باللغة الفرنسية، الذي خرج والأوراق في يديه: "أنت محق تماماً، عزيزي. إنه بدين ــ الحيوان". السيد فلاديمير، السكرتير الأول، ذا سمعة ذائعة الصيت في حفلات الاستقبال الرسمية كرجل محبوباً ومسلياً. كان شخص مفضل في المجتمع. ظُرفه يعتمد على اكتشاف التداخل المضحك بين الأفكار المتناقضة، وعند الكلام بهذا التوتر كان يجلس الى الأمام في مقعده، رفع يده اليسرى، كما لو يُعرض أدلته المضحكة بين الإبهام والسبابة، بينما وجهه المستدير والحليق يلبس ملامح ارتباك مرح. لكن، لم يكن هناك أي أثر لبهجة أو مرح في الطريقة التي كان ينظر بها الى السيد فيرلوك. يستلقي في عمق كرسيه، يوزع مرفقيه بانسجام على ذراعي الكرسي، ويضع إحدى ساقيه على ركبته السميكة، لديه مع وجهه الناعم المتورد ملامح طفل ينمو بقوة خارقة ولن يتحمل أي هراء من أي شخص. "أظن أنك تفهم الفرنسية؟" قال. قال السيد فيرلوك بصوت مبحوح أنه يفهم الفرنسية. كل جسده الضخم ينحني الى الأمام. وقف على سجادة في وسط الغرفة، يمسك قبعته وعصاه في يد واحدة، والأخرى تتدلى ميتة الى جانبه. تمتم بشكل غير مفهوم في مكان ما عميق جداً في حنجرته، شيء يتعلق بخدمته العسكرية في المدفعية الفرنسية. فجأة، وبمشاكسة هازئة، غيّر السيد فيرلوك اللغة، وبدأ يتحدث بإنكليزية عامية دون أدنى أثر للهجة أجنبية. "آه! نعم. بالطبع. دعنا نرى. كم كسبت من أجل الحصول على تصميم مغلاق مؤخرة مُحسّن لمدفع الميدان الجديد الذي يمتلكونه؟" "خمس سنوات حبس قاسية في قلعة" أجاب السيد فيرلوك، فجأة، لكن بدون إظهار أي مشاعر. "هربت منه بسهولة" علق السيد فلاديمير. "و، على أي حال، نفعتك تماماً في إشغال نفسك. ما الذي جعلك تستمر في شيء من هذا القبيل ــ ها؟" صوت السيد فيرلوك الأجش كان مسموع وهو يتحدث عن شباب، عن وله قاتل من أجل شيء تافه. "اها! cherchez la femme (فتش عن المرأة)" تفضل السيد فلاديمير مقاطعاً، بصلابة لكن بدون دماثة، كان هناك، على العكس من ما هو متوقع، لمسة من الكآبة في تعاليه. "منذ متى وأنت تعمل هنا للسفارة ؟" سأل. "منذ زمن البارون السابق ستوت – ورتنهايم" أجاب السيد فيرلوك بنبرة حزينة، برز شفتيه بحزن، في إشارة أسف على الدبلوماسي المتوفى. راقب السكرتير الأول هذا التلاعب في ملامح الوجه بثبات. "آه! منذ زمن ... حسناً! ماذا تريد أن تقول عن نفسك؟" سأل بحدة. أجاب السيد فيرلوك مع بعض المفاجأة بأنه لا يعلم إن كان لديه أي شيء خاص للحديث عنه. تم استدعاءه برسالة ــ أدخل يده بهمة في الجيب الجانبي لمعطفه، لكن قبل أن يرى المراقبة الساخرة، التهكمية للسيد فلاديمير، خَلِصَ الى تركها هناك. "باه!" قال الأخير. "ماذا تعني بالخروج من مثل هذه الحالة؟ لم تحصل حتى على البنية الجسدية الملائمة لمهنتك. أنت ــ جزء من طبقة العمال الجائعة ــ على الأطلاق! أنت ــ اشتراكي يائس أم فوضوي ــ أيٍ منهما؟". "فوضوي" قال السيد فيرلوك بنبرة ميتة. "هراء!" تابع السيد فلاديمير، دون أن يرفع صوته. "لقد روعت العجوز فورمت نفسه. أنت لن تخدع أحمق. أنهم جميعاً مناسبون، لكنك تبدو لي ببساطة غير مناسب. وكذلك، بدأت اتصالك بنا عن طريق سرقة تصاميم السلاح الفرنسي. وانشغلت بنفسك. يجب أن يكون هذا مزعجاً جداً لحكومتنا. لا يبدو أنك ذكي جداً". حاول السيد فيرلوك تبرئة نفسه بصوت مبحوح. "لو أُتيحت لي فرصة المراقبة من قبل هذا الوله القاتل لشيء تافه ــــ" رفع السيد فلاديمير اليد البيضاء، السمينة. "آه، نعم. الحب البائس ــ لشبابك. حصلت هي على المال، وباعتك بعد ذلك الى الشرطة ــ أليس كذلك؟". التغيّر المحزن في ملامح السيد فيرلوك، التذلل الذي أظهره جسده بالكامل، بيّن أن هذه الحالة كانت مؤسفة بالنسبة له. قبضت يد السيد فلاديمير على الكاحل المستند على ركبته. الجورب كان من الحرير الأزرق الغامق. "عرفت، لم يكن هذا ذكاءاً منك. ربما أنتم حساسون جداً". لَمّح السيد فيرلوك بصوت مبحوح، مخفي بأنه لم يعد شاباً بعد الآن. "أوه! هذا الفشل لا يعالجه السن" علق السيد فلاديمير، بألفة خبيثة. "لكن لا! أنت سمين جداً. لا يمكن أن تصل الى هذا الشكل لو كنت حساساً. سأقول لك ما أعتقد أنه مهم: أنت زميل كسول. منذ متى وأنت تستلم راتباً من هذه السفارة؟". "إحدى عشرة سنة" كان الجواب، بعد برهة من التردد الشديد. "لقد كُلفت بعدة مهام في لندن بينما كان سعادة البارون ستوت – ورتنهايم لا يزال سفيراً في باريس. وبعد ذلك، سكنت في لندن حسب تعليمات سعادته. أنا إنكليزي". "أنت! من أنت؟ ها؟" "أنا شيء إنكليزي ولد ولادة طبيعية" قال السيد فيرلوك بلا مبالاة. "لكن أبي فرنسي، ولهذا ــــ ". "توضيح غير مهم" قاطع الآخر. "أحسب أنك تستطيع أن تكون مارشال فرنسا قانونياً وعضو برلمان في أنگلترا ــ وبعد ذلك، بالتأكيد، يمكن أن تكون ذا فائدة لسفارتنا". أثارت هذه النزوة شيء يشبه ابتسامة باهتة على وجه السيد فيرلوك. السيد فلاديمير حافظ على وقاره ورباطة جأشه. "لكن، كما قلت، أنت زميل كسول، لم تستثمر فرصك. في عهد البارون ستوت – ورتنهايم كان لدينا الكثير من المغفلين يديرون هذه السفارة. الزملاء أمثالك تسببوا في تكوين مفهوم خاطئ عن موارد الخدمة السرية. عملي هو تصحيح الفهم الخاطئ بأن أقول لك أن الخدمة السرية ليست كذلك. هي ليست مؤسسة خيرية. لقد دعوتك عمداً لأقول لك هذا". لاحظ السيد فلاديمير التعبير القوي للحيرة على وجه السيد فيرلوك، وابتسم ساخراً. "أرى أنك قد فهمتني تماماً. أحسب أنك ذكي الى حد كافٍ بالنسبة لعملك. ما نريده الآن هو النشاط ــ النشاط". بتكرار تلك الكلمة الأخيرة وضع السيد فلاديمير سبابته البيضاء الطويلة على حافة المكتب. اختفى أي أثر للبحة من صوت السيد فيرلوك. مؤخرة عنقه السمين أصبح لونها قرمزياً فوق الياقة المخملية لمعطفه. ارتجفت شفتاه قبل أن يُفتحا على سعتهما. "لو كنت جيداً بما يكفي للبحث في سجلي" صرخ بصوته العميق، الواضح، القوي، الخطابي، "سوف ترى أني حذرت منذ ثلاثة أشهر فقط من الاحتفال بزيارة الدوق الكبير روموالد الى باريس، وأرسلت بالبرقية من هنا الى شرطة فرنسا، و ـــــ " "لا، لا" قاطع السيد فلاديمير، بوجه عبوس. "الشرطة الفرنسية لم تستخدم تحذيرك. لا تصرخ بهذه الطريقة. ماذا تعني بحق الجحيم؟". بتواضع زائد اعتذر السيد فيرلوك لأنه نسي نفسه. صوته مشهور لسنوات في اجتماعات الهواء الطلق وفي مجالس العمال في القاعات الكبيرة، ساهم، كما يقول، في شهرته كرفيق صالح وجدير بالثقة. لهذا، كان صوته جزءاً من فائدته. كان يوحي بالثقة في مبادئه. "دائماً ما كان يرشحني القادة للحديث في اللحظات الحرجة" صرّح السيد فيرلوك، مع قناعة واضحة. لا يوجد هناك ضجة تعلو على صوته ليكون مسموعاً، أضاف، وفجأة اصطنع مظاهرة: "اسمح لي" قال. أخفض جبهته، دون أن ينظر حوله، بسرعة، وضجر، قطع الغرفة الى واحداً من النوافذ الفرنسية. كما لو أنه فسح الطريق لشعور لا يمكن السيطرة عليه، فتح النافذة قليلاً. قفز السيد فلاديمير مندهشاً من جوف الكرسي ذو الذراعين كمن يراقب خطر أو تهديد، وفي الدور الأسفل، عبر فناء السفارة، تماماً خلف البوابة المفتوحة، يمكن رؤية الظهر العريض لشرطي يرصد عربة أطفال رائعة لطفل ثري كان يُدفع بأبهة عبر الساحة. "شرطي!" قال السيد فيرلوك، بلا جهد كما لو أنه يهمس، والسيد فلاديمير انفجر من الضحك عند رؤية الشرطي وهو يدور بسرعة كما لو أنه وُخز بأداة حادة. أغلق السيد فيرلوك النافذة بهدوء، وعاد الى وسط الغرفة. "مع صوت مثل هذا" قال، مصطنعاً دواسة التخاطب الفظ، "كنت بالطبع شخص موثوق به. أعرف ما أقول أيضاً". عَدّلَ السيد فلاديمير ربطة عنقه، راقبه في المرآة فوق رف الموقد. "أحسب أنك حفظت المصطلحات الاجتماعية الثورية عن ظهر قلب" قال بسخرية. "فوكس* و... لم تدرس في حياتك اللاتينية ــ هل درستها؟". "لا،" تذمر السيد فيرلوك. "أنت لم تتوقع مني أن أعرفها. أنا أنتمي إلى الملايين. من يعرف اللاتينية؟ بضعة مئات فقط من المعتوهين الذين لا يصلحون لرعاية أنفسهم". لحوالي ثلاثين ثانية درس السيد فلاديمير في المرآة المظهر الجانبي السمين، الحجم الإجمالي، للرجل خلفه. وفي نفس الوقت كانت لديه فرصة رؤية وجهه الحليق والمدور، الوردي حول الفك، وشفتيه الرفيعتين، الرقيقتين اللتين تناسبان تماماً الكلام عن تلك النكات الرائعة التي جعلت منه شخصاً مفضلاً لدى الطبقات الراقية في المجتمع. واستدار بعد ذلك، وسار في الغرفة مع ذلك الحزم الذي جعل نهاية ربطة عنقه المعقودة الطريفة قديمة الطراز تبدو كما لو أنها قد ارتفعت مع تهديدات لا توصف. الحركة كانت سريعة وعنيفة بحيث أن السيد فيرلوك، ألقى نظرة منحرفة، وجَبُن في داخله. "آها! تجرؤ أن تكون وقحاً" بدأ السيد فلاديمير، بلهجة عامية مذهلة ليست فقط غير إنگليزية تماماً، ولكنها غير أوروبية بكل تأكيد، وفاجئت حتى خبرة السيد فيرلوك في الأحياء العالمية الفقيرة. "تجرؤ! حسناً، سأتحدث معك بلغة إنگليزية سهلة. الصوت لن يفعل ذلك. نحن لم ننتفع من صوتك. نحن لا نريد صوت. نحن نريد حقائق ـــ حقائق مروعة ــ اللعنة عليك!" أضاف، مع شيء من تحفظ وقسوة في وجه السيد فيرلوك مباشرة. "لا تحاول التأثير عليَّ بأخلاقك الشمالية" دافع السيد فيرلوك عن نفسه بصوت أجش وهو ينظر الى السجادة. عندما ابتسم محاوره ساخراً على العقدة المرتفعة لربطة عنقه، حوّل الحوار الى اللغة الفرنسية. "لقد قدمت نفسك للعمل كعميل "محرّض". المهمة الحقيقية للعميل المحرّض هي التحريض. على قدر ما يمكنني الحكم من خلال سجلك المحفوظ هنا، أنت لم تفعل شيء لتستحق الراتب الذي تتقاضاه طوال الثلاث سنوات الأخيرة". "لا شيء!" صرخ فيرلوك، لم يحرك ساكناً، ولم يرفع عينيه، لكنه قال ذلك بإشارة تطوي مشاعر صادقة في نبرته. "لقد منعت عدة مرات ما قد يكون ــــ" "هناك قول مأثور في هذا البلد يقول أن الوقاية خير من العلاج" قاطعه السيد فلاديمير، ألقى بنفسه على الكرسي. "إنه غباء بشكل عام. ليس هناك نتيجة من الوقاية. لكنها فطرية. إنهم يكرهون الوضوح في هذا البلد. لعلك إنگليزي جداً. وفي هذه الحالة بالذات، لا تكن سخيفاً. الشيطان يكمن هنا بالفعل. نحن لا نريد الوقاية ــ نحن نريد العلاج". توقف قليلاً، تحول الى المكتب، وتصفح بعض الأوراق الموضوعة هناك، تحدث بنبرة متغيّرة، عملية، دون أن ينظر الى السيد فيرلوك. "سمعت، بالطبع، عن المؤتمر الدولي الذي عُقد في ميلان؟" لَمّح السيد فيرلوك بصوت أجش بأن من عادته قراءة الصحف يومياً. وعلى سؤال آخر كانت إجابته، بالطبع، أنه فهم ما قرأه. عندها ابتسم السيد فلاديمير قليلاً على الوثائق التي كان يفحصها بدقة واحدة تلو الأخرى، تذمر قائلاً: "إذن لم تُكتب باللاتينية، كما أظن". "أو الصينية" أضاف السيد فيرلوك ببرود. "امم. بعض من سرب أصدقاءك الثوريين يكتبون بلغة غامضة كل شيء مبهم فيها مثل اللغة الصينية ــــ" سمح السيد فلاديمير لورقة رمادية من المطبوعات أن تسقط باستخفاف. "ما كل هذه المنشورات المعنونة بالــ أف. پي.، مع شارة مطرقة، قلم وشعلة؟ ماذا تعني هذه الرموز، هذه الــ أف. پي.؟" اقترب السيد فيرلوك من المكتب الفخم. "مستقبل البروليتاريا* (The Future of the Proletariat). إنها جمعية" وضح السيد فيرلوك، وهو يقف بتثاقل الى جانب الكرسي، "ليست فوضوية من حيث المبدأ، لكنها منفتحة على جميع أطياف الآراء الثورية". "هل أنت عضو فيها؟" "واحد من نواب الرئيس" زفر السيد فيرلوك بصعوبة، والسكرتير الأول للسفارة رفع رأسه لينظر له. "إذن يجب عليك أن تخجل من نفسك" قال بوضوح. "أليست جمعيتك هذه غير مؤهلة لأي شيء آخر ما عدا طباعة هذا الكلام التنبؤي الفارغ بحروف طباعية مهترئة على هذا الورق القذر ــ ها؟ لما لم تفعل شيئاً؟ أنظر هنا. أصبحت القضية بيدي الآن، أقول لك بصراحة بأنك سوف تستحق راتبك. انتهى زمن العجوز الطيب ستوت – ورتنهايم. لا عمل. لا أجر". شعر بإحساس غريب من الضعف في ساقيه البدينتين. عاد الى الوراء خطوة، وزفر بصوتٍ عالٍ. كان في الحقيقة مندهشاً وقلقاً. شمس لندن الصدئة تصارع بوضوح ضباب لندن وتسرب ضوء دافئ في غرفة السكرتير الأول الخاصة: وفي صمت السيد فيرلوك سمع عند زجاج النافذة أزيز خافت لذبابة ــ ذبابتها الأولى لهذه السنة ـــ تبشر بقدوم الربيع أفضل من أي عدد من السنونوات. الهياج عديم الفائدة لهذا الكائن النشط الصغير تسبب في إزعاج هذا الرجل الضخم مهدداً كسله. في فترة الصمت، صاغ السيد فلاديمير في رأسه سلسلة من الملاحظات المهينة تتعلق بوجه السيد فيرلوك ومظهره. كان الرجل مبتذل، بطيء، وغبي بشكل مخجل. يشبه على نحو غريب سباك جاء ليقدم كشف حسابه. السكرتير الأول للسفارة، من كل رحلاته العرضية الى مجال الفكاهة الأمريكية، كوّن رأي خاص عن ذلك النوع الميكانيكي باعتباره كسل وعجز إحتيالي. كان هذا إذن العميل السري الشهير وموضع الثقة، سري الى درجة أنه لم يتم تحديده أبداً بطريقة أخرى إلا عن طريق الرمز Δ (دلتا) في أمر رسمي من البارون السابق ستوت – ورتنهايم ،أو شبه رسمي، وفي المراسلات السرية. العميل Δ المعروف، والذي تحذيراته لها القدرة على تغيير المخططات والمواعيد الملكية، الامبراطورية، أو رحلات الدوقية الكبرى، وأحياناً تؤدي بهم الى تأجيلها تماماً! هذا الزميل! والسيد فلاديمير انغمس ذهنياً في نوبة هائلة وساخرة من المرح بسبب دهشته الخاصة الى حد ما والتي حكم عليها بالسذاجة، لكن غالباً على حساب العالمية المؤسفة للبارون ستوت – ورتنهايم. صاحب السعادة السابق، الذي فرض نفسه لتأييده المهيب لسيده الامبراطور كسفير بعد عدة وزراء معارضين في الشؤون الخارجية، تمتع بشهرة شبيه البوم طوال حياته، وسذاجة متشائمة. صاحب السعادة السابق لديه ثورة اجتماعية في عقله. يتخيل نفسه دبلوماسي عُزل بإعفاء خاص ليرى نهاية الدبلوماسية، أو نهاية العالم تقريباً، في ثورة ديمقراطية مزعجة. برقياته القدرية الكئيبة ظلت لسنوات نكتة الوزارات الخارجية. قال وهو يصرخ على فراش الموت (عند زيارة صديقه وسيده الامبراطور): "أوروبا التعيسة! أنت سوف تهلك من الجنون الأخلاقي لأولادك!" قُدِرَ له أن يكون ضحية أول إحتيال لوغد ظهر بسرعة، فكر السيد فلاديمير وهو يبتسم قليلاً للسيد فيرلوك. "يجب عليك تبجيل ذكرى البارون ستوت – ورتنهايم" صرخ فجأة. ملامح وجه السيد فيرلوك المتراخية عبّرت عن انزعاج مرهق وكئيب. "اسمح لي أن أبدي ملاحظة" قال، "لقد جئت الى هنا لأني اُستدعيت بأمر رسمي. لقد كنت هنا لمرتين فقط طوال الإحدى عشرة سنة الماضية، وبالتأكيد، ليس في الساعة الحادية عشرة صباحاً. ليس من الحكمة أن تستدعوني بهذه الطريقة. هناك فرصة لأن يراني أحدهم. ولن يكون الأمر مزحة بالنسبة لي". رفع السيد فلاديمير كتفيه. "هذا سوف يُدمر فائدتي" واصل الآخر بشدة. "هذا شأنك" تذمر السيد فلاديمير بعدائية ناعمة. "عندما تتوقف في أن تكون مفيداً يجب عليك التوقف في أن تكون عاملاً. نعم. توقف حالاً. اختصر. يجب عليك ــــ" عبس السيد فلاديمير، توقف على أي حال من أجل عبارة اصطلاحية مناسبة، وفوراً ظهرت، مع ابتسامة أسنان بيضاء جميلة. "يجب عليك أن تستقيل" قالها بقوة. ومرة أخرى رد السيد فيرلوك بكل قوته عن إرادته ضد ذلك الاحساس بالضعف الذي أرهق إحدى ساقيه التي ألهمت فيما مضى شيطان بائس بتعبير مناسب: "أنا حزين جداً" السيد فيرلوك أدرك شعوره، ورفع رأسه بشجاعة. السيد فلاديمير كان يحمل نظرة استجواب ثقيلة مع هدوء مثالي. "ما نريده هو إدارة قرار بخصوص مؤتمر ميلان" قال بحيوية. "أفكار المؤتمر المتداولة عن أجراءات دولية بخصوص قمع الجرائم السياسية لم ينجح في أي مكان. التخلف الإنگليزي. هذا البلد سخيف باعتباراته العاطفية فيما يخص الحرية الفردية. شيء لا يطاق أن تفكر بأنك حصلت على كل أصدقاءك فقط لتعبر الى ـــ". "بهذه الطريقة يمكنني مراقبتهم بدقة" قاطعه السيد فيرلوك بصوت مبحوح. "ستصل الى ذلك بطريقة أفضل لو وضعتهم في السجن. على إنگلترا أن تتوازن. الطبقة البرجوازية البلهاء لهذه البلاد جعلتهم متواطئين مع أناس يسعون الى اخراجهم من بيوتهم للموت جوعاً في الخنادق. ولا يزال لديهم القوة السياسية، لو كان لديهم فقط العقل لاستخدامها من أجل حمايتهم. أعتقد أنك توافق على أن الطبقات المتوسطة غبية؟". وافق السيد فيرلوك بصوت أجش. "هم كذلك". "ليس لديهم أي خيال. عُمي مع غرور غبي. ما يريدونه الآن هو ذعرٌ جديد. هذه هي اللحظة النفسية التي تبدأ فيها أنت وأصدقاءك العمل. لقد دعوتك الى هنا لأكشف لك عن فكرتي". وعرض السيد فلاديمير فكرته من موقع السلطة، بسخرية واحتقار، عرض في نفس الوقت قدر من الجهل فيما يتعلق بأهداف، أفكار، وأساليب العالم الثوري الحقيقية أتخمت صمت السيد فيرلوك بذعر شديد. طرح الأسباب مع النتائج أكثر من ما كان ممكن تبريره، أكثر الدعاة شهرة مع رماة القنابل المتهورين، منظمات افتراضية لا يمكن أن تكون موجودة في طبيعة الحال، تحدث عن الحزب الثوري الاجتماعي باعتباره جيش منضبط تماماً، حيث كلمة القادة هي العليا، ومن جانب آخر باعتباره جمعية مفككة من قطاع الطرق اليائسين كانوا يعسكرون دائماً في ممر جبل ضيق. ما إن فتح السيد فيرلوك فمه ليعترض، حتى أوقفه، رفع يد بيضاء كبيرة وجميلة. بعدها أصبح السيد فيرلوك خائفاً حتى من محاولة الاحتجاج. كان ينصت في سكون رهيب يشبه الجمود من أجل إصغاء شديد. "سلسلة من الاعتداءات" واصل السيد فلاديمير، بهدوء، "المُنجز هنا في هذا البلد، لا يُخطط له هنا فقط ــ لا أتمنى ذلك ــ هم لا يمانعون. يمكن لأصدقاءك أن يشعلوا نصف القارة دون التأثير على الرأي العام هنا خدمة للتشريعات القمعية العالمية. ولن يبحثوا خارج حدودهم". صفّى السيد فيرلوك حنجرته، لكن قلبه خذله، ولم يقل شيئاً. " هذه الاعتداءات ليس لزوماً أن تكون دموية" واصل السيد فلاديمير، كما لو أنه يلقي محاضرة علمية، "لكنها يجب أن تكون مذهلة بما فيه الكفاية ــ فعّالة. دعها توجه ضد المباني، على سبيل المثال. ما هو صنم الساعة الذي يعرفه كل البرجوازيين ــ ها، سيد فيرلوك؟". فتح السيد فيرلوك يديه وهزّ كتفيه قليلاً. "أنت كسول جداً على التفكير" كان تعليق السيد فلاديمير على هذه الإشارة. "انتبه لما أقول. صنم اليوم ليس المَلَكية ولا الدين. لذلك يجب أن تترك القلعة والكنيسة وشأنهما. هل فهمت ما أعني، سيد فيرلوك؟". فزع وتذمرالسيد فيرلوك وجدا متنفسهما في محاولة سخرية. "رائع. لكن ماذا عن السفارات؟ سلسلة من الهجمات على سفارات مختلفة" قال، لكنه لم يتحمل هذا البرود، التحديق اليقظ للكسرتير الأول. "يمكنك أن تكون طريفاً، أعرف" الملاحظة الأخيرة، قالها بلا مبالاة. "كل هذا صحيح. قد تقوّي خطابتك في المؤتمر الاشتراكي. لكن هذه الغرفة ليست مكاناً للخطابة. سيكون الأمر الأكثر أماناً لك متابعة ما أقول بعناية. رغم أنك دُعيت لتقديم الحقائق بدلاً من قصص الديك والثور، من الأفضل لك أن تحاول جعل فائدتك من ما عانيت لأشرحه لك. الصنم المقدس لهذا العصر هو العلم. لماذا لا تأخذ بعض من أصدقاءك للذهاب الى تلك الشخصية المهمة ذات الوجه الخشبي ــ ها؟ أليس هذا جزءاً من تلك المؤسسات التي يجب أن تُجرف بعيداً قبل أن يتقدم الـ أف. پي.؟" لم يقل السيد فيرلوك أي شيء. كان خائفاً أن يفتح فمه لئلا يفلت منه تأوه. "هذا ما يجب أن تجربه. محاولة على رأس متوج أو على رئيس، مدهشة بشكل كاف بطريقة ما، لكن ليس بالقدر المطلوب. لقد دخلت في المفهوم العام لوجود كل رؤساء الدولة ــ مفهوم تقليدي على ما أعتقد ــ خاصة بعد اغتيال الكثير من الرؤساء. الآن دعنا نأخذ الاعتداء على ــ لِنقُل كنيسة. فظيع تماماً لأول وهلة، بلا شك، ولكن ليس فعال جداً كما قد يفكر عقل عادي. مهما كان ثوري وفوضوي في بدايته، سيكون هناك حمقى يمنحون مثل هذا الاعتداء صفة الطابع الديني. وهذا سوف يقلل من أهمية إثارة القلق التي نريد إعطاءها للاعتداء. محاولة قتل في مطعم أو مسرح سوف تعاني بنفس الطريقة من تلميح عاطفي غير سياسي، سخط رجل جائع، فعلُ ثأر اجتماعي. كل هذا قد استهلك، لم يعد مفيداً كدرس موضوعي في الفوضوية الثورية. كل صحيفة لديها عبارات جاهزة لتفسير مثل هذه المظاهر. أنا على وشك أن أقدم لك فلسفة رمي القنبلة من وجهة نظري، من وجهة النظر التي تظاهرت باستخدامها خلال الإحدى عشرة سنة الأخيرة. سوف أحاول أن لا أتحدث فوق مستوى فهمك. حساسية الطبقة التي تهاجمها ضعفت سريعاً. الملكية تبدو بالنسبة لهم شيء غير قابل للتدمير. لا يمكنك الاعتماد على مشاعرهم من الخوف أو الشفقة على حد سواء لفترة طويلة جداً. حتى يكون لتفجير قنبلة تأثير على الرأي العام الآن يجب تجاوز نية الانتقام أو الأرهاب. يجب أن يكون الاعتداء مدمراً بكل معنى الكلمة. يجب أن يكون هكذا، وهكذا فقط، أبعد من أضعف شبهة لأي شيء آخر. فوضويتك يجب أن تُظهر أنك عازم تماماً على حملة تنظيف للمكوّن الاجتماعي بأكمله. لكن كيف نُدخل هذه الفكرة السخيفة المروعة في عقول الطبقة المتوسطة حتى لا يكون هناك أي خطأ؟ هذا هو السؤال. بتوجيه ضرباتك الى شيء خارج الرغبات الإنسانية العادية هو الجواب. بالطبع، هناك فن. قنبلة في معرض وطني يمكن أن تسبب بعض الضوضاء. لكنها لن تُحمل على محمل الجد الى حد ما. الفن لن يكون صنمهم. هذا العمل يشبه كسر عدد من النوافذ الخلفية لمنزل رجل ما، في حين، إذا أردت أن ترهقه حقاً، عليك أن تحاول رفع السقف على الأقل. سيكون هناك بعض الصراخ بالطبع، لكن مِن مَن؟ الفنانين ــ نقاد الفن ومن هم على شاكلتهم. ما يقولونه غير مهم. لكن هناك تَعلُم العلوم. أي أبله دخل الى هناك يؤمن بذلك. لا يعرف لماذا، لكنه يؤمن به بطريقة أو بأخرى. العلم هو الصنم المقدس. الأساتذة الملعونون راديكاليون في أعماقهم. دعهم يعرفوا أن شخصيتهم العظيمة قد رحلت، أيضاً، لتترك المجال إلى مستقبل البروليتاريا. عواء من كل هؤلاء المفكرين الحمقى ملزم ليساعد في تقدم جهود مؤتمر ميلان. سوف يكتبون في الصحف. سوف يكون سخطهم فوق الشبهات، لا مصالح مادية تكون معلنة، وهذا سوف يُنذر كل أنانية الطبقة التي يجب أن تكون مؤثرة. يؤمنون بأن في بعض أسرار العلوم مصدر ثرائهم المادي. هم يعرفون. والوحشية اللامعقولة لمثل هذه المظاهرة سوف تؤثر عليهم بقوة أكثر من تغيير اسم شارع ــ أو مسرح ــ مليء بأمثالهم. ولهذا الأخير يمكنهم أن يقولوا: "أوه! إنها مجرد كراهية طبقية"، لكن ما يقوله المرء عن فعل وحشي مدمر جداً سخيف لدرجة أن يبدو غير مفهوم، لا يمكن تفسيره، لا يمكن تصوره تماماً، في الحقيقة، هو فعل مجنون؟ الجنون مرعبٌ تماماً، لأنك لا تستطيع تهدأته بالتهديدات، أو الرشاوى على حد سواء. بالإضافة الى ذلك، أنا رجل متحضر. لا أحلم بتوجيهك لتنظيم مجزرة، حتى لو توقعت أفضل نتيجة منها. لكني لا أتوقع من المجزرة النتيجة التي أرغب بها. القتل دائماً معنا. يكاد يكون مؤوسسة. المظاهرة يجب أن تكون ضد تعلّم العلم. لكن ليس كل علم. الهجوم يجب أن يمتلك اللاعقلانية الصادمة للاعتداء غير المبرر. بما أن القنابل هي أدواتك للتعبير، فإنها ستكون معبّرة حقاً كما لو أن أحدهم تمكن من رمي القنبلة في رياضيات خالصة. لكن هذا مستحيل. لقد حاولت تعليمك، شرحت لك فلسفة راقية لفائدتك، واقترحت عليك بعض الحجج النافعة. التطبيق العملي لتعاليمي من مصلحتك غالباً. لكن من اللحظة التي حاورتك فيها، أوليت بعض الاهتمام الى الجانب التطبيقي للسؤال. ما رأيك بتجربة علم الفلك؟". جمود السيد فيرلوك لبعض الوقت على جانب من الكرسي كان يشبه بالفعل حالة من الانهيار، الغيبوبة ــ نوع من فقدان حس سلبي توقف مع بدايات تشنج طفيف، مثلما قد يكون ملاحظ في كلب منزلي حلم بكابوس وهو نائم على بساط قرب المدفأة. وكان في حالة غير مستقرة، تذمر مثل كلب وكرر الكلمة: "علم الفلك". لم يتعافَ حتى الآن من حالة حيرة تسبب بها جهد متابعة سرعة السيد فلاديمير وكلامه الحاد. قهرت قدرته على الإستيعاب وجعلته غاضباً. هذا الغضب تعقّد بسبب الشك. وفجأة اتضح له أن كل هذا كان مزحة مدروسة. أظهر السيد فلاديمير أسنانه البيضاء بابتسامة، وظهرت غمّازتين على وجهه المستدير الممتلئ، مع انحناءة رضى فوق عقدة ربطة عنقه. المفضل لدى نساء المجتمع الذكي تصّنع سلوكه لحفلات الاستقبال الرسمية مع إلقاء نكات مهذّبة. جلس باستقامة ويده البيضاء مرفوعة، كان يبدو كما لو أنه قد أمسك اقتراحه بين الإبهام والسبابة بدقة متناهية. "لا يمكن أن يكون هناك شيء أفضل. مثل هذا الاعتداء يجمع أعظم اعتبار ممكن بالنسبة للبشرية مع عرض مرعب جداً بسبب حماقة مؤذية. أرفض براعة الصحفيين في إقناع جمهورهم بأن أي عضو مقرب للبروليتاريا يمكن أن يكون لديه شكوى شخصية ضد علم الفلك. الجوع بحد ذاته لا يمكن احتماله هناك ــ أيه؟ وهناك مزايا أخرى. كل العالم المتحضر سمع عن غرينتش. ماسح الأحذية في الطابق السفلي لمحطة تشارنغ كروس يعرف شيئاً عنها. هل ترى؟". مميزات السيد فلاديمير، معروفة جيداً في المجتمع الراقي من خلال دماثته وفكاهته، مبتسماً بثقة وسخرية، خفة دمه المسلية الجذابة تُدهش النساء الذكيات خفة دمه المسلية. "نعم" واصل مع ابتسامة هازئة، "تفجير خط غرينتش* لا بد أن يثير هذا نباح من اللعنات". "عمل صعب" تذمر السيد فيرلوك، مع شعور أن هذا هو الشيء الوحيد الآمن لقوله. "ما الأمر؟ هل الجماعة كلها تحت يدك؟ أفضل ما في السلة؟ الإرهابي القديم يونت هنا. أراه يمشي على مقربة من بيكاديلي بمعطفه الأخضر كل يوم تقريباً. وميخائيل، المبشر والسجين السابق المفرج عنه لحسن سلوكه ــ لا تقصد أن تقول لي بأنك لا تعرف مكانه؟ لأنك إذا لم تعرف، يمكنني أن أقول لك" استمر السيد فلاديمير مهدداً. "لو تخيّلت أنك الوحيد على قائمة المنظمة السرية، فأنت مخطئ". هذا الاقتراح المثالي غير المبرر دفع السيد فيرلوك الى تعديل قدميه بهدوء. "ومجموعة لوزان* بأكملها ــ ها؟ ألم يتدفقوا الى هنا مع أول إشارة لمؤتمر ميلان؟ هذا بلد سخيف". "سوف يكلف هذا بعض المال" قال السيد فيرلوك بطريقة غريزية. "لا فائدة من ذلك" رد السيد فلاديمير بحسم، بلهجة إنگليزية حقيقية بشكل مدهش. "سوف تحصل على راتبك كل شهر ولا أكثر حتى يحدث شيء آخر. وإذا لم يحدث أي شيء قريباً جداً لن تحصل حتى على هذا. ما هي مهنتك المزعومة؟ كيف من المفترض أن تعيش؟". "لدي دكان" أجاب السيد فيرلوك. "دكان! أي نوع من الدكاكين؟" "أبيع القرطاسية، الصحف، زوجتي ــــ" "من؟" قاطعه السيد فلاديمير بلهجته، لهجة آسيا الوسطى المبحوحة. "زوجتي" رفع السيد فيرلوك صوته الأجش قليلاً. "أنا متزوج". "هذا سينهي المحادثة" صرخ الآخر بذهول حقيقي. "متزوج! وأنت فوضوي مزعوم، أيضاً! ما هذا الهراء الغريب؟ لكني أفترض إنها مجرد طريقة في الكلام. الفوضويون لا يتزوجون. هذا معروف. لا يمكنهم ذلك. ستكون هذه رِدة". "زوجتي ليست أي أحد" تذمر السيد فيرلوك بصوت مبحوح. "علاوة على ذلك، هذا ليس من شأنك". "آه، نعم، صحيح" سخر السيد فلاديمير. "بدأت أقتنع بأنك لست الرجل المناسب للعمل الذي تمتهنه على الإطلاق. لماذا يجب أن تدمر نفسك تماماً في عالمك الخاص بالزواج. لم يكن بإمكانك العيش بدونه؟ هذه هي علاقتك الفاضلة ــ أيه؟ أي مع نوع واحد من الارتباط والآخر تفعله بعيداً ضد مصلحتك". نفخ السيد فيرلوك وجنتيه، سمح للهواء أن ينفذ بعدوانية، وهذا كل شيء. سلّح نفسه بالصبر. لم يُحاكم منذ فترة طويلة. السكرتير الأول أصبح فجأة فظاً، مُتجرداً، وحاسماً. "يمكنك الانصراف الآن" قال. "الاعتداء بالديناميت يجب أن يكون مؤثراً. سأمنحك شهراً. جلسات المؤتمر معلقة، وقبل أن تُستأنف مرة أخرى يجب أن يحدث شيئاً هنا، أو تنقطع علاقتك معنا". غيّر نبرته مرة أخرى ببراعة مجردة. "فكّر بفلسفتي سيد ــ سيد ــ فيرلوك" قال بنوع من الممازحة المتعالية، يلوّح بيده نحو الباب. "أذهب الى خط غرينتش أنت لا تعرف الطبقات الوسطى كما أعرفها أنا. وعيهم ضعيف. لا شيء أفضل، ولا شيء أسهل، كما أظن". نهض، وشفتيه الرفيعتان الرقيقتان ترتعش بسخرية، راقب السيد فيرلوك في المرآة فوق رف الموقد وهو يخرج من الغرفة بتثاقل، قبعة وعصى في يده. أُغلق الباب. ظهر الخادم فجأة في الممر، أخرجه من طريق آخر وعبر باب صغير في زاوية الفناء. الحارس الذي يقف عند البوابة تجاهل خروجه تماماً، تتبع طريق رحلته الصباحية عائداً كما لو أنه كان في حلم ــ حلم غاضب. هذا الانفصال عن العالم المادي كان تاماً بحيث، رغم الظرف المميت للسيد فيرلوك لم يسرع أكثر من ما ينبغي في الشوارع، ذلك الجزء منه الذي سيكون وقحاً بشكل لا يُحتمل لرفض الحياة الأبدية، وجد نفسه عند باب الدكان فجأة، كما لو أنه حُمل من الغرب الى الشرق على أجنحة ريح عاتية. سار مباشرة الى خلف المنضدة، وجلس على كرسي خشبي قابع هناك. لم يظهر أحد لإزعاج عزلته. ستيفي، دُسَّ في مئزر أخضر من قماش البيز، كان وقتها يكنس وينفض الأتربة في الطابق العلوي، بعزم وضمير، كأنما كان يلعب، والسيدة فيرلوك، نبهت على وجودها في المطبخ بجلجلة الجرس المتصدع، بمجرد أنها أتت الى الباب المزجج لغرفة الاستقبال، أمعنت النظر في الدكان المظلم، رأت زوجها يجلس هناك مظلل وضخم، وقبعته على رأسه تميل الى الخلف، ثم عادت فوراً الى موقدها. بعد ساعة أو أكثر خلعت مئزر أخيها ستيفي الأخضر، وأمرته بغسل يديه ووجهه بنبرة حاسمة استخدمتها لهذا الغرض لخمسة عشر عاماً تقريباً ــ في الحقيقة، منذ أن توقفت في وقت ما عن الاهتمام بيدي الصبي وواجهت نفسها. ادخرت الآن نظرة جانبية من متابعتها لتفتيش هذا الوجه وهاتين اليدين حيث ستيفي يقترب من طاولة المطبخ، قدم لها الموافقة مع ملامح تدل على ثقة بالنفس تُخفي رواسب ثابتة من القلق. سابقاً، كان خوف الأب هو العقوبة الفعّالة جداً لهذه العادات، لكن هدوء السيد فيرلوك في الحياة العائلية جعل كل إشارة على الغضب لا تُصدق ــ حتى بالنسبة لتوتر ستيفي المسكين. الفكرة كانت أن السيد فيرلوك سوف يتألم ويُصدم بشكل لا يوصف بأي خلل في النظافة في أوقات الطعام. وجدت ويني بعد موت والدها عزاءً كبيراً في الشعور بأنها لم تعد بحاجة لترتجف من أجل المسكين ستيفي. لا تتحمل أن ترى الصبي يتألم. هذا يُغضبها. مثل طفلة صغيرة غالباً ما تواجه بعينين متوقدتين بائع متجول غضوب في الدفاع عن أخيها. لا شيء في مظهر السيدة فيرلوك الآن يجعل المرء يفترض أنها كانت قادرة على عرض عاطفي. أنهت متابعتها. الطاولة كانت في غرفة الاستقبال. ذهبت الى أسفل السلم وصرخت "أمي!" عندها فُتح الباب المزجج الذي يؤدي الى الدكان، قالت بهدوء، "أدولف!" السيد فيرلوك لم يغيّر مكانه، لم يحرك كما يبدو أطرافه لساعة ونصف، نهض بتثاقل، وجاء الى عشاءه وهو لا زال يرتدي معطفه وقبعته، ولم ينطق كلمة. صمته بحد ذاته لم يكن شيئاً مذهلاً في هذا المنزل، المخبوء في ظلال شارع بائس نادراً ما لامسته أشعة الشمس، خلف دكان مظلم مع سلعه الرديئة سيئة السمعة. فقط في ذلك اليوم كان صمت السيد فيرلوك عميق وواضح الى درجة أثارت استغراب السيدتين. جلسوا صامتين، يراقبون ستيفي المسكين، خشية أن يندفع في نوبات من الثرثرة. كان يجلس مواجهاً للسيد فيرلوك الى الطاولة، وظل طيباً، هادئاً، ويُحدق ببلاهة. السعي لمنعه من أن يجعل نفسه بغيضاً بأي طريقة لسيد المنزل لم يُخفي أي قلق ولو بسيط في حياة هاتين السيدتين. "ذلك الصبي" إذا لمحوا بالكلام عنه بهدوء فيما بينهم، كان مصدر لهذا النوع من القلق منذ الأيام الأولى لولادته تقريباً. عار صاحب الفندق السابق في وجود مثل هذا الصبي الغريب عوضاً عن أبن يُظهر نفسه بميل الى معاملة وحشية، لأنه كان شخصاً ذا

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم