لم يستطع أن يتمالك نفسه، تلبّسته حالة غريبة، صمت دقائق ذاهلاً وهو يمعن النظر فيما يراه أمامه، معروضاً يناديه. لم تلفته قبل تلك اللحظة، كان شعوره حيالها الشفقة الممزوجة بشيء من القرف. لكنّه كان يمنّ عليها بالطعام، ما منحها الأمان والراحة إزاءه، كانت تهدأ عندما يقترب منها، تتخلّى عن عدائيّتها التي تميّزها عند اقتراب أحدٍ منها. كانت وهي مستلقية على ظهرها، وثوبها المنحسر عن ساقها، كأنّما تستسرعه للانقضاض عليها. هيئتها البريئة تلك اللحظة هيّجت جنونه، فلم يلتفت إلى جنونها، ولم يستوقفه عدم مقدرتها على التحكّم بتصرّفاتها، بل تلبّسه وسواس الارتواء منها. تجمّع عقله في رأس عضوه، انساق وراء غريزته، اقترب منها، أثاره منظر لحمها البضّ الذي لم يكن قد تنبّه إليه قبل ذلك، أثارته بضع شعيرات متناثرة على ساقيها، رفع فستانها برفقٍ، فقد كلّ ما تبقّى من عقل، ارتهن لجسدها، عانتها الكثيفة المتّسخة زادت في هياجه. رفع رأسه يستنشق كمّيّة كبيرة من الهواء، كمن يودّ الغطس، ثمّ وضع رأسه بين فخذيها. اشتمّ رائحتها التي بدت له أزكى عطر يمكن أن ينوجد، لم يأبه لرائحة البول والعطن والعرق، بل أعماه مثلّثها المختفي بالشعر المخيّم عليه. لمس فخذها، مرّر كفّه بنعومة عليه، ثمّ بدأ بيديه الاثنتين يمرّرهما على جسدها من الأسفل للأعلى، وهي تتقلّب في محلّها، استطاع أن يسرّب إلى جسدها الشهوة، قبل أن تعي على نفسها، فاستكانت لحركاته ومداعباته، بدت لحظتها خلاّبة في نظره، شعثُ شعرها تحوّل في عينيه إلى ترتيب وهندسة، شراستها انقلبت وداعة. أنّت تحته، لم تمانعه، هدّأتها اللذّة المسرّبة إليها وروّضتها، بدا لها أليفاً، وهو يقبّل كلّ شيء فيها، نظرت إليه نظرتها البلهاء وهو يقبّلها في كلّ مكان من جسدها، ثمّ وجدت نفسها تبادله الشراهة، عند تركيزه على فمها يداعب بلسانه لسانها، لم تكن تستطيع السيطرة على انفعالاتها، وقعت في فخّ الشهوة، غاب عنها الجنون تلك الساعة، حلّ محلّه جنون آخر..

وجدها أهل القرية المجاورة ذات ليلة مرميّة بعيداً عن الطريق، كانت غارقة في دمائها، حين اكتشفوا بأنّها ما تزال حيّة، أسعفوها إلى المستوصف الذي بقيت فيه عدّة أسابيع، وعندما التأمت جراحها، حاولوا إبعادها عن المستوصف، لكنّها لم تكن تغيب ليلة إلاّ لتعود، كانت تعود في آخر الليل وتغادر صباحاً قبل بداية الدوام الرسميّ، كأنّها تعرف القوانين، وأوقات الدوام، ألفت أجواء المستوصف، وجدت فيه راحتها. لم يكن أحد ليمنعها من المبيت عند أحد جدرانه أو في غرفة المرضى على أحد الأسرّة، أو في الممرّات. كانت تتلقّى الطعام الذي يُلقى إليها، تأكل من دون كلام، لا تتفوّه بأيّة كلمة مع أحد، لم يسمع أحد صوتها. كانت تصدر أصواتاً هي مزيج من الصراخ والصياح، عندما تشتم أحداً يزعجها، أو تكشّر عن أنيابها عندما يقترب منها أحدٌ ما.. كانت تخشى كلّ شيء. عرفت عندهم بجولا. غدا اسمها جولا، يتحدّثون عنها كأنّهم يعرفونها منذ زمن بعيد. يروون عنها حكايات غريبة، يخترعون لها ماضياً يناسب هواهم وحالتها. قال عنها أحدهم بأنّها من حلب، قتلها أهلها بعدما انتشرت قصّة علاقتها بشابّ كانت تواعده سرّاً، وفقدت معه بكارتها. قال آخر إنّها من السويداء قتلها زوجها بعد ما اكتشف خيانتها له. اجتهد كلّ واحد في اختراع قصّة جديدة، وزعم مصداقيّتها. اختلفت الأماكن، لكنّها اتّفقت على النيل منها، وإظهارها خائنة فاقدة للشرف في القصص كلّها

لم يستطع أن يبوح بالسرّ لأحد، هو المستمتع بتكتّمه دوماً، لكنّه كان يتأفّف من تلك الأحاديث. كان مكتشف السرّ الوحيد. لكنّه سرّ قرّر أن يبقيه حبيس صدره. كيف سيبوح لهم بأنّها كانت عذراء وأنّه هو مَن أفقدها عذريّتها، وفضّ بكارتها المحتمية بالجنون، عندما انقضّ عليها في تلك الليلة التي تحوّلت فيها إلى كائن آخر مختلف كلّيّاً عن الصورة التي يعهدونها بها. كائن رقيق لذيذ متشهٍّ، مجنون بسياق مختلف، معشوق جسداً وروحاً. وديع مسالم مستسلم. كيف سيمكنه القول بأنّه ضاجعها أكثر من مرّة في تلك الليلة، وبعدها بليالٍ أيضاً، وأنّها كانت تئنّ نشوة في أحضانه كلّما ضاجعها.

لم يحاول أن يداخل في لغز ظهورها، ولا في لغز اختفائها. لم يدلِ بدلوٍ، كما لم يتشاطر في إيجاد مفاتيح لتلك الأسرار التي دفعت إلى الإلقاء بها في صحراء نائية. لم يحاول النبش في ماضٍ لن يعرف منه وعنه شيئاً، لم تسترعِ التخمينات المتباينة انتباهه.

ستختفي جولا مثلما ظهرت، مغلّفة بالأسرار والألغاز، سيكون اختفاؤها لغزاً كما كان ظهورها تماماً. ولن يكلّف أحدٌ نفسه مشقّة البحث عنها. لأنّها لا تهمّ أحداً. ستخلّف فراغاً هائلاً في روحه، هو المعتاد على الفراغ والفقدان والاغتراب طوال عمره.

كان قد لاحظ التغيّرات التي كانت تطرأ عليها، لاحظ شحوبها، وإطالتها المكوث والنوم، لاحظ الاضطراب الذي تعانيه. انهارت صحّتها، خفّت سرعتها، قلّ نشاطها، باتت تُرى في معظم الأوقات بالقرب من المستوصف أو على مرأى منه، في حين كانت تخرج سابقاً، دون أن يستطيع أحد توقّع مكانها، لأنّها كانت تنتقل من كهفٍ إلى آخر، من وادٍ إلى تلّة إلى قرية، لتعود إلى مستقرّها الذي راق لها.. خشي أن تفتضح علاقته بها، أو أن ينكشف أمره وما فعله بها، لاسيّما بعدما لاحظ ارتفاع ثوبها جرّاء كبر بطنها الذي بدأ ينتفخ. ساقَهَا في تلك الليلة، ليلة الوقفة، إلى وادٍ في العمق، أدخلها إلى كهفٍ، وهناك انكبّ عليها يقبّلها، ضاجعها للمرّة الأخيرة، قبل أن ينقضّ عليها بحربته الصدئة. أسندها إلى صخرة هناك، ثمّ بدأ ممارسته معها، يتملّى من جسدها، يعوي عواء اللذّة والشبق، يصرخ صرخات القتل، وهي تئنّ كعادتها عندما يسرّب إلى جسدها الشهوة. بعدها غاص في عمق نأى عنه ضوء القمر، حرص على أن يقطع رقبتها. قتلها شفقة عليها ممّا ستؤول إليه أحوالها بعده. أشفق على الوليد الذي يمكن أن يأتي إلى هذا العالم. بكى بكاء مريراً بعدما جزّ رقبتها وطعنها. حفر لها قبراً سريعاً في الرمال، وعاد أدراجه إلى مستوصفه. تاركاً الحيرة تتناهب الجميع. مخلّفاً لغزاً جديداً ينضاف إلى سلسلة الألغاز التي أتت مع جولا ولم تنتهِ بعد غيابها.. بل ظلّت الألسن تلوك سيرتها، وتبرع في ابتداع التخمينات حول ظهورها المفاجئ واختفائها الملغز..

اكتشف بقعاً من الدماء على كنزته ورقبته، غسلها، وأوى إلى فراشه، وهو حزن حزناً شديداً، اجتاحته حمّى غريبة، وجد نفسه يصيح وأسنانه تصطكّ: زمّلوني، ولا أحد يزمّله. كان يستمع إلى اصطكاك أسنانه ببعضها بعضاً، غمره العرق البارد الذي خرج من مساماته كلّها، كان يرتعش ارتعاشة الذبيح. يتذكّر جولا، وهي تحملق فيه تلك النظرة الساحرة الغريبة، ويبكي، ثمّ يتذكّرها بعد قليل ويصمت، أو يبتسم ابتسامة مؤسية. يتصوّرها من دونه، كلبة تهرب بجروها من مكان إلى آخر، ثمّ يبتسم عندما يشعر بأنّه اطمأنّ عليها، وأنّه عرف ما يريحها ونفّذه. لأنّه اعتبر نفسه الوصيّ عليها.

لم يترك قرائن تشير إليه، ولا بحث أحد عن أيّة قرينة قد تدين أحداً. لكنّ المنظر الذي ثبت في مخيّلته قضّ مضجعه طويلاً، وعاوده على شكل كوابيس فيما بعد. يجد نفسه وهو يقطع رقبتها، والحربة الصدئة التي قيل له بأنّها تستعمل كسلاح أبيض أثناء الاشتباك في المعركة مع الأعداء، لا تنهي المسألة بالضربة الأولى، فيضطرّ إلى محاولة ثانية ثمّ ثالثة، ثمّ طعن بطنها المنتفخ عدّة طعنات، سال منها دم مختلف عن الدم الذي سال عندما فضّ بكارتها. أهاجه منظر الدم مرّة أخرى، تحوّل إلى وحشٍ يحاول القضاء على فريسته بسرعة قصوى. والفريسة لا تحرّك ساكناً، ولا تقاوم، كأنّما عادت إلى ذاكرتها مشاهد المرّة السابقة التي قتلت فيها، ومُثّل بجسدها. يبدو أنّها استفادت من تلك المرّة التي قاومت من دون نتيجة، فكان منها الاستكانة والصمت، وهي تطعن، أدلّة على إرادتها المتوافقة مع مشيئة قاتلها. حشرجاتها وأنّاتها، تعقّلها في تلك اللحظة، تعلّقها البادي به، كلّ ذلك ساهم في تأجيج الصراع في روحه. تحوّلت معشوقته الليليّة إلى عدوّ وجب التخلّص منه بالحربة. تحوّل إلى وحش رحم لحالها، فقضى عليها. على الرغم من أنّه كان يحمل بندقيّته المذخّرة معه، لكنّه فضّل إنهاء المسألة دون ضجيج، كي لا تتصادى الطلقة في ليل الصحراء الصامت الكئيب.

كلّ ذلك، وأصدقاؤه اللدودون؛ مرافقوه من الفئران، كانوا يشهدون على ما يقوم به، يتأمّلون المشهد مصطنعين الحياد، مؤثرين الصمت والتفرّج، كعادتهم دوماً، بعدما كان قد خفّف من توتيره واستعدائه لهم..

الفواكه والحلويّات التي جلبها نضال بمرارة لازمته حين جاء قرار نقله إلى وحدة قريبة من بيته، وحين كانا معاً في مهمّة توزيع الأدوية، سهّلت له مهمّته.

قرار النقل أزعج نضال كثيراً، حيث كان والده قد قرّر أن يفاجئه به، ظانّاً أنّه بذلك سيسعده، ويخلّصه من عناء الذهاب والمجيء والمبيت كلّ فترة. على الرغم من أنّ دوامه كان بحسب رغبته، لكنّه كان يفضّل المبيت في المستوصف ليلتين أو ثلاثاً في الأسبوع، مستمتعاً بخدمة صديقه، ومستلذّاً بممارسة الجنس معه. في حين كان صديقه يُسلطن بوجوده، لأنّه كان يُشعره بأهمّيّته، يلبّي له طلباته ورغباته كلّها، يطيعه كعبدٍ له تماماً. يقبّله، يتغنّج وهو يقدّم له الطعام أو الشراب، يمنحه مؤخّرته في الليلة أكثر من مرّة.

في الليالي التي كان يغيب فيها نضال، كان صديقه يشتاق إليه، لأنّه تعوّد على تلك الأجواء الحميمة التي كان يخلقها بوجوده. لكنّه كان يودّ تغيّبه أيضاً، لأنّه كان يلهيه عن جولا، حيث كان قد اكتشف لذّة وسعادة مضاعفة معها. ذلك أنّه شقّ الطريق إلى جسدها، وبات عليه جني لذائذه، كان يبتدع الحركات معها، وهي تكتفي بالتأوّه وذرف الدموع تالياً. اعتادت جولا عليه كما اعتاد عليها. تأتي إليه، يطعمها، يسقيها، ولا تغادر قبل أن يمارس معها فنونه.. كان يأخذها أحياناً إلى بقعة قريبة من المستوصف، يمارس معها تحت ضوء القمر، مستمتعاً بوجهها وجسدها الذي يتلوّى تحته، مهتاجاً للظلال المتشكّلة، يشعر بأنّه يرى نفسه في المرآة وهو يمارس معها، فيستثار أكثر وأكثر..

ظنّت جولا وهي تتبعه تلك الليلة، كأنّها ككلّ ليلة، لم ترفض أو تقاوم، كانت تتبعه كالمُسرنمة، تستمتع بالحلويات التي يلقمها إيّاها تباعاً، فسهت عن المسافة التي سارت فيها معه. لم يحتج إلى الحبل الذي أخذه معه، لأنّها كانت مطواعة لأوامره. تستلقي عندما يشير لها، تتقلّب عندما يطلب منها، ترفع فستانها، تغمض عينيها.

لطالما كرّر لنفسه كأنّما يقتنع بالتكرار، بأنّه عمل عين العقل عندما رحمها وقتلها. تساءل مراراً عن مغزى عيش امرأة مجنونة، في صحراء قاحلة، تصبح أضحوكة بيد العساكر والقرويّين والمارّة، يبتدعون لها المساوئ، يكيلون لها الشتائم، يتفنّنون في إيذائها، لم يستدلّ على أيّة حكمة في بقائها، بل وجد أنّه من الأنسب لها الموت والاستراحة من عناء معيشة ذليلة كالتي كانت تعيشها، على الرغم من عدم معرفتها بأنّها تعيش الذلّ، لكنّ معرفته كانت كفيلة بتنفيذ ما وجده صواباً.

استولدت تلك الأسئلة سلسلة من الأسئلة المستنكرة التي لم يعثر لها على جوابٍ شافٍ، حول الحكمة من خلق المجانين، هل ليعتبر منهم العقلاء، ولكن ما ذنبهم كي يكونوا أضحوكة، وماذا يجديهم التعويض فيما بعد، لماذا هم من دون غيرهم، وماذا لو أنّه كان واحداً منهم، هل كان سيعي حالته حينها، أما كان يفترض به أن يتخلّص من نفسه، ويرتاح..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرواية صادرة عن منشورات ضفاف - بيروت، الاختلاف – الجزائر.

خاص الرواية نت.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم