تبدو أفكار مثل مواجهة العالم ومحاولات تغييره أفكارًا شديدة الحضور والجاذبية في واقعٍ صعب يفرض متغيرات كثيرة على الدوام، ورغم ما يبدو على تلك الأفكار من صعوبة بل واستحالة أحيانًا إلا أن مواجهتها بالسخرية تبدو الأكثر جدوى، بل والأكثر حضورًا في التناول الأدبي والفني على السواء. 

من هنا ينطلق مينا عادل في روايته الجديدة (الأستاذ بشير الكُحلي) في سيرة موجزة للبطل الذي يحلم بالتغيير بعد ضياع حلمه بأن يكون قائدًا عسكريًا ينتهى به الأمر معلمًا للتربية الرياضية، ولكن الكحلي لا يكتفي بذلك الموقع وهذا الدور، إنه رجل يحلم بأن يكون له دور أكبر، يقرأ في كتب السياسة وتعرف على تجارب نهضة الأمم في آسيا وأمريكا اللاتينية وكوريا والهند والصين، وسارع بمخاطبة المسؤولين في الوزارات وعرض عدد من الأفكار الخلاقة مثل تصدير "الطعمية" أو فرض تكلفةالعبور في قناة السويس بالجنيه المصري، ولكن الرسائل يتم تجاهلها لا يرد عليها حتى مشاركاته التلفزيونية كانت تواجه بالاستهزاء، ولايتم أخذها بجدية، سعى في أكثر من طريق، على القهوة مع البسطاء ولكنهم تجاهلوه أيضًا، ولكن كل تلك المعوقات لم تمنعه عن التفكير فيما يحلم بتحقيقة. 

يبدو "بشير الكحلي" نموذجًا معتادًا لصاحب الأفكار غير المألوفة ويسعى لتغير من حوله، ذلك الذي يمكن أن تقابله في مصلحة حكومية أو بجوار سائق ميكروباص، يصر على أن يشاركك أفكاره، وتسعى بكل جهد للتخلص منه ومن أفكاره، ولكنه يبقى حريصًا على أن يبثها إليك أو إلى غيرك، وتكون لحظته الأثيرة حينما يجد أذنًا مصغية، أو شخصًا على استعداد أن يكون تابعًا ومريدًا، وهذا ما دارت حوله حياة بشير الكحلي. 

ثلاث حوادث تبدو قدرية تغيّر من مسار الكحلي وتقلب عالمه، أولها القبض عليه بعد محاولة عرض فكرة مشروع تغيير الأسماء على مجلس الشعب وتفتيش منزله بعد ذلك، والثاني وفاة ابن خاله حافظ الورداني وتعرفه على زوجته الجميلة أميرة وابنها يوسف، والثالث هو تحول يوسف إلى أول المريدين أو المتبعين لدعاوى الكحلي للتغيير، والتي سيصادف أيضًا أنها ستكون لأول مرة بالقوة وليس بشكل سلمي وهادئ، وذلك من خلال موقف يوسف مع صديقه وائل الذي كان يتحرش لفظيًا بأمه. 

تبدو العلاقات الثنائية في الرواية مرسومة بعناية (بشير وأميرة) ثم (بشير والفراش محسن حنين) يظهر فيها جانب التسلط والقدرة على التحكم في بشير، ثم يخصص الكاتب الفصل الثاني بعنوان (يوسف الورداني) ولكن الرواية تستمر في عرض علاقته بيوسف أولاً وبقية الشخصيات الثانوية، في الوقت الذي يبدو فيه يوسف كبطل ثانٍ يسعى لانتزاع مكانة معلمة وأستاذه، ولو بشكلٍ مفاجئ في المشهد الأخير. 

 في هذا الفصل يكثف الكاتب عرض حالات السيطرة والهيمنة وطرقها، من خلال ما يمارسه بشير على تلميذه الأول، بدءًا بتلقينه عدد من الدروس والتعليمات وصولاً إلى جعله لا يقرأ إلا تلك الكتب التي حددها له سلفًا، وكعادة بطل/نبي يؤمن بتحقيق المستحيل من خلال أوامره وإرشاداته وتعليماته، فلا مجال هنا بالتأكيد للخيال، ولا حتى لمجرد طرح الأسئلة. 

(( حذره من الروايات؛ الروايات آثمة يا يوسف، فن أدبي حقير ومدع وكالذي يُرهب طفلًا من اللعب بالنار: إن قرأت الروايات تصبح إنسانًا نِسْبِيًّا، الروايات تقدم الأعذار والالتماسات للأغبياء والضعفاء، الروايات تجعلك تتعاطف مع البشر، الأشرار والأغبياء وقليلي الحيلة، والفسدة، أما كتبي فتجعلك قاطعًا صارمًا مع الضعف والخنوع، صانعًا للقوة، كتبي تجعلك شخصًا تؤمن بالمطلق لا النسبي؛ ما أبشع النسبية وحذارِ من النظر للأمور من منطلق النسبية وأن تتفهم مواقف الآخرين ودوافعهم، لا بد من أن تقيم عدلك بيدك، لا بد من أن تنفّذ قانونك المطلق على الجميع، لا تتعاطف، إياك والتعاطف، الروايات تجعلك تتعاطف، الروايات تلتمس الأعذار، الروايات أغبى شيء خطّه الإنسان منذ اختراع الكتابة أما الشعر فهو لا يقل خطورة، إنه «المخدّرات الأبدية)) 

 ولم تكن مثل تلك التعليمات إلا البداية التي سرعان ما اتسعت وأثمرت في عقل يوسف وقلبه، وقد رسم مينا عادل شخصية يوسف كذلك ببساطة، ولكن باقتدار، فهو ذلك النموذج الخامل تمامًا الذي يسمع ويطيع، ليس لديه فرصة للتمرد أو الاختلاف أو التغيير، تفاجؤه كلمات زميله ولكنه لا يتمكن من ردها، ويبقى وفيًا مخلصًا لأمه وأستاذه، حتى يأمره بنفسه بالتغيير، وأخذ هطوة مختلفة، وكأن القائد يرسم بنفسه مصيره أيضًا، حتى نصل إلى تلك النهاية. 

 يبقى في النهاية أن "الحالة" والتفاصيل الثرية التي رسمها مينا عادل باقتدار تبدو  لي على الأقل قادرة على المواصلة حتى بعد النهاية المرسومة للكحلي، فيمكن للكاتب أن يعود لأميرة ويحدثنا عمّا سكتت عنه في عالمها الغريب، منذ تعرفت على بشير وحتى فوجئت بمواجهة ابنها له، بل ويمكن جدًا ليوسف الورداني أن يبدأ، بوسائل مختلفة بالتأكيد، في مواصلة طريق أستاذه الكحلي، وليس من شكٍ في أنه سيجد صعوبة في البداية في الوصول إلى أتباع ومريدين، ولكن ربما حادثة أخرى تيسر له ذلك الأمر، بل وربما تحول يوسف لأسطورة أكبر مما كان عليه أستاذه المسكين.

مينا عادل جيد

كاتب مصري، مواليد المنيا 1990، تخرج من كلية الآداب قسم إعلام، حصل كتابه (كنت طفلاً قبطيًا) على جائزة الكتاب الأول في العلوم الإنسانية، معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021، صدر له بيت المساكين، وجزيرة إلخ إلخ، ونواحي البطرخانة. 


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم