من رحم الجائحة جاءت هذه الرواية لتعبر بعضًا مما خالج شعور البشر في كل مكان، فقد وحّدتنا إنسانيًا، الكل عانى من الحجر القسري، إحساس السجن والعزلة، والبعض مرض وشفي، آخرون عرفوا معنى الفقد، فملايين من أعمار مختلفة على اختلاف هوياتهم غادروا، رحلوا.. قلّصت الكورونا من تعداد البشرية على مدى ثلاثة اعوام تقريبًا ليضمحل ثقب الأوزون، ولتصبح الأرض أكثر نقاء!

استطاع المحيميد من خط قصة معروفة التفاصيل بحرفية سردية، تنقل عبرها في أزمنة عديدة، بادئًا إياها من المستقبل، عن سليمان الزارع العجوز الذي واكب أوبئة نجا منها صحيًا، لكنها تملكت عقله وبقي سجين غربان يراها تتعقبه كلما خرج حتى لو تنكر.

"ولم يتوقع أن العالم سيعود إلى الوراء كلما تقدَّم أكثر، وأن الحروب والأوبئة لا تتوقف أبدًا، وهذا المخلوق العجيب، المدعُوّ «إنسان»، لا يكفُّ أبدًا عن إثارة الفوضى والقتل والخراب، ويخلِّف الدمار، حتى كاد الكوكب الجميل أن ينتحر برمي بنفسه".

"الحكاية دائرةٌ تتكرر" لب ما خلٌص له الروائي السعودي مسترجعًا حرب فلسطين التي شارك فيها سعوديون، أوبئة كالجدري، الحمى و الكورونا من خلال عدة أجيال لعائلة نجدية تمتد ل 100 عام ، موضحًا أن كل تلك المآسي على اختلاف تفاصيلها إلا أنها تحمل ذات الوجع.

أي رمزية عناها الكاتب للغربان؟ وهي الطيور التي تجتمع على الجثث، وتعتبر نذير شؤم؟ هل أراد التأكيد على تربّص الموت بالحياة؟ "لماذا لا يتفاهم الموت معنا، ويقول لنا مثلًا ما آخرُ طلباتكم من الحياة."

الرواية تبدأ 2048 وتنتهي به، قسمها المحيميد الى تسعة فصول: مدينة بيضاء ميتة/  فبراير 2048"، "كيف أحرك يدي الحجرية/ مارس – فبراير 2020"، "تفاصيل منسية/  ضارج – الرياض 1939"، "سجين خلف زجاج نافذة في ملحق خارجي/ الرياض 2020"، "أوراق منسية في زمن بعيد/ الرياض – فلسطين 1945 – 1950"، "يطرقون رؤوسهم كما السجناء/  الرياض 2020"، "الجنود في حقل الذرة/ الرياض – فلسطين 1948 – 1949"، "أعد المنظار الروسي إلى جرابه القديم/ الرياض 2020" و"الحكاية دائرة تتكرر مايو 2048".

يسيطر على جو الرواية إبراز ملامح الضعف الإنساني في ثنايا أحداث مختلفة، فما بين الفقر والجوع، الفقد والرحيل، خوف يطارد سليمان ليهرب منفيًا معتزلًا العالم في ارض بيضاء ميتة، في حين يبقى الوباء بكل تداعياته البطل الحقيقي للعمل، مع نجاح الكاتب التعمق في ثلاثية استشراف حذر للمستقبل، نقل للحاضر وغوص بالماضي. "أحيانًا شعورنا بالحرية في اتخاذ القرار يكفينا، لكن أن نعرف أننا مسجونون وأن لا طريقة لإزاحة القضبان، هو ما يؤذينا"

برع يوسف المحيميد في تنقل ذكي خفيف بين الازمنة والشخصيات، تسلح بعين ثاقبة مكنته من رصد دقيق لأحوال مدينة الرياض وناسها أثناء الجائحة، وصف عزلة الجسد، هواجس الفكر بواقعية شديدة، ما جعل روايته متكاملة من حيث البناء، التقنيات والتي بان الحلم أحدها، واللغة الجزلة المتدفقة بانسيابية سهلة. " كنت أفكر كيف أصبحتُ حيوانًا داخل بيتي، بيتي قفص، وأنا حيوان محبوس، والحيوانات في الشـوارع بشـر، تفكِّر وتخطِّط، تأكل وتلهو، وتتفرَّج علينا داخل أقفاصنا الكبيرة، ما الذي يحدث في هذا العالم المقلوب، كيف أصبح العالم هشًّا، بل مجرَّد رغوة زائلة"

قال الكاتب روث غروسريشارد: «إذا كان من اللازم توصيف العمل المُبدِع سنقول بسرور إنَّ كلَّ صغير جميل!». وهذا النص الأدبي جمع بين الصفتين، ليشكل إبداعًا يُظهر وعي الكاتب بالمعرفة الروائية التي تصورها كونديرا في كتابه"فن الرواية" هي الأخلاق الوحيدة للرواية.

للكاتب السعودي، الصحفي، القاص والروائي يوسف المحيميد موقع رسمي يحتوي على سيرته الأدبية، عناوين إصداراته، مقابلات ومقالات، الترجمات للغات الأجنبية، أشهرها : "الحمام لا يطير في بريدة" التي نالت جائزة أبو القاسم الشابي وترجمت إلى الإنجليزية، إضافة للجوائز التي حصل عليها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم