كان ثمة جو لا يوصف يخيم على الجميع . جلسوا فرادى كل منهم في صف لوحده يحتضن نافذته عدا خاطر والطاهر اللذين كانا يركزان على الطريق أمامهما. احتلت إسراء الصف الأول متكئة على الشباك بينما جلس الشيخ بالجانب الآخر وخلفهما بصفين فارغين كان بخيت بجهة واسماعيل بجهة أخرى، وبآخر صف جلست هدباء وحدها وقد تغيرت ملامحها بالكامل وهي تفكر بذلك القانون الرهيب الذي أصدر .

ــ لسنا في طريقنا إلى جنازة

قالها الطاهر بصوت عال لعله يخرج ركابه ـ ونفسه ـ من التوجس الذي ينتاب أعماقهم . تعدوا حدود داراندوكا، وبعد مسافة من السير، لا أحد منهم ينكر تلك الرعشة التي سرت بجسده عندما طفقت أول محطة لحرس الحدود تلوح بوضوح . فجأة توقف الطاهر، رجع للوراء ـ حيث يجلس البقية ـ أخذ حقيبة اسراء ووضعها تحت مقعده . سأله خاطر:

ماذا فعلت ؟

ــ دقق النظر جيدا ، ثمة حافلات تقف هناك وأظن أن الحراس يجرون تفتيشا ووجود معدات طبية بحوزتنا سيصرف الكثير من اللغة ناهيك عن أخذها منا

وحينما بلغوا اكتشفوا أن ذلك لم يكن تفتيشاً أبداً بل كان أمراً لم يدر بحسبانهم على الإطلاق. فالشيء الذي جعل الحافلات تقف برهة لتستردّ أنفاسها قبل أن تتحرّك ثانية وجعل أصحاب العربات الصغيرة يعيدون حسابات أموالهم ليقرروا إن كان من الأفضل لهم المواصلة أم العودة، هو أن ثمة ارتفاعاً حل بسعر المبلغ الواجب نهبه .

ًتجمد الطاهر بن جفون في مقعده الحديدي وهو يرى أحد الحراس يفرقع إبهامه ووسطاه بنافذته قائلا :

عشرون جنيها

تجمد خاطر بدوره ، تمتم مذهولا :

عشـ .... عشرون

قال الطاهر بتحد :

خمسة عشر

صاح الحارس وهو ينزع عنه سلاحه :

عشرون

توترت أعصاب الجميع مع ذلك الصياح. أخرج الطاهر النقود بهدوء ومدها له. تيقن الكل أن ما يملكه خاطر بالإضافة للستمائة ألف جنيه الفائضة قد تكفي للذهاب دون الإياب فالخمسة آلاف التي زيدت للمبلغ القديم ـ اليوم فقط ـ غيرت كل شيء . كان صوت العقل ينادي بالرجوع مع العربات العائدة إلى دارأندوكا لأخذ كفايتها من المال أما عقولهم التي كانت تؤمن بأن ذلك الصوت هو الأصح إلا أنهم تجاهلوه بتعمد واضعين في أذهانهم أن إيابهم يمكن تدبيره باستلاف المبلغ من بعض أصدقاء جفون .

تركت هدباء المقعد الأخير وجلست بالأمام. لم يتبادلوا كلمة، كان الجميع متضايقا مما حدث، ولكن لم يبلغ ما هم فيه ذرة من ذلك الضيق الذي اعترى الطاهر. كان غضبه قد تجاوز حده ، كان ليمسك روحه بصعوبة وهو يخرج الخمسة عشر ولكن عشرين ! خمسة كيلومترات فقط ويفقده النهب المسلح أربعين جنيها ! ويؤخرونهم دقيقتين أو ثلاث بكل محطة، إذاً سيصلون القرية بفارق خمس ساعات عن الزمن القياسي. وفجأة أوقف الحافلة عند منتصف المسافة بين المحطة الثانية والثالثة، أخذ اللوحة، نزع اللوحة الأصلية وعلق التي معه، ترجل خاطر ولحق به وقد صار لا يعي ما يحدث حوله بالضبط ، فقد كانت هذه أول مرة يسافر فيها عبر البر

ــ جننت يا طاهر !!

ــ ألم تشاهد أن أحد الحراس تناول هاتفه قبل أن نغادر؟ لقد هاتف أصحاب المحطة التالية ، وهذه هي القواعد المتبعة عندهم ، تؤكد كل محطة للتي تليها بأن هناك سيارة أوصافها كذا وكذا وستصل بعد كذا من الوقت وفي حال لم تظهر في الزمن المحسوب فسيبدأون البحث عنها وإن لم يجدوها بالطريق العام ... فثمة إجراء ضدها سيتخذ ... وأنا له .

نطق قوله الأخير بتحد ، تأمله خاطر مأخوذا ، قال بصوت حازم :

لسنا وحدنا حتى تمارس تهورك كما يحلو لك ، ثمة فتاتان معنا... إن كانت تحنقك رؤية قطاع الطرق لهذا الحد فعد للخلف واغمض عينيك ودع مقعد القيادة لي .

إلى أن تقوم الساعة لن ينسى خاطر تلك النظرة التي رماه بها الطاهر و " هه " التي تفوه بها باستهزاء وهو يعود إلى مقعده . التفت خلفه وكانت هناك أفواه مضمومة وأكسجين أقل وعيون صارمة تحكي الكثير . وبقوة انحرف عن المسار العام . مال الجميع باتجاه واحد وقد أفزعتهم تلك الحركة ، صرخوا بصوت واحد : الطاهر ؟؟!!

نظر إليه خاطر تأكد لديه لحظتها أن آخر قشة منطق بذهن الطاهر قد طارت ! ـــــــــــــــــ

مريم خميس ... كاتبة سودانية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم