لم يكن بمقدور أحد الالتزام بالقوانين العسكرية وشروط المعارك التي من المفروض أن يلتزم بها الجنود النظاميين , في تلك الليلة , تفتت القوانين كما لو أن كلّ ما يتعلمه الجندي في المعسكرات ليس سوى نوع من اللغو, التمرينات على خوض المعارك ذاتها هي لغو يصلح للنسيان, ففي أول مواجهة دخل الفوج الثاني من اللواء في معركة مع فوج المغاوير وبعد ربع ساعة بالضبط من نقطة الصفر, , ثم انقطع الاتصال بالفوج الثالث واختفى آمر اللواء, عندما عبر الجسر إلى الضفة الأخرى من نهر جاسم, لم يكن غائب يفكر بغير البحث عن ممر آمن للهرب من هذا الجحيم الذي وجد نفسه مضطراً للسقوط في عذاباته، لم تكن هذه المرة فقط, كان يفكرّ بالهرب دائماً, دائماً ومنذ دخوله للمعركة الأولى في حياته العسكرية, فعلها وهرب من معركة الفاو قبل ذلك, وعليه أن يفعلها حتى لايموت بشكل بائس ومجانيّ, هذا ماكان يشغله, مرّت ربع ساعة أخرى من التقدم البطيء، قدماه كانتا ثقيلتين, قلبه يدّق بسرعة وصراخ الجرحى جعله يصاب بالرعب, سقطت قذيفة هاون قريبة ثم تطاير الطين على وجهه فأعتقد أنه أصيب, بعد دقيقة واحدة سمع صوت جلال يدعوه أن ينهض، قام بسرعة وركض باتجاه الشبح الذي يتقدمه بأربعة امتار, نظر بشكل خاطف لنخلة كانت تحترق ثم بخطوات واسعة, قطعا معاً مسافة طويلة حتى عثر غائب على ساقية بعمق نصف متر جاهزة لتكون المخبأ المناسب، قفز إلى داخلها ونادى على جلال، تبعه بعض الجنود من أفراد سرّيته لم يكن يعلم بوجودهم خلفه ، كائنات يبدو أنهم جميعاً من المؤمنين بفكرة الهرب وقد وجدوا أنفسهم مؤقتاً في واحدة من تلك السواقي العديدة التي تخترق البساتين في الجهة الشرقية من نهر جاسم، الساقية لم تكن ناشفة تماماً، الطحالب والحشائش نمت على أطرافها وفي القاع رطوبة شديدة، أشعل غائب سيجارة ونفخ الدخان إلى أعلى وبجذبات سريعة ومتواصلة ثم أشعل سيجارة ثانية من جمرة الأولى, الصمت كان يهيمن على الكتل اللحمية المتكومة على بعضها وفي رأس كل منهم مشهد معدّ للتنفيذ يتعلق بالهرب والرجوع إلى الساتر الذي تتجمع خلفه القوات العراقية, ثلاث ساعات مرت قبل أن يرتفع الماء في الساقية بفعل ظاهرة المدّ الطبيعية والتي لم يفكّر بها أحد من الجنود الخمسة, السماء كانت تواصل خلال هذه الفترة نفخ المزيد من القذائف المتوهجة والرصاص الذي كان مثل أسراب حمراء تتقاطع تاركة أزيزاً يظهر أحياناً أو يختفي في ثنايا هدير المدفعية، لم يكن أمراً لطيفاً على الاطلاق، أن يجد المرء نفسه وقد صعد الماء البارد مندفعاً ببطء من أحشاء الساقية إلى مؤخرته, حاول غائب تأمين اتصال ما من خلال جهاز الراكال المعلق على ظهره, أو الحصول على إشارة ما على الأقل بخصوص الانسحاب مثلاً, رغم أنه يعلم منذ ساعات أن الفوضى أفسدت أي محاولة لتأمين اتصال بين الآمرية والسرايا. كسر صوت مهدي سكون الكتل اللحمية المتراصة على بعضها والسابحة في عوالمها الداخلية هرباً من واقع اجتمعت في تفاصيله كلّ الصور المعبّرة عن الخراب. _ يمعود طفي الجهاز, تريد تموتنا.

على بعد مئة متر تقريباً سقطت قذائف متتابعة لراجمة يبدو أنها كانت موجهة لتشتيت القوات العراقية التي مازالت تواصل دعم القوات المبعثرة خلف النهر، القذيفة الأخيرة كانت قريبة جداً , التفّ الجنود الخمسة على بعضهم كحلزونات بائسة تتصارع للحصول قوقعة وحيدة، صعد الماء بسرعة هذه المرة غطى الجزء السفلي حتى منتصف البطن فرفع غائب وجهه ومرر نداءً صامتاً سماه داخل نفسه صوت العدالة، نداء يتضمن سؤالا مرّا مثل _ أيتها السماء هل أنت رحيمة حقاً؟_ حاول ان يعبّر بصدق عن صورته ككائن يتعرض وجوده للتخريب لذا فهو يرفع عريضة إلى قوة ما اعتبرها المسؤولة عن ارتكاب الأخطاء الفظيعة، مدّ يده إلى جيبه الذي كان حريصاً على أن يبقيه جافا، اخرج علبة السجائر ، شعر وهو يجذب الدخان بالاختناق وقد تسللت لأنفه رائحة الأعشاب المحترقة والتربة المشوية، رغم ذلك لم يعبرّ أحد عن تأثره بالدخان, ولم يسعل أحد تعبيرا عن رفض البدن لهذا السم , اكتفى الجميع بلحظات الصمت كما لو أنه التمرين الأكثر قداسة, تمرين حرص الجميع على ممارسته بشكل مركز لأن في رأس كل من اولئك الجنود الخمسة فكرة للخلاص وعليه أن يكون في لحظة استعداد لا يمكن السماح لتشتيتها بكلمات, ارتفع الماء أكثر ولم يجد أحد منهم أهمية لقول شيء ما بهذا الخصوص، أشعل غائب سيجارة عاشرة محاولاً البروك على ركبتيه : الساقية ليست منخفضة كثيرا . وجه خطابه لنفسه ثم أضاف: الشظايا والرصاصات ستخترق هذا الرأس المحشوّ بصور البشر اللذين كانوا شهوداً على سعادتي وحزني, انطفائي واشتعالي, أحلامي واحباطاتي, أنه من المؤكد أنه عندما أنحني هي بمثابة حركة ضرورية تضاهي نعمة الحياة ذاتها, حياتي التي سوف تظهر فيها صورتي وأنا مستقيم الظهر. فجأة صاح جلال _ القوات الايرانية احتلت الجسر. الحركة اللاواعية التي نفذها الجميع بتقنية عالية كانت تشير إلى نسيان كثافة الشظايا التي كانت تتطاير، كانوا يفكرون بنقطة وجدوها تستحق أن تثير الرعب أكثر من الموت نفسه_ القوات الايرانية احتلت الجسر_ هذا يعني أنهم سيأخذون أسرى, غائب نفسه بمخيلته السوداوية العجيبة في رسم المشاهد قد تخيّل معسكرات الأسر معتمداً على الحكايات والأفلام في رسم ملامحها, تخيل معسكراً بعيداً في الجبال وأنه سيكبر عشر سنوات أخرى لأن الحرب مستمرة خاصة وقد مرّ على اندلاعها سبع سنوات ولا أمل في أن تضع أوزارها, إنها حرب اكتسبت خلودها من خلود الموت نفسه واعتياد عزرائيل على التجوال بين الثكنات المنفية على السواتر التي يمتد طولها أكثر من ألف ومئتي كيلو متر، وقف غائب أولاً وبشكل مفاجئ، الآخرون أيضاً فعلوا الشيء نفسه و لم يعد في رأس أي منهم اقتراحاً سوى الانقياد للدعوة التي سوف يعلنها أحدهم والتي تتضمن البدء بممارسة الحق في رفض الموت، هل كانت الدبابات الايرانية متمركزة على جانبي الجسر فعلاً؟ سمع غائب بعض جمل غير مفهومة تواصل تكرارها وانتشارها رغم أن الأصوات لم تكن نقية فقد خالطها هدير وأزيز وصراخ _ القوات الايرانية احتلت الجسر _ هي جملة يدلّ معناها على صورة لرجل حصل على مفتاح ربما سيمنحه فرصة للدخول الى مكان آمن بعيدا عن الموت , في الوقت نفسه هو مفتاح لحياة في سجن كبير مشيّد في الجبال البعيدة, هذه الجملة هي فكرة ينبغي توظيفها كآلة لقياس الخير والشر، لهذا صدّق الجميع أن ما يتردد من أصوات مصدرها كلام باللغة الفارسية رغم أن لا أحد يعرف الفارسية ولا حتى جلال نفسه. صدقوا أخيراً ليس ايماناً بالحقيقة التي قذفها جلال في عقولهم, بل لأنهم كانوا على استعداد لقبول أيّ كذبة لها القابلية على تحفيزهم لاتخاذ قرار سريع بالهرب، شارفت الساقية على الامتلاء وأجسادهم متخشبة من فرط البرودة والتكوم على بعضهم لساعات طويلة، عدّل غائب من ربط خوذته، علّق سلاحه بالصيغة التي تجعل منه مرافقاً أبدياً لجسده ,ربط بسطاله الممتلئ بالماء وكأنه استعد قبل الجميع لفكرة الخلاص قبل أن يلقي نظرة كراهية إلى السماء وفي صدره هاتف داخلي: "حتى السما تمطر موت، موت, موت بكل مكان من هذا البلد موت, شمسوين احنا؟ وليش؟ وشنو علاقتنا بهاي الحرب". ثم غمره احساس بالمظلومية, في نفس الوقت انتبه أن هذا الشعور هو شيء إيجابي لأنه سوف يحفزه على التمسك بالعدالة التي هي حقه بالحياة، العدالة أن لا يكون حطباً كي يتدفأ بإحتراقة القادة الميامين وتجار الأسلحة وكاتبي النصوص الحماسية والمؤرخين, فرك عينيه وكانتا تؤلمانه بشدة، قلبه ورغم استعداده لقبول الأمل كشفيع للوصول إلى الضفة الأخرى لم يزل مخلوعاً من فكرة الأسر، فكّر أنه لم يتزوج بعد ومن المؤكد أن لا تكون له امرأة اصلا وهذا يعني أن حياته نفسها غير حقيقية تماماً، بل أن نقصاً فظيعاً يضاهي ما يحصل للمصاب بالشلل النصفي يمكن التعبير به عن جسده الرملي، فكّر في تلك اللحظة أنه سوف يموت ولم يمارس الجنس قط, ذلك مؤسف حقاً وخسارة تعادل جملة مثل(حياتي تخلو من المنفعة) خاصة وأن صورة الحورية التي تنتظره هناك غير واضحة تماماً لديه, بل أنه غير متأكد أصلاً من حصوله على سرير من تلك التي يجلس عليها الفائزون وهم يتبادلون الأنخاب, حيث يصبّ الغلمان لهم بكؤوس من فضة وتجالسهم حور العين. ثم انحرف إلى عاطفة أكثر تحفيزاً على التمسك بخيط الحياة, شعور بالبهجة كالذي يحدث لمن يحدد موعداً لزواجه، تخيّل تفاصيل ليلة يكون بها في غرفة مع العروس, كوّن بعدها سؤالاً أكثر مرارة قال: لم تجاوزتني تلك الكاميرا العجيبة التي تلتقط صوراً للعالم داخل عدستها؟ ماذا لو كنت خارج هذا البلد الملعون, في اسبانيا, ألمانيا, أو فرنسا, أحبّ برنامج الحدائق جنة الأحلام, أحب البحر, أقصد أني أحب النساء العاريات اللواتي يشبهن ممثلات السينما, أحب صور المثقفين الأوربيين وهم يجلسون في المقاهي, أحب المظلات والثلج والمتاحف ثم صعدت صورة أمه لرأسه بسرعة, رآها تقف في وسط غرفة الضيوف, كانت تبكي وهي تنظر لصورة الأسير الشاحبة الحزينة المثبتة بمسمار على الحائط، سمع بدون حماسة أبيه وهو يوجه خطابه إلى رجل من أقرباءه , رأى اصبعه يشير إلى نفس الصورة وهو يرتجف, اصبعه الطويل الذي أشار يوماً لطائرة غائب الورقية المعلقة على عمود الكهرباء, حينها لم يكن بمقدوره أن يفعل شيئاً سوى أن يقسم له أن يشترى واحدة أحسن وأجمل منها, بحث أيضاً في مخيّلته عن الصور الأكثر إيلاماً لكي تكتمل لديه نسخة كاملة للموت حتى إذا تعرض للمسائلة في حياة أخرى سوف يكشف نسخته ويطالب بالتعويض، ثم سمع أنين خالته بدرية التي تقول عنها النسوة أن موهبتها في النعي يمكنها تفتيت صخرة صلدة، هذا المجاز يمكن أن يجد له تشكلاً واقعياً عنده: "عيوني انطفت لمن طفيتي,عيوني بلا ضوه لمن مشيتي". جسده يرتعش من البرد والرطوبة والتفاعل مع موجات أنين خالته بدرية ثم وجد نفسه يردد أنينها: عيوني انطفت لمن طفيتي..... : شلون نعبر، راح يكتلونا قبل ما نوصل؟ لم يكن هذا سؤالاً بمعنى القصدية في البحث عن إجابة بقدر ما كان تهديداً من ذلك النوع الذي يوجه من أجل التحفيز لضرورة إيجاد حلّ يناسب فكرة الخلاص، حلّ لا يحتمل تأجيلاً أو مفاضلة، بالنسبة لغائب كان يفكّر باحتياجه لجرعة كراهية إضافية لهذه الحرب البائسة تتجاوز ما يحصل لشخص ما عند التفكير بالموت بل ينبغي عليه أن يشير إلى الخلاص باعتباره غاية يجب استنفار كلّ الممكنات لتعزيز تحققها ثم تسارعت دقات قلبه عندما باغتته فكرة الأسر مرة أخرى، أحس بالرعب إلى الحد الذي تضاءلت به فكرة الموت نفسها، تخيّل رأسه وقد ثقبه أحد الجنود الايرانيين ببندقيته مطيعاً لأمر الضابط الذي صرّح بدم بارد أن نقل الأسرى والمعركة محتدمة قضية صعبة لا يمكن تحقيقها، الأفضل قتلهم جميعاً. لم يمنع نفسه باستدعاء الحكايات التي تجسد هذا المشهد, لقد حدث شيئاً من هذا، على كل حال إنها حكايات لا يمكن التحقق من مصداقيتها ولا يمكن تجنب تصديقها أيضاً ثم ردد مع نفسه أن الموت فجائيّ ولا يستغرق في حضوره سوى وحدات من الزمن تعادل ما تقطعه اطلاقة بندقية للوصول إلى رأسي أو شظية بحجم مناسب يحقق نهاية سريعة، أما الأسر فلا, انه خيط طويل من المرارة, نافورة عذاب لا تهدأ ولن يكون بمقدوري أن أعرف بالضبط كم من ميتة سوف تتحقق على جسدي خلال الزمن الذي أقضيه أسيراً, حتى أموت أو أرجع مجنوناً, مريضاً ولا منفعة في وجودي, لن أستطيع أن أتزوج, لن تقبل أي امرأة عاقلة, برجل مجنون وفي جسده آلاف الأمراض. _ نعبر من النص، بين الجسر وبين الساتر النهر قريب، يله بسرعة. ارتفع صوت مهدي بصيغة الآمر المتيقن من صواب قراره يغمره شعور بقدرته على تمثيل دور المخلّص ببراعة وسرعة ثم نهض حاملاً بندقيته متوجهاً إلى النهر, كان نهوضه مثل سؤال لا يقبل غير إجابة واحدة من إجابتين، كلمتان واضحتان, الموت أو الحياة، تبعه غائب بل كان خلفه تماماً حتى أنه كان يسمع صوت الماء داخل بسطاله كما لو أنه يشبه شخصاً يخوض في بركة، ثم تبعه الآخرون وكانوا أشباحاً تلقي قنابل التنوير على ملامحهم صفات آدمية، وأقدامهم تدهس الأعشاب الندية المخلوطة بالطين حتى أن الركض صار أكثر خطورة لان السقوط سيكون بمثابة كارثة, كسر القدم مثلاً هو حادث لايصيب سوى سيّئي الحظ، حادث بسببه تضيع الفرصة الوحيدة للنجاة، خمسة كائنات تشبه خمسة أرانب مذعورة عندما توجهوا إلى النهر بحركة سريعة تنمّ عن الرغبة المستحيلة للإمساك بخيط الحياة. كانت قلوبهم تنبض بسرعة جنونية, ونظراتهم لا تهتم سوى بذلك الخط المائي الذي سيكون فاصلاً بين الحياة والموت. قبل مئة متر تقريباً من حافة نهر جسم انفجرت قذيفة قريبة, ارتمى الجميع على بطونهم نهضوا، قبل أن تستقيم قاماتهم, انفجرت قذيفة أخرى بينما صراخ الكائنات المعذبة كان يصلهم كما لو أنها إشارات تنبيه على أن عزرائيل يبحث عنهم كرسول للخراب الذي يغمر هذه البقعة من الكون, رمى غائب جهازه اللاسلكي وتبعه مهدي بتخلصه من حقيبته، الجميع شيئاً فشيئاً تخلّوا عن أثقالهم قبل أن يصلوا حافة النهر، سقطت قذيفة وكان صوت ارتطامها على سطح الماء معروفا: النهر قريب. صرّح مهدي بلغة العارف بينما كان يتخلص بقدمه من شجيرة صغيرة كما لو انه يحاول فتح طريق مختصر للوصول، بعدها تخلص الجنود الخمسة من كلّ شيء, الحقائب المليئة بالمعدات التي كانت على الظهر، حقيبة الأدوية المعالجة للضربات الكيميائية، قناع الوقاية من الغازات حتى الخوذ المعدنية، وصلوا النهر وكانت السماء حينها مسارات متقاطعة لأسراب العتاد الحارق خارق وهالات متقطعة تصنعها الأشعة الناتجة عن قنابر الهاون وبالونات التنوير ونار الحرائق البعيدة بينما الهواء كان مشبعاً براحة الأعشاب المحترقة والدخان الثقيل وأصوات الاستغاثات التي تصدر من كل مكان وهي تختلط بنداءات متقاطعة لا يمكن تفكيك دلالاتها، وصل الجميع إلى النهر بينما الفجر على وشك أن يهتك شيئاً من عتمة السماء, كلمات مهدي عبّرت عن شجاعة وحكمة أيضاً _ إن الوصول للنهر هو الخلاص_ قبل أن يشير بإصبعه إلى الساتر الذي تختفي خلفه القطعات العراقية ثم أضاف أن عليهم بعد العبور أن يختاروا نقطة لا تتواجد فيها سيطرات الاعدام التي يحرسها رجال الاستخبارات العراقية , بالنسبة لغائب لم يستطع تخيّل الجانب الآخر بل أن كلمات مهدي لم تكن تعنيه, حاصرته فكرة أنه يهرب من موت إلى موت، ثم تفاعل مع دعوة مهدي وهو يحرض نفسه بخطاب شجاع: يجب أن أحاول، البقاء هو الموت أو الأسر وعبور النهر فيه شيء من الأمل ربما سأنجح, من يدري؟ . كوّر الجنود الأربعة ملابسهم ثم وضعوها على رؤوسهم ثم علقوا أحذيتهم الثقيلة أيضاً حول رقابهم , حدث كل هذا بسرعة وبراعة وثقة جعلت غائب يطمئن على أن أربعة أشخاص سوف يهربون من الموت في نفس الوقت كانت نسبة الثقة بنجاته هو بالذات تساوي صفراً، رغم ذلك قام بنفس الحركات التي شاهدها كما لو أنه ممثل فاشل لم يحفظ دوره بما يناسب العمل مع مجموعة لها خبرة ودراية بما تقوم به, كان أخرقاً بشكل يدلّ عن افتقاده لخبرة الريفيين مخلوطة بارتباك وخوف وقلة حيلة في استقدام الثقة الكبيرة بالعبور لانه لم يكن لديه إحساس بأن جسده سوف يلامس الماء فهو لا يجيد السباحة وهذا يكفي لتكوين قنوط مؤيد بشهادة جسد لم يجرب الغطس في أي تكوين مائي سوى الطشت الذي كانت تستخدمه أمه لاستحمام الأطفال والكبار أيضاً، في فترة المراهقة كان أصدقاءه يسبحون في قناة الجيش أو في البحيرة على مشارف مدينة الثورة، القصص التي علقت في خياله الرعديد عن الغرقى التي أخذتهم القناة قضت على كلّ رغبة له بالمحاولة، عشرات الموتى كانوا يغرقون في ذاكرته، فكّر بالنهاية المائية قال عنها أنها طريقة موحشة للغاية، وكان بياض الفجر ينسلّ متحدّياً هيمنة السواد المهتوك بضوء الحرائق، كتل نار كانت تهبط إلى النهر فتشقّ سطح الماء البارد وتغيب هناك في الأعماق، انزلق الأربعة جنود مهدي وعذاب وشافع وجلال إلى الماء، عشرون متراً أو أكثر بقليل, خبطت أيديهم بقوة لبضعة دقائق وربما دقيقتان وكان غائب ينظر وقد أصابته في قلبه خيبة تضاهي العجز التام عن تكوين مشاعر واضحة فبقي معلّقاً في المسافة بين الفرح والحزن، دقيقة واحدة مع حركة أيديهم المدرّبة وأقدامهم التي تشبه أرجل ضفدع كفلت للجميع العبور للضفة الأخرى، وحده غائب، النهاية الموحشة كانت خلف ظهره تماماً، وحيداً في نقطة التلاشي العظيمة، النهر من أمامه ومن خلفه بعض الجنود الذين سيقومون بأسره، سيطرت عليه هذه الصورة حتى أنه بدأ يسمع فحيح الموت أيضاً على جانبه وأحس برغبة في البكاء, نعم تمنى أن يبكي بينما انفجرت قذيفة هاون قريبة فسقط على الأرض بطريقة تخلو من الدراية، انهار تماماً وما كان بمقدوره احتمال أن ينمو في داخله شعور يشبه نمو خريف في عروق ورقة، لقد جعله القنوط يرى بشكل واضح وغير لطيف على الإطلاق تبعثر سنواته وتطايرها ورافق كل هذا شعور بالوحدة , تشكلت ذاته كما لو انه كائن فاقد للخبرة ووسائل الدفاع , انسان خلق للتوّ وعليه الدخول في صراع وحشي مع العالم :حسناً. قال لنفسه: دعني أموت هكذا بشرف الحرّ الذي لا يعنيه أن يكون طعاماً للأسماك أو أن يكون جسده ممراً لعبور شظية أو هدفاً لانطلاقة بندقية. - يله غائب بسرعة. صاح شافع من الضفة المقابلة كان صوته قريباً وقوياً كشحنة كهربائية تضرب جسداً فجعلته يرتعش بسبب العاطفة التي هي الرغبة بالاستمرار في الحبّ، من جهة أخرى لم يكن هذا النداء سوى ذلك التعبير الأكثر بعداً عن الفهم، نعم إنه بعيد أكثر مما ينبغي، بعيد جداً كما لو أنه يمثل عجز المرء عن تحويل الماء إلى يابسة في رمشة عين. - يلله بسرعة . كرر شافع دعوته بمرارة واضحة تمثل ما يشبه الاستغاثة أو تحفيز قلب غائب على خوض المغامرة لأنه يعرف أن الجسد عاجز عن الفعل لفقدانه المهارة اللازمة للدخول في سباق كهذا، كانت مغامرة غائب الحقيقية أنه يجب أن يقطع النهر بقلبه لا بجسده. _ ما أعرف أسبح، ما أعرف، خلوني هنا, خلوني وروحو. قالها بمرارة ولم تكن جملته شرسة بما يكفي لوصفها بالحقيقية، كان خطاباً واهناً ومخلوطاً برغبة بكاء عظيمة، جملة لم تكن قد وصلت لطاقتها القصوى بالتعبير على العكس هي جملة من ذلك النوع الذي يحتاج تفسيره إلى تجاوز هذا المعنى المباشر والانتقال للداخل وما يتضمنه من معنى معاكس تماماً, قطعاً كان ثمة شيئ من اليأس في رأسه لكن الرغبة التي تشبه رفضاً للصدفة في توجيه بوصلته حاضرة أيضاً : حسناً. صاح شافع: يلله، اقفز. وتداخلت الأصوات، اقفز، تره تموت إذا بقيت، اقفز، يمعود بسرعه، غائب، يلله. أحسّ بأن يدا لا يمكن الصمود أمام قوة طردها للهواء تدفعه وكأن تقدم الحياة يحتاج وبشكل متواصل إلى أيادٍ من ذات النوع الذي جعله يقذف بنفسه إلى الماء البارد، هل هي محبة الحياة التي دفعته؟ أم الخوف من الموت؟ بالتأكيد هي ليست مقامرة، بل هي اللعب على آخر فرصة، تلك التي حين لا تقوم بها ستجعل وجودك في درجة الصفر، ومنذ اللحظة الأولى سقطت ملابسه التي كانت مكورة فوق رأسه , طافت ثم ذهبت بعيداً مثل جثة يدفعها الموج إلى آخر العالم وبسطاله الذي كان معلقاً في رقبته هو الآخر هبط بسرعة إلى الأسفل، تحسس حزام بندقيتيه بشكل آلي ودون أي مقاومة هبط مثل حجر ثقيل ينسحب بكامل وزنه، لم تصدر منه حتى صيحة استغاثة, يداه فقط خبطتا صفحة الماء ثم ارتبكتا لانشغالهما بالمرور السريع في ممر الظلمة حتى النهاية؟ هل صحيح أنه كان يريد الموت بشرف كأي كائن قرر أن يفعلها بمحض إرادته حتى كره أن يطلق تعبيراً يفسره الآخرون على أنه دعوة للنجدة ، أم أنه نسى كل شيء أمام قوة الجذب الفظيعة التي كانت تجرّه إلى القاع؟ وفي تلك اللحظة التي أحس بها أن قدميه يلامسان الطين لم يعد يسمع شيئاً من هدير للمدفعية ولا أزيز للرصاص ولا تداخل نداءات ولا أنين جرحى, لم يعد يشمّ رائحة دخان واختفت الحرب تماماً، توقفت الأسلحة عن فعل الموت وحلّ السلام فجأة على العالم، وجد نفسه أمام ما يشبه الشاشة الكبيرة واللقطات تمر بسرعة , لقطات لا تمكث إلا بقدر نية مرورها الخاطف، ثمة مشاهد كانت تخلو من الحشمة وأخرى تجلب العار بعضها كان رصيناً يعبّر عن تصالح مع الذات, مشاهد أخرى كانت واهنة كالتي تتكون من بقايا الشك، لقطات لأماكن منسية وحوارات كان يعتقد أنها باهتة وتخلو من المعنى فاكتشف العمق الإنساني في نسيجها، تفاجأ بجماليات الأشياء التي كانت تزحف بجانبه دون أن يعيرها اهتماماً، لقطات مجنونة كانت تسحب مع مرورها خيط الزمن بينما كان غائب غارق في العتمة مكتفياً بفتح رأسه لكي تنسحب محتويات الذاكرة كلها إلى الخارج قبل أن ينطفئ العالم، ورغم ذلك استطاع الإمساك وبشكل غير مفهوم بلقطة واحدة، لقطة أخيرة أوقفها بتصميم لأنه لم يرها من قبل، ظهرت أمه وهي تقف كما لو أنها شجرة كثيفة الأغصان في صحن الدار، هل كانت شجرة أم أمه, ثم سمع صراخاً يندفع مثل نافورة إلى الأعلى ولا يتوقف عن الصعود, شعر برغبة أن يبكي ثم عادت صورة أمه, سمع صرختها ثانية قبل أن يرى ما يشبع طيوراً سوداء، أسراب هائلة تترك مخابئها وهي تصدر ما يشبه النعيق المختلط بنواح أخواته الخمس المحاطات بكائنات أخرى متشحة بالسواد, كان يشعر بنفسه أنه يذوب في سديم موحش يخلو من أي تعبير سوى السواد الكثيف حتى سمع أصوات أخرى, شيء يشبه النداء يخترق صفحة الظلام من فتحة ما في هذا السديم, لكنها نداءات ضعيفة وكأنها على وشك التلاشي قبل أن تصل بوضوح، هل بكى حينها؟ أم أنه كان يمرّ بتلك الفسحة التي تحررت بها مشاعره من الثنائيات وذابت في الحياد ؟ هل كان حزينا ؟ وهو يستقر كحجر في قاع الوجود؟, حجر حزين وحسب أو مخلوق فاقد للصلاحية أوكتلة بذاكرة تتسرب بجنون ليس لديه مقاومة لايقافه ولا يملك أية حواس فاعلة لتوصيفه ما عدى تلك البقايا من حاسة السمع و التي كانت تمرر له أوهاماً كأن يسمع من يحاول تخليد اسمه على صفحة الكون, اسمه نفسه لم يكن قد عبّر عن دلالته إلا في تلك اللحظة رغم أنه كان في موقف (اللابعد) عندما تلاشت الأبعاد ولم يعد يستحق حتى أن يكون مسمّى لكتلة أو شيء _ دفع جسده, كانت حركة عشوائية بدائية لا تدلّ على خبرة ما, غريزة ربّما بمعنى انها حركة كالتي تقوم بها حشرة في الدفاع عن نفسها أو كما يفعلها طفل وهو يقاوم ما يظنه خطراً دون أن يفهم طبيعة هذا الخطر, ثم تشكلت حواسه بشكل مفاجئ على شكل أجنّة تنمو بسرعة، أحس أنه يستعيد خبرته عن المحيط مرة أخرى كطفل ولد للتوّ يحتفظ بارتباكه أمام الحقائق لضعف إدراكاته التي تحتاج لتمارين طويلة لكي تصير واضحة وفاعلة، شعر أيضاً بأن قدميه تفلتان من القاع، وتتخلصان من لزوجة الطين، شهق بصيغة من يضع توقيعاً في أسفل سيرتة الوظيفية كي يدخل عصر التقاعد, ربما هذه الشهقة هي التي قذفتنه كسهم إلى الضوء؟ حتى اندفع جسده إلى الأعلى قبل أن يظهر شعر رأسه مثل سمكة كبيرة تظهر وتختفي _غااااااااااااااااااااااااااااااائب غااااااااااااااااااااااااااااااااب . سمع اسمه بوضوح فأستعاد ذاكرته وأمله بالحياة وفي الوقت ذاته هزّ كيانه الخوف من الهبوط إلى الظلمات مرة أخرى, خوف بدرجة هي أعلى آلاف المرات من ذلك الخوف الذي سبق مرحلة استقراره في القاع، أحسّ أنه فقد لامبالاة جسده عندما استرجع ذاكرته, استعبدته تلك المشاعر التي تشبه تهديداً جاداً وقاسياً في ارجاعه إلى مرحلة الحياد، يد شافع هبطت على رأسه بعنف، جرّته الأصابع القوية التي أطبقت على شعره المخلوط بالطين، ثم شعر بشيء ما يغرس في فروة رأسه، لم تمضّ سوى دقيقة، أقل او أكثر حتى شاهد في زرقة الفجر البارد وبشكل مشوّش الكائن العملاق الذي يقف على الضفة وهو يسحبه بقوة حتى أوقفه على قدميه الواهنتين غير القادرتين على حمل جسده العاري المرتجف من البرد وما تبقى من آثار الموت.

روائي عراقي الرواية صادرة عن دار أثر في الرياض 2014م.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم