بندبة كأنها علامة الحظ بين حاجبيه، وقرطين أبيضين كزرّين مدوّرين، وشعر مضفور على طريقة بوب مارلي، تقدم مارلون جيمس (Marlon James)، في بذلته السوداء وربطة العنق الفراشة، لاستلام جائزة المان بوكر للرواية لهذا العام، كأول جامايكي يفوز بهذه الجائزة العريقة منذ انطلاقها قبل نحو 47 عامًا، عن روايته الثالثة “تاريخ موجز لسبع جرائم قتل A Brief History of Seven Killings”؛ وذلك لأنها -وفقًا لرئيس لجنة التحكيم مايكل وود- “كتاب مدهش في مدى أصواته ودفاتر أحواله، يتدفق من محكيّة الشوارع حتى سفر الرؤيا. إنه تمثيل لثيمات سياسية وأماكن، من تدخل وكالة المخابرات المركزية الأميركية في جامايكا إلى السنوات الأولى لعصابات المخدرات في نيويورك وميامي”. ولم يكن صاحب “شيطان جون كرو” بعيدًا عن صخب التكريم وضجّة الميديا، فقد سبق لروايته الجديدة، هذه، أن فازت بجائزة “بوكاس للأدب الكاريبي” في بداية شهر أبريل من هذا العام وبجائزة “آنيسفيلد- وولف للكتاب” على حدّ سواء؛ كما نالت روايته الثانية “كتاب نساء الليل” (2009)، جائزة “ديتون للسلام” في العام 2010. وسبق للمجمع الجامايكي أن خلع عليه “نوط مسغريف” من الطبقة الفضيّة في العام 2013.

كيف نصف هذه الرواية المهمة؟ بهذا السؤال تفتتح الناقدة البارزة ميشيكو كاكوتاني في مقالتها المنشورة في النيويورك تايمز (21 سبتمبر 2015) بعنوان “جامايكا عبر بحر من الأصوات”، ولكنها لا تترك القارئ في حيرة من أمره، فتجيب مباشرة “إنها كمثل أن يعيد تارانتينو إخراج ‘كلّما أصبحو أكثر ضراوة’ ولكن مع موسيقى تصويرية لبوب مارلي ونص كتبه أوليفر ستون ووليام فوكنر، ربما مع تدخين بعض القنّب الهندي كمحفز إبداعيّ. إنها ملحمية بكل ما في الكلمة من معنى: ساحرة، أسطورية، عالية في القمّة، عظيمة ومعقّدة على نحو مدوّخ. كما أنها أوليّة وطازجة ومكثفة وعنيفة وحرّاقة وهزلية على نحو قاتم، مبهجة ومنهِكة، إنها برهان على الطموح الوثّاب للسيد جيمس وموهبته المذهلة”. ولد مارلون جيمس في جامايكا في العام 1970. ورث عشق الكتب عن والديه اللذين كانا يعملان في سلك الشرطة في كنغيستون. كانت قصص الأميركي أو. هنري أول عمل نثري أهدته أمّه إليه، ولكنه ورث حبّ شكسبير وكوليريدج عن أبيه. درس اللغة والأدب في جامعة الهند الغربية التي تخرّج منها في العام 1991، ثم حصل على درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة ويلكس سنة 2006. وكانت روايته الأولى، شيطان جون كرو، قد رفضت سبعين مرّة قبل أن تتم الموافقة على نشرها في العام 2005، لتترشح بعدها إلى جائزة الكتاب التي تمنحها صحيفة لوس أنجيلس تايمز وجائزة كتاب الكومنويلث على حد سواء. غادر مارلون بلاده، ليعيش في الولايات المتحدة حيث يعمل في تدريس الأدب بجامعة ماكاليستر في مينيسوتا.

الموتى لا يتوقفون عن الكلام

أَنصِت.

لا يتوقف الموتى عن الكلام. ربما لأنّ الموت ليس موتًا البتّة، بل مجرد حبس بعد المدرسة. تعرف من أين أتيت ودائمًا منه تعود. وتعرف إلى أين تمضي على الرغم من أنك لن تصل إلى هناك كما يبدو فما أنت إلّا ميّت. ميّت. يبدو الأمر نهائيًّا ولكنّ الكلمة تفتقر إلى لازمة الكينونة. تصادف رجالًا ماتوا مديدًا قبلك، سائرًا طيلة الوقت على الرغم من أنك في الطريق إلى لا مكان فتنصت إليهم وهم يعوون ويهسّون لأننا جميعًا أرواح أو نعتقد بأننا أرواح ولكننا جميعًا مجرّد موتى. أرواح تنزلق داخل أرواح أخرى. وفي بعض الأحيان تنزلق امرأة داخل رجل وتنوح كذكرى مطارحة الغرام.

إنهما يتأوّهان وينتحبان عاليًا ولكنّه يأتي من النافذة كصفير أو مثل همس تحت السرير، والأطفال الصغار يظنّون بأنْ ثمة وحش. يحب الموتى الاستلقاء تحت الأحياء لثلاثة أسباب. (1) لأننا نستلقي معظم الوقت. (2) تبدو تحت السرير كفوق كفن ما، ولكن (3) ثمّة ثقل، ثقل آدميّ في الفوق فتستطيع أن تنزلق فيه وتجعله أثقل، ثم تنصت إلى خفق القلب وفيما تراه يمتح تسمع المناخر تهسّ حين تضغط رئاتهم الهواء فتحسد حتى النفس الأقصر. لا ذاكرة لديّ عن الأكفان.

مارلون جيمس صاحب كتاب مدهش يتدفق من محكيّة الشوارع حتى سفر الرؤيا ولكنّ الموتى لا يتوقفون عن الكلام البتّة وفي بعض الأحيان يسمع الأحياء. هذا ما أردت قوله. فحين تكون ميّتًا لا شيء يكون الكلام إلّا أن يتماسّ ويستدير فلا تملك إلّا أن تضلّ لحظةً وتهيم على وجهك. حسنًا، هذا على الأقلّ ما يفعله الآخرون. ما أردت قوله هو أنّ المنصرمين يتعلمون من المنصرمين، ولكنّ ذلك صعب ومراوغ. أستطيع الإنصات إلى نفسي، وما زلت أزعم إلى كل من سوف ينصت بأنني لم أسقط، كنت قد دُفعت من على الشرفة في فندق “صنست بيتش” بخليج مونتيغو. ولا أستطيع أن أقول “أغلق فمك، يا آرتي جيننغز″، لأنني أستيقظ في كل صباح وقد توجب عليّ أن ألمّ رأسي المسحوق كيقطينة وأرتديه ثانية. حتى وأنا أتكلم الآن أستطيع سماع كيف بدوت آنئذ، هل تستطيع معرفة ذلك، أيها الهائج الذي يعبّ الحياة عبًّا؟ أقصد بأنّ الحياة الآخرة ليست مجرد مشهد يحدث، ولا مجرد صخب بهيج، أيها البوهيميّ العجوز، أترى تلك القطط الرائعة على الحصيرة؟ هنّ لن يدركن ذلك البتّة، ولا شيء أفعله سوى انتظار الرجل الذي قتلني، ولكنه لا يموت، إنه يتقدم في العمر ويكبر ليس إلّا ويستبدل زوجاته بأخريات أصغر في العمر وأصغر ثم ينجب عائلة كاملة من أولاد بليدين ويأخذ البلد إلى الحضيض.

لا يتوقف الموتى عن الكلام البتّة وفي بعض الأحيان يسمع الأحياء. وأحيانًا يجيب بوقاحة إن كنت قد ضبطته آن ترمش في نومه عيناه، إنه يتحدث إلى أن تصفعه زوجته.

ولكنني أفضّل أن أسمع للموتى الذين طال موتهم أكثر. أرى رجالًا في سراويل مشقوقة ومعاطف طويلة مدمّاة يتحدثون، ولكنّ الدم ينبجس من أفواههم يا الله ثورة العبيد كانت عملًا رهيبًا وتلك الملكة كانت بالطبع ذات منفعة رهيبة مذ أخذت شركة الهند الغربية في انحدارها الخسيس مقارنة بالشرق ولم يؤخذ زنوج كثيرون إلى النوم على نحو خاطئ أنّى يرونه مناسبًا يا للعنة يبدو أنني قد وضعت الشق الأيسر من وجهي في غير موضعه. أن تكون ميّتًا هو أن تدرك بأنّ ذلك الميّت لم يذهب، أنت في رحابة أرض الموتى. الوقت لا يتوقف. تشاهده يتحرك ولكنك ساكن، كرسمة بابتسامة الموناليزا. وفي هذا المكان لا فرق بين رقبة محزوزة منذ ثلاثمئة سنة وموت سريريّ منذ دقيقتين اثنتين.

فإن كنت لا تراقب كيف تنام، فإنك سوف تعثر على نفسك بالشاكلة التي وجدني فيها الأحياء. أنا، مستلقيًا على الأرض، رأسي يقطينة مسحوقة وقدمي اليمنى ملويّة خلف ظهري وذراعاي معقوفتان على نحو ما لا ينبغي للذراعين أن تنثنيا ومن الأعلى، من الشرفة كنت مثل عنكب ميّت. أنا في الأعلى هناك وفي الأسفل هنا ومن الأعلى هناك رأيت نفسي بالطريقة التي رآني فيها قاتلي. يحيا الميّتون حركة ما مرّة أخرى؛ فعلًا، صرخة وإنهم هناك ثانيةً على هذا النحو المفاجئ، القطار الذي لا يتوقف عن المسير البتّة حتى يخرج عن السكّة، الحافة الناتئة من تلك البناية على ارتفاع ستة عشر طابقًا، صندوق السيارة الذي استنفذ الهواء. أجساد أولاد وقحين تنشقّ كبالونات منخوزة، ست وخمسون طلقة.

لا أحد يسقط على تلك الشاكلة دون أن يدفع. أعرف. وأعرف كيف يُحَسّ وكيف يبدو، الجسد الذي يسقط وهو يصارع الهواء طيلة طريقه إلى الأسفل، قابضًا على لا شيء ومتوسّلًا مرّة، مرّة فحسب، مرّة لعينة فحسب، يا يسوع، يا الابن البكّاء لمومس بنت زنا، دعني أقبض على شيء في الهواء ولو لمرّة واحدة. ثم تسقط في خندق بعمق خمسة أقدام أو طابق مرصوف بالمرمر على بعد ستّين قدمًا تحت، ولا تزال تقاوم حين يرتفع الطابق وينحطم عليك لأنه تعب من انتظار الدم. نحن ما زلنا ميّتين ولكننا نستيقظ، أنا عنكب مسحوق، وهو صرصار محترق. لا ذاكرة لديّ عن الأكفان. أنصت.

ينتظر الأحياء ويبصرون لأنهم يخدعون أنفسهم بأنّ ثمة وقتا لديهم. الأموات يبصرون وينتظرون. وذات مرّة سألت معلّمتي في مدرسة الأحد “لو كانت الجنّة مكانًا لحياة أبدية والجحيم نقيض الجنة، فأيّ شيء هو الجحيم؟” مكان للصغار الأخسّاء الوضيعين أمثالك، قالت. إنها لا تزال على قيد الحياة. أراها، في بيت العجزة بإيفنتايد، وقد صارت في أرذل العمر وغبيّة جدًا، لا تعرف اسمها وتحكي بصوت خشن في غاية الخفوت فلا أحد يسمع بأنها خائفة من هبوط الليل لأن الفئران تأتي حينئذ من أجل أصابع قدميها اللذيذة. وأرى أكثر من ذلك. حدّق مليًّا بما يكفي أو ربّما اُنظر ذات الشمال فترى وطنًا كان لا يزال ذاته مثلما تركته.

لم يتغير البتّة، وحين أكون حول الناس فإنهم كما تركتهم تمامًا، لا يحدث الكِبَر فارقًا قطّ. الرجل الذي كان والد أُمّة، والدي الذي كان أكثر من أبي، بكى كأرمل بين عشيّة وضحاها حين سمع بأنني قد متّ. إنك لن تعرف البتّة حين تكون أحلام الناس مرتبطة بك قبل رحيلك ولا شيء حينئذ تفعله سوى أن تشاهدهم يموتون بطريقة مختلفة، بطيئة، جارحة إثر جارحة، ونظامًا إثر نظام. أحوال القلب، السكري، أمراض القتل البطيء بأسمائها ذات الوقع البطيء. هذا هو الجسد ذاهبًا إلى الموت جزعًا، بعضًا في كل حين. سوف يعيش كي يراهم يجعلونه بطلًا قوميًّا وسوف يموت وهو الشخص الوحيد الذي يعتقد بأنه قد أخفق. ذاك ما يحدث حين تجسّد آمالك وأحلامك في شخص واحد. يصبح لا شيء أكثر من وسيلة أدبيّة.

هذه حكاية عدّة جرائم قتل، لأولاد لم يكترث بهم عالم ما زال يدور، بيد أنّ لكل واحد منهم وهم يمرّون بي ذات الرائحة الكريهة الأخّاذة للرجل الذي قتلني.

الأول، صرخ قاذفًا لوزتي حلقه خارجًا ولكن الصرخة توقفت في بوابة أسنانه تمامًا لأنهم كمّموه فكانت بطعم القيء والحجر. كان بعضهم قد أوثق يديه بشدّة خلف ظهره ولكنه يشعر بأنهما مرخيّتان لأنّ جميع الجلد قد جُلط والدم يخضب الحبل. إنه يركل بكلتا قدميه لأنّ اليمنى موثقة باليسرى، يركل الثرى المتطاير على ارتفاع خمسة أقدام، ثم ستّة، ولا يستطيع النهوض لأنها كانت تمطر حمأً ووحلًا وترابًا إلى تراب وأحجارًا. لطم أحد الحجارة أنفه وخردق آخر عينه كرصاصة إنّها تنفجر وإنه يصرخ ولكن الصرخة تهرع إلى طرف لسانه ثم تعود إلى جوفه ثانية كجَزْرٍ والحمأ فيض ينهض ويعلو فلا يستطيع أن يرى أصابع قدميه. ثم سوف يستيقظ وإنه لا يزال ميّتًا ويرفض أن يخبرني باسمه. عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم