بعد مجموعتين قصصيتين، (الديوانية – 2012) و(السور – 2013)، لم يلقيا حضورا لافتا، أصدر الكاتب الكويتي الشاب عبدالله البصيّص روايته الأولى (ذكريات ضالة) في العام 2014 فكان لها وقعا مميزا. وحتى لا يذهب الظن إلى أنها كانت ضربة طائشة أو (بيضة ديك) أصدر روايته الثانية (طعم الذئب) في العام 2016، فوقر في ذهن القارئ أنه أمام كاتب يمتلك رؤية يعالجها بخبرات فكرية وفنية تنم عن اطلاع ومراس ليسا بهينين. ولرصد تجربة الكاتب الروائية سنحاول التعرف على طبيعة الخيوط المستعملة في النول الذي حاك به هاتين الروايتين، وآلية عمله.

الغوص في قيعان النفس البشرية، ورصد لظى الاصطراع الداخلي بين مكنوناتها المتنوعة، والمتناقضة في عدد لا يستهان به منها، يبرز كملمح رئيس في رؤية فكرية يعزف الكاتب على أوتارها في كلتا الروايتين. وينطلق في ذلك من الخاص إلى العام، ومن الفردي إلى المجتمعي، فيميط اللثام عن وجه مجتمعي طالما تواطأنا على التغاضي عنه، ونكرانه في بعض الأحيان، على الرغم من إدراكنا لوجوده الراسخ، والنازع نحو الاستفحال بخطى متسارعة. إنه الرثاء المر لمجتمعات صار الشاذ فيها القاعدة التي غفلنا عن مساءلتها لفرط اعتيادنا لها.

الإنسانية والبهيمية

الصراع النفسي بين القيم الاجتماعية المتناقضة، التي تشرّبها (سلمان) بطل رواية (ذكريات ضالة) منذ سنوات تكوينه الأولى، قاد في النهاية إلى انفجار مدمر، كان بمثابة النهاية التي رأى فيها البطل البداية الجديدة لحياته. فقد عاش سلمان طفولة بائسة عززتها بيئة أسرية مشوهة شهدت انفصال الأبوين مدة خمس سنوات، ناهيك عن الشجارات الدائمة بينهما، وجفاف مشاعر الأب، وإجبار الطفل سلمان على ملازمة البيت الفارغ من الأخوة والأخوات. طاقة طفلية مكبوتة لا تجد لها متنفسا في اللعب ولا الحنان ولا معاشرة الأقران. إنه أشبه بطفل سجين ينبهر، حين يطلق سراحه بعد سنوات، بحياة عامرة بالملذات والمباهج والدينامية، لكنه يعجز عن التعاطي معها لافتقاره إلى الكيفية التي تمكّنه من ذلك. هكذا، رأيناه حين كان يزور بيت جده، برفقة أمه في نهاية الأسبوع، يلاعب أبناء أخواله وخالاته بعدائية وعنف. وحين أتيح له بعد ذلك الخروج من البيت، والتعرف على الطفلين (ناصر) و(إبراهيم) اللذين كانا يتسليان بمطاردة الكلاب الضالة في الحي، رأيناه يتمادى في عدوانه إلى حد التلذذ بقتل الكلاب (... وجدت استمتاعا كبيرا في سماع قرع جمجمته) ص73، ما أثار استهجان زميليه نفسيهما. وهو التلذذ ذاته الذي كان يستشعره بعد تعذيبه الشديد للمتهمين في المخفر بعد ذلك ( .. ولذة التعذيب تحلق بطعمها السكري في حلقي) ص50.

في قتامة هذا الفضاء الملبد بالكبت والعدوانية تشرق شمس الطفل (حميد)، الذي سكنت أسرته بجانب بيت أسرة سلمان. طفل مشبع بالحنان والرعاية والدفء الأسري، ومتشرب لمبادئ التربية القويمة. إنه الصديق الجديد الذي سيكتشف فيه سلمان الوجه الآخر للحياة. المرآة التي تعرّيه أمام نفسه، والميزان الذي يؤكد رجحان كفة الخير على الكفة الأخرى، فيقلع عن قتل الكلاب والعدوانية، ويجنح نحو التمثّل بـ (حميد): الخلوق، المتفوق دراسيا، المسالم، الأنيق، القوي وقت الحاجة، الوفي الذي أنقذه من شر وعدوانية (مرزوق العبد)، كما أنقذه من الموت حين حوصرا بين رصاص المقاومين وقصف الدبابة العراقية.

كان حميد الصورة المثالية التي انجذب إليها، لكنه كان في الوقت عينه المرآة التي تعرّيه. أشعل هذا التناقض الصراع في نفس سلمان، فانجذب إلى حميد وأحبه وتعلق به، لكنه كرهه في الآن ذاته لأنه المرآة التي تعكس صورته المشوهة. حاول الابتعاد عنه لكنه فشل. ظل منجذبا إليه بقوة، محاولا بكل السبل عدم خسارة صداقته. وقد بدا حميد بمثابة الميزان الذي يغيب العدل بغيابه، وتتقزم التشوهات وتختفي بحضوره.

بيد أن هذه الحال لم تدم طويلا، إذ وقعت كارثة الاحتلال العراقي للكويت، فانتقل سلمان مع أسرته إلى السعودية، في حين غادر حميد مع أمه وأخته إلى بيت خاله، ثم إلى مكان مجهول. وتواصل هذا الفراق بعد تحرير الكويت، إذ عاد سلمان لكن حميد لم يعد، ولم يستدل له ولأسرته على مكان. غابت المرآة والميزان، وتوالت الأيام والسنون، فعاد سلمان إلى سيرته الأولى، تدفعه إلى ذلك السلوكيات السيئة التي كان يعايشها أينما اتجه.

واستفحل الأمر أكثر بعد تخرجه في كلية الشرطة، وتوليه مهمة ضابط تحقيق في أحد المخافر حيث: رجال أمن فاسدون، تعذيب وحشي للمتهمين يفضي إلى الاعتراف بما لم يقترفوه، رجال دين مشعوذون، ربات بيوت خائنات، فتيات جميلات غارقات في وحل الدعارة .. الخ. لا يفتأ يعايش التشوهات في المجتمع أمامه أينما حل، فغدا التشوه مسار حياة وروتين يومي غاب كل ما يمكن أن يعترضه، ويهزّه، ويجعل صاحبه يتبصر فيه. سنوات تراكمت على هذه الحال حتى كانت الصدمة التي زعزعت كل هذه السيرورة. مثلما غاب حميد فجأة، ظهر فجأة، لكن بعد سنوات طوال وبوجه مختلف تماما عما كان عليه. إنه حميد الذي تمكنت الظروف من كسره (لكونه من فئة "البدون" المحرومة من الحقوق المدنية والعسكرية)، وجرفه إلى الطرف النقيض، وجعلت منه لصا دوّخ وزارة الداخلية بسرقاته النوعية والمتقنة، وأعجز رجال الأمن عن اعتقاله، إلى حد أنه صار في نظرهم شبحا أطلقوا عليه لقب (المنشار). ها هو (حميد)، (المنشار)، الميزان، المرآة، الصدمة، يجلس في غرفة التحقيق وجها لوجه أمام صديقه سلمان، الذي لم يعرفه إلا بعد أن ذكّره حميد، فعصفت الصدمة بكيان سلمان، وعادت به الذاكرة إلى حميد الطفل المثالي، حميد الميزان، حميد المرآة. وضعته الصدمة في مواجهة عنيفة مع الذات، فصحا على واقعه النتن:

(شممت رائحة آهات المعذبين تنبعث من الزوايا، رائحة كريهة ومؤلمة وكثيفة مثل الدخان، هل هذا هو المكان الذي قضيت فيه آخر خمس سنوات من عمري؟ كيف احتملت بشاعته طيلة هذه المدة) ص203، (تملكتني المشاعر ذاتها التي تملكتني عندما أمسكني مرزوق في دورة مياه المدرسة، الخوف، اليأس، الحزن. حينها أنقذني حميد منه، أما الآن فمن ينقذني من نفسي، من ينتشلني من مصيري الذي أخذني إلى الأسفل حتى أصبحت خائفا ويائسا وآسفا على حالي كحثالة الخلق، حتى أصبحت مخلوقا يستحق الدهس في الأحذية) ص205، ( كرهت نفسي كما لم أكره شيئا من قبل، ولاحت في رأسي صنائعي هنا) ص205، (كنت أريد أن أنفجر غضبا بشكل لا يترك أحدا ممن كانوا يعينونني على الفساد بغير أذى، فاض بي الحقد على نحو لا يطاق، وتجهم كل شيء أمامي .. لم يكن في بالي أي شيء غير إتلاف هذا المكان الآثم بمن فيه) ص 206.

وضعته الصدمة في مواجهة مباشرة مع الذات، ففوجئ ببشاعة الحال التي يحياها، والتي لم يكن يدركها بفعل اعتياديتها، وأراد وضع حد لهذه السيرورة البهيمية النتنة. كما أراد في الوقت عينه رد الجميل لصديقه الوفي حميد، الذي أنقذه قبل ذلك مرتين، ما يحيلنا إلى العبارة التي استعارها البصيّص من الشاعر (عبدالله الفلاح) ووضعها كعتبة للرواية (الوفاء: كلب الروح). بفعل تلك الصدمة، وتحت تأثير الخمر الذي كان قد تعاطاه في تلك الليلة، وتضامنا مع صديقه الأثير تمادت ردة فعله للتخلص من تلك البشاعة إلى درجة القضاء على كل عنصر ارتبط بها ونمّاها، فقتل العسكريين (نصار) و(الصهيوني)، و(العقيد إبراهيم)، وأزمع التخلص من حياته ذاتها بالانتحار (فكرت أن أقتل الجميع وأترك آخر رصاصة لرأسي) ص 207.

وبغض النظر عن المبالغة في ردة الفعل، وعن اللبس الذي أحدثه تذكّر سلمان، وهو تحت وقع غيبوبة حادث انقلاب المركبة به في نهاية الرواية، بأن حميد كان قد مات في ليلة المواجهة بين الدبابة العراقية وعناصر المقاومة، ما يشكك في أن يكون هو ذاته المنشار، إلا أن تأكد سلمان من أنه حميد حين فوجئ به على كرسي التحقيق، وتأكيد المنشار نفسه تلك الحقيقة آنذاك، هو ما خلق الصدمة التي أججت الصراع النفسي وقادت إلى مواجهة الذات والثورة عليها، وهو ما يهمنا.

السلمية والعدائية

في فلك الصراع النفسي ذاته تدور الرواية الثانية "طعم الذئب"، لكن بشكل مغاير بعض الشيء، إذ تركز على معضلة إكبار المجتمع للقوي العدائي مرهوب الجانب، وحطه من قيمة المسالم الناشد للطمأنينة والتسامح والهدوء. هذا ما يكابده "ذيبان" من مفتتح الرواية حتى آخر حرف فيها. ضغط مجتمعي مكثف ومتواصل لحرفه عن ضفة الوداعة والطمأنينة إلى ضفة البطش والعدائية.

"إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، مقولة موجعة لعالم موحش، اتخذها كدعوة صريحة لمغادرة الرحمة والمسالمة والتسامح إلى فلك القسوة والنهش والدم. مقولة نبذها "ذيبان"، وآثر الإبقاء على إنسانيته بالرغم من كل الضغوط المجتمعية ( لم يؤذ أحدا، ولم يتسبب في أية مشكلة، طيلة حياته كان مسالما لا يخشى أحد جانبه، يحب الحياة، هل في حب الحياة ضرر على أحد؟ ويساعد ...) 26. وقد أصر على ذلك منذ البداية ( أنا لا أريد إلا السلامة) 30، إلى ما قبيل انتهاء الرواية (أنا ذيبان، لن أكون الذئب) 214.

لكن، كيف لمجتمع قبلي أن يقبل بهذه السلامة التي يعتبرها جبنا وشذوذا؟ حتى أقرب المقربين إليه (أمه) ترفض حاله تلك، وتحثه على نبذ الهدوء والطمأنينة ( أريدك ذئبا تملأ العين مثل أبيك) 28. وحين يصرّ على أنه رجل، لكنه لا يحب العنف وينشد السلامة، تنعته أمه بالجبن وعدم الرجولة ( .. لست رجلا، أنت جبان، خاسئ، نارك لا تشتعل، ودلتك لا تفور، حتى أنك لا ترد الإهانة عن نفسك ... أنت كوبان، ذيبان اسم رجال، اسمك كوبان كوبااان) 28-29. ولا يشفع له القول: (لكنني لست جبانا، أنا لا أريد المشكلات، أريد السلامة فقط) 34.

بين ما يراه سلامة، ويراه المجتمع جبنا، يتصاعد الصراع في دخيلة ذيبان بعدما يجد نفسه منبوذا ومعزولا. ويتفاقم الأمر إلى حد طرده من القبيلة على خلفية قتله عن غير قصد زميله "متعب الغصاب"، فيجد نفسه في مواجهة الصحراء، أعزلا إلا من مقلاع وزوادة ليس فيها غير قربة ماء وتمر وبعض اللبن المجمد. ارتحال صحراوي على قدمين، مسربل بالثأر والدم والخوف، يخوضه "ذيبان" مجبرا في الفيافي السعودية على مدى ثلاثة أيام ناشدا الوصول إلى (الكويت).

يتواصل الصراع النفسي خلال رحلة ذيبان الصحراوية بدفع من عاملين أولهما ذكريات حياته التي عاشها في القبيلة، والتي أتخمت بحضّه على التحول إلى الذئبية، وثانيهما الواقع الحالي الذي يفرض عليه القسوة، والإقلاع عن الطمأنينة لمواجهة أهوال الصحراء. فقبل انقضاء يومه الأول في الصحراء يبرز له الذئب! وفي حمى خوفه وفشل مقلاعه في قتله أو إبعاده يصادف جحرا لثعلب أو ابن آوى. وبلمحة عين يحشر جسمه فيه، بينما يتواصل رعبه من الذئب الذي واصل ترقبه عند مدخل الجحر حتى انبلاج الشمس. بين التعب والألم والخدر والخوف رأينا ذيبان يحلم /يتوهم/ في جحره بأنه يرى ذئبا جالسا كما يجلس الرجل، وبيده ربابة حمراء بلون الدم يعزف عليها بضعة أبيات منها: "الذيب يا ذيبان لا جاك جوعان عشه ترى ابن آدم لزوم يعشيه". الحلم ذاته يتمادى في الفصل الثالث والأخير، فتتوه الحواجز بين الوهم والحقيقة بحيث يصحو ذيبان فوق الشجرة على ذئب قد أشعل النار إلى جانب الشجرة، وراح يعزف ويغني المقطع الشعري السابق، بل ويدعوه باسمه للنزول وقضاء الليل معه، قاطعا وعدا له بأنه سيؤاخيه ولن يؤذيه حتى طلوع الصباح وذهاب كل منهما في طريقه. وفعلا ينتهي الأمر بينهما بسهرة عرمرمية تخللها الشعر والرقص، وتقليب سيرتي حياتهما في حوار عاصف مثّل قطبي دخيلة ذيبان في اصطراع يخلص إلى إقراره مزهوا بأنه أصبح ذئبا. والأكثر أنه راح يقلد صوت الذئب منتشيا: أوووووو. هذا التحول الجديد هو ما مكّن ذيبان بعد ذلك من قتل الذئب حين هجم عليه، بينما كان يستريح في ظل صخرة عملاقة، حيث عاجله بضربة خنجر في رقبته، ثم ارتمى عليه وغرس الخنجر في نحره. ولم يكتف بذلك بل سلخه وأخذ فروته، ثم أكل شريحة من لحمه. وفي حمى فخره بنفسه وشعوره بأن الذئب تلبّسه، يتواصل الصراع في دخيلته، لكنه يصمد ويؤكد: (أنا ذيبان، لن أكون الذئب، لا أريد، أنا ذيبان) ص 214.

لكن ما إن يصل إلى القرية، التي ستفضي به إلى الكويت، ويخبر أحد الرعيان بحكايته مع الذئب حتى تبرز مفاجأة لم تكن بالحسبان، إذ يتبين أن صاحب الجثة التي صادفته في طريقه الصحراوي هو شخص من هذه القرية اسمه (ذئب). حقيقة لم يصارح الراعي ذيبان بها، بل تركه لينام في بيته، بينما سارع لإخبار أهل القتيل، الذين سارعوا بدورهم للقصاص من ذيبان. قبيل وصولهم تناهى إليه حديثهم الكاشف لنيتهم، فأخرج خنجره وأحس "بمخالب ذئب تنمو بأظفاره ... يشعر بالزمن يتوقف، وبالعالم يستحيل إلى جحر، جحر كبير ظلامه يحيل الأشياء التي يستولي عليها إلى لا شيء، وحان وقت الخروج منه، يصرخ: أوووووو " 220- 221.

هل انتصر منطق القبيلة إذن، وتحول ذيبان إلى ذئب. لم يشفع له جنوحه إلى الوداعة والسلامة والطيبة عند القبيلة، فوصمته بالجبان، وبدلت اسمه من ذيبان إلى "كوبان"، ثم لفظته. ومثّلت الرحلة الصحراوية في ظاهرها هجرة عن القبيلة، أما في أعماقها فمثلت النقيض تماما. لقد كانت مراجعة فكرية شاملة أنجزها ذيبان وسط شدائد الصحراء، أفضت به بعد صراع داخلي عاصف إلى أن يترك بساطته وطيبته وإنسانيته ويتحول إلى ذئب. ما يعني عودته إلى مواضعات القبيلة التي غادرها، ونزوله عند عقائدها المزدرية للتسامح والسلام، والرافعة لشأن الخشونة ومقولات السيف. بمواضعاتنا الحالية هو تحول خارج عن المنطق، لكنه في فلك الرواية الصحراوي عودة طبيعية إلى المنطق، منطق الصحراء.

العناوين .. والبدايات

أتقن البصيص استثمار العنوان كنظام سيميائي مشع بالدلالات، ومكتنز بالتشويق والجذب والإغراء. وقد اعتمد في عنونة كلتا الروايتين الانفتاح على عالم الشعر عن طريق الانحراف الأسلوبي والانزياح باللغة عن صفتها المعيارية النفعية. ففي (ذكريات ضالة) وجدناه يخرق السياق التواصلي للغة فيجعل من (الذكريات) فاعل قد يهتدي وقد يضل. وهذا ما لم تألفه اللغة في بعدها المعياري، إذ لم تعتد في سياقها التواصلي على تعريف أو وصف الذكريات بنعت (ضالة). والمتعارف عليه أن تكون الذكريات مبهجة أو محزنة، لكنها لم تكن أبدا ضالة، فالضال فاعل اختار درب الضلال، كأن يضل المرء أو الحيوان لأنهما في حال حركة وقدرة تمكناهما من الاختيار، أما أن تضل الذكريات وهي لا تملك من أمرها فعلا فهذا يعني الدخول في فلك الشعر. ومعاملة الذكريات كفاعل قد يضل وقد يهتدي يعني أن تحيل هذه الذكريات مباشرة إلى فاعل خلفها هو المقصود بها، لا هي بذاتها. وفي المحصلة وقعنا في الخلخلة، وهذا بالضبط ما أراده العنوان، فالخلخلة أنبتت الأسئلة، والأسئلة هيّجت الفضول للوقوف على ما وراء العنوان.

وكذا الحال في (طعم الذئب)، فعلى الغلاف الرئيس للرواية برزت صورة الذئب وإلى جانبها العنوان "طعم الذئب". لكن، هل يؤكل الذئب؟ ومن ذاك الذي أكل لحم الذئب وتحسس طعمه؟ وهل قصد الكاتب أن يضاعف فينا النفور بذكره للذئب، الذي يختزن لاوعينا صورة مخيفة عنه، وبذكره "لطعمه" فيثير تقززنا؟ أم تراه عمد إلى المجاز فأشار إلى الطعم الذي خلفه فعل أنجزه الذئب؟ أسئلة عديدة جعلت من العنوان عتبة مشوقة لاقتناص اهتمام القارئ.

ومثلما استثمر الكاتب وظائف العنوان، رأيناه يستثمر البداية كمصيدة إضافية لإيقاع القارئ في حبائل الأسرار، وإثارة فضوله للسعي نحو فك مغاليقها. ففي (ذكريات ضالة) بدأ الكاتب بمقدمة جاءت منفصلة عن خطاب الرواية، في حين أنها في الواقع الفني جزء أصيل منه. وإمعانا في الجذب جاءت المقدمة على لسان الروائي ذاته في مراوغة مدروسة لإيهام القارئ بحقيقة أحداث الرواية (عمل واقعي صادم) ص7. ولتوسيع أفق توقع القارئ، وتضخيم ما ينتظره من وقائع في الرواية، ذهب الكاتب في هذه المقدمة إلى الزعم بأن من كتب الرواية هو بطلها (سلمان) عن قصة حياته الحقيقية، وبأن لا فضل له (البصيص) إلا في دفعها إلى دار النشر. وأوضح أنه تعرّف على صاحبها عبر (تويتر)، والتقاه بعد إلحاح ليفاجأ بتسليمه المخطوط ورجائه له بدفعه إلى النشر لجهله بمثل هذه الأمور. وأفاد البصيص بأنه اضطر بعد ذلك إلى وضع اسمه على الرواية لإصرار الدار على تنسيبها، ولعجزه عن التواصل مع كاتبها (سلمان) للحصول على بياناته اللازمة.

وغني عن القول أنه لا يمكن فصل هذا المقدمة عن الرواية رغم أنها جاءت كمفتتح سبق أولى فصولها. ومرد ذلك المداميك الحكائية التي تضمنتها هذه المقدمة وكانت الأساسات التي بنيت الرواية عليها بعد ذلك. وأولى هذه الأساسات إقرار الكاتب بوضعه تغريدة من تغريدات (سلمان) كعتبة نص سبقت كل فصل من فصول الرواية. ومنها أن (سلمان) الملقب بـ (المعذّب) في تويتر ظهر خلال التقاء البصيص به معوقا، ومقعدا على كرسي متحرك. وسيتبين لنا في خطاب الرواية بعد ذلك أن حادث انقلاب مركبته هو ما أوصله إلى تلك الحال. كما أن هذا السلمان (كان شابا في نحو الثلاثين من عمره) ص11 كما جاء في المقدمة، وهو ما تؤكده الرواية وتبني عليه بعد ذلك إذ تنشغل بوقائع حياته منذ الطفولة حتى حدود الثلاثين من العمر. أما إصراره في المقدمة على نشر قصته وزعمه بأن (طباعتها ومشاركة الناس بها أمر يخفف عني عذاباتي) ص14، فتفسره الرواية بعد ذلك من خلال الاصطراع النفسي الداخلي الذي رافق مسيرة حياته حتى انتهى به إلى الكرسي المتحرك.

وبشكل مماثل، لكن بتقنية مختلفة يبدأ البصيص روايته الثانية (طعم الذئب) بمفتتح امتد على نحو خمس صفحات سبقت أول فصولها. وقد بدا هذا المفتتح، الذي جاء غفلا من العنوان، منفصلا عن الرواية شكلا لأنه سبق فصلها الأول، في حين شكل في المضمون جزءا لا يتجزأ منها من خلال تدجيجه بالألغاز والأحداث المنقوصة: (أخيرا تظهر القرية، بعد مسير طويل تناوشت روحه فيه ميتات كثيرة) ص5، و(بأصابع مرتعشة يفك الضمادة عن كتفه، فيجد الجروح الأربعة قد خف تورمها) ص5-6، و(تسوءه بقايا الدم على نحره ووجهه وتصير سوادا يتكاثف عند أنفه وصدغيه) ص6، و(أحداث لا تصدق تلك التي جرت له في الأيام الثلاثة الماضية) ص10. والآن، ما قصة الميتات الكثيرة، وكيف لحقت به تلك الجروح، وماذا عن الدماء والثلاثة أيام والقرية ؟ كل ذلك كان بمثابة أسرار تدفع القارئ للخوض في غمار الرواية بغية حل الألغاز ومعرفة خلفيات تلك الإلماحات التي تنشط الرواية في إنارتها، ما يؤكد الصلة الوثقى لهذا المفتتح بخطاب الرواية. الحكاية والخطاب

تعكس طريقة المواءمة بين الحكاية (الأحداث) وبين الخطاب ( كيفية سرد الأحداث) حنكة الكاتب الفنية. ويتضمن ذلك الطريقة التي يعتمدها الكاتب في تعامله مع زمن الحكاية الذي يأتي خطيا متتابعا دائما، طال أم قصر. وهنا يبرز الخطاب بتقنياته المتعددة لاحتواء الحكاية ورسم خط سيرها: وجهة النظر، التقديم والتأخير، الاختصار، المدة، الحذف .. الخ. وسنقصر وقفتنا هنا على كيفية تعاطي خطاب البصيص مع زمن الحكاية.

ما يلمسه المتمعن بعد الفراغ من قراءة الروايتين اعتماد الكاتب التقنية الخطابية ذاتها، إلى حد ما، في التعامل مع زمني الحكايتين، على الرغم من اختلافهما جذريا وانقطاع أية صلات بينهما. ذلك أن الخطاب لم ينصع للتسلسل الخطي لزمن الحكاية، بل بدأ في كلتا الروايتين من الحلقة ما قبل النهائية للحكاية، ثم تقهقر نحو البدايات، وانتهى بانتهاء الحلقة الأخيرة للحكاية.

ففي (ذكريات ضالة) يبدأ الخطاب، بعد المقدمة الإيهامية التي ترفع مسؤولية الكاتب عما سيرد في الرواية، وبعد وصف الحال التي انتهى إليها (سلمان)، بالجزء ما قبل الأخير من الحكاية، وهو ليلة القبض على اللص (المنشار) بما صاحبها من تداعيات ضابط التحقيق (سلمان) التي استحضرت سرقاته وطرائقه، ثم تداعياته الواصفة لطبيعة عمله (اعتدنا على سقوط الأخلاق وانحطاطها بهاوية البهيمية، فبدت لنا أخلاقنا، على ما هي عليه من عفونة، زكية) ص30. وينكشف من خلال تلك التداعيات الفساد المستشري في أوساط رجال الأمن. وينتهي هذا الجزء الذي جاء تحت عنوان (الانهيار) بانهيار سلمان حين تبين له أن المنشار هو صديق طفولته (حميد) ذاته. يجنح الخطاب بعد ذلك في فصل (التكوين) نحو الماضي السحيق ليضيء طفولة سلمان ونشأته المشوهة والعدوانية، وصولا إلى ظهور الطفل (حميد) الذي يمثل الصورة الضدية له من حيث الوفاء والأخلاق والتفوق والبيئة الأسرية الدافئة. ويركز الخطاب هنا على جزئية مهمة في الحكاية وهي تعلق سلمان بحميد كقمة لم يستطع بلوغها، وكقدوة بات يشعر بالنفور منها لعدم تمكنه من تمثلها. ويواصل الخطاب في فصل (الانشطار) التساوق مع زمن الحكاية من خلال الحفر في الماضي، فيقف عند كارثة الاحتلال العراقي للكويت، وافتراق الصديقين بهروب سلمان مع أسرته إلى السعودية، ومغادرة حميد مع والدته وأخته إلى بيت عمه. كما يرصد تواصل هذا الفراق بعد التحرير، إذ عاد سلمان بينما لم يُعثر لحميد وأسرته بعدها على أثر.

في الفصل التالي (العصف) يعود الخطاب بالحكاية إلى المخفر، إلى حيث يتواجه صديقا الماضي البعيد في صدفة صادمة، وفي حال متناقضة تحول فيها حميد (الوفي، الأمين، الصادق، المسالم .. الخ) إلى لص خطير. هذه الصدمة التي خلخلت توازن سلمان وجعلته يصحو على الحال البهيمية التي يحياها (هل هذا هو المكان الذي قضيت فيه آخر خمس سنوات من عمري؟ كيف احتملت بشاعته طيلة هذه المدة؟) ص203. وهو ما جعله يتخلص من كل ما يذكّره بهذه الحياة البهيمية، فيقتل شرطيي المخفر، والعقيد إبراهيم، ويقرر الانتحار، لكنه يتعرض في طريق مغادرته المخفر إلى حادث انقلاب مركبته، ما يفسر وضع الإعاقة الذي ظهر عليه في مقدمة الرواية وفصلها الأول.

إلى حد كبير ينحو الكاتب المنحى ذاته في الرواية الثانية (طعم الذئب)، فيبدأ خطابه بالحلقة ما قبل الأخيرة للحكاية، قبل أن يعود إلى الأخيرة في خاتمة الرواية. ففي مفتتح الراوية الذي يسبق الفصل الأول يبدأ الخطاب بجزء من اليوم الأخير لرحلة ذيبان الصحراوية التي امتدت لثلاثة أيام. يرصده وهو يغتسل ويغسل جراحه وثوبه المدمى استعدادا لدخول القرية. لكن سرعان ما يتقهقر الخطاب بالحكاية في الفصل الأول إلى بداياتها. وباعتماد طريقة التقديم والتأخير، تتناسل خيوط الحكي فيبدو ذيبان يتجهز للرحلة التي أجبر عليها. وعن طريق تداعي الأفكار تتكشف لنا طبيعته المسالمة، والضغط المجتمعي المتواصل ضده لحرفه نحو العدوانية. بعد ذلك يبدأ اليوم الأول من رحلته الصحراوية، الذي يبرز له فيه الذئب.

يتساوق الخطاب مع الزمن التسلسلي للحكاية، فيواصل في الفصل الثاني رصد مسيرة ذيبان وتخلصه من الذئب بحشر نفسه في جحر ثعلب. ثم يخرج ليواصل مسيره فيصادف جثة شاب، فيأخذ فروته وخنجره ويتابع إلى أن يجد منطقة فيها غدير ماء وبعض الأشجار، فيتسلق إحداها وينام بعد أن شعر أنه صار في مأمن. وخلال هذا الفصل تتزاحم التداعيات لتعيدنا إلى حياته في القبيلة وقصته مع حبيبته (غالية)، والشعر، واصطياد الأرانب والضبان، مع توظيف مدروس لكل ذلك في الصراع النفسي الدائم الذي يضطرم في دخيلته.

يتمادى حلم ذيبان بالذئب كرجل يعزف على الربابة ويقول شعرا، فتتوه الحواجز في الفصل الثالث والأخير، بين الوهم والحقيقة، ونرى ذيبان يتآخى مع الذئب، فيسهران معا ويتطارحان الشعر والغناء والرقص، ويقلّبان سيرتي حياتهما في حوار عاصف مثّل قطبي دخيلة ذيبان في اصطراع يخلص، بحفز وتشجيع من الذئب، إلى إقراره مزهوا بأنه أصبح ذئبا. وهو التحول الجديد الذي مكّن ذيبان بعد ذلك من قتل الذئب وسلخ فروته، وأكل شريحة من لحمه.

في الجزء الأخير من هذا الفصل، وهو مختتم الرواية، يعود الخطاب لاستكمال ما بدأه في مفتتحها، فيظهر ذيبان وهو يستوقف راعي أغنام عند مشارف القرية، ويسأله قضاء الليل عنده. وبعد ذلك يتشكل سوء الفهم الذي يقود إلى محاولة أهل (ذئب) الثأر بقتل ذيبان، ما يجعل هذا الأخير يتوسل صرخته الذئبية التي ينهي بها الرواية: أوووووو.

يبقى القول إن ما عنيناه من تشابه خطابيّ الروايتين في تناول الزمن الحكائي ينحصر فقط في تشابه الهيكل العظمي لكليهما، واتكائهما الجلي على تقنية التداعيات، أو الذكريات لكسر الزمن الحاضر والعودة إلى ماضي الحكاية بعيدا عن التسلسل الخطي. أما ما عدا ذلك فلكل خطاب خصوصيته حيث تم نسج خطاب (ذكريات ضالة) بصيغة المتكلم (أنا)، في حين نسج خطاب (طعم الذئب) بصيغة الغائب (هو). وفي حين تم تخصيص فصلي (التكوين) و(الانشطار) في الرواية الأولى للماضي الحكائي بشكل خالص، اعتمد خطاب الثانية على التواشج، فجاء الزمن الماضي للوقائع الحكائية متداخلا مع وقائع الحاضر السردي، ناهيك عن اختلاف اللغة في الخطابين، وهو ما يحتاج دراسة خاصة.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم