في الوقت الذي لا يأبه فيه الكاتب السوري مازن عرفة لكيفية بناء روايته، أو لزمن سير أحداثها الواقعي أو التخييلي .. يشتغل على (السيرّية) بحرفية عالية وتقنيات فنية متباينة.. فحين تتوزع "الغابة السوداء" على ما يشبه الفصول تبعاً لعناوين مباشرة وأسماء لشخصيات منتقاة بعناية، تتوزع "أناه" على ثلاثة رواة ضمن مسارات سردية بأزمنة متداخلة وأحداث متشابكة ومشهديات وحالات هذيانية بين الوهم والحقيقة وحقيقة الوهم؛ مشكلة ما يشبه الفنتازيا الخاصة.. تحاول اللغة أن تضبط زمن سردها ومرجعيات ساردها، مانحة بفعلها "المضارع المستمر" طزاجة للراهن ورشاقة لمشهدية أحداث تحاكي آخر التطورات والمستجدات العالمية بكل تفاصيلها التي تصنعها الشخوص بتلقائية تارة، وبقرار من الكاتب تارة أخرى.. فحين تسطو الفكرة وتستحضر شخوصها، وتبني الكتابات الذهنية مساراتها الهذيانية المتصاعدة من الكاتب الراوي ابن داريا.. والروائي الكاتب اللاجئ في ألمانيا.. والمريض النفسي المصدوم بفجيعة الحرب السورية وخسارة عائلته، والمصدوم بمنفاه ووحدته ووحشته وغربته واغترابه.. يبدأها الكاتب من حياته الجديدة في مدينة  "بفورتساهيم" الألمانية بعد خروجه من المنتجع العلاجي، وتعرفه على الآخر ضمن معايشات ويوميات وحوارات متداخلة متشابكة تقودها مسارات سردية متنوعة بين السياسي والديني، والديني والجنسي، والطبي والنفسي، والشرقي والغربي، والسلام والحرب.. 

 عتبات وإشارات 

حتى عنوان رواية "الغابة السوداء" الصادرة عن منشورات رامينا في لندن، حتى عنوانها المدروس لا ينجو من أجواء التشابك والتباين بمعانيه اللغوية وتأويلاته الدلالية ومرجعياته الزمانية والمكانية.. مما يجعله يتخذ عتبة خاصة به في الرواية، فعنوان "الغابة السوداء" يتجاوز المعنى القاموسي لمفردتيه إلى معان مجازية رحبة التأويل، للمفردة بذاتها، كلون ومكان وطبيعة.. وبتراكيبها المغايرة للمعنى السائد.. فمن الإشارة "الخطابية" التي يبدأ بها روايته بسطور مختصرة يشير إلى عنوان الرواية: ((..عندئذ ستصبح "الغابة السوداء"، في داخلنا "الغابة المنيرة".)). ومن ثم تستمر الاشارات والتأويلات، المباشرة وغير المباشرة، لتربط عنوان الرواية بخيوطها ومسارات سردها من جهة، ولتفتح أسئلة مواربة من جهة ثانية: ((طبيبي المعالج لا يصدق بأن الأصوات لا تنبعث فقط من داخلي وإنما تحضر أيضاً من الخارج؛ تحضر من غابة تغطي تلاً مرتفعاً غير بعيد عن المنتجع..)).

ومن ضمن تلك الحالات يختار الكاتب  أن يزور بطله "الغابة السوداء" الحقيقية وهو تحت سطوة "الشواش" في رأسه والأصوات والصور الغريبة .. والضياع بين الواقعي والوهمي.. بين المشاهد التي تتلوى في هيولى ضبابية مرتجفة حوله، وبين الشخصيات الخيالية، كأميرة الحكايات، وشجرة الكرز، والحقيقية كالشخصيات التي عايشها في زمن الرواية الوقائعي، وكتب معها في شجرة الحكايات ذكرياته كما كتبوا.. وبينما يوجد في الغابة، التي سميت بالسوداء بسبب كثافة أشجارها الصنوبرية المخضرة طوال السنة، قرى وبيوت ومراعي ومصانع نبيذ وجمال طبيعة ساحر وشمس مشرقة تكون غابته: ((غريب "غابتي السوداء" التي تنفجر منها كوابيسي وهلوساتي مغلقة على الظلمة فقط((.

وفي الواقع: الغابة السوداء تسمى بالجوهرة السوداء نظراً لكونها تضم الأشجار والزهور والبحيرات والشلالات والحيوانات في بيئة نادرة الجمال، وتمتد على مدى مئات الكيلومترات في ولاية بادن فورتمبيرغ جنوب ألمانيا.. وفي الواقع أيضاً ثمة رواية للكاتب البريطاني "ألجرنون بلاكوود" عنوانها "الغابة السوداء" وهي واحدة من روايات الأجواء الكابوسية بين الأشجار، والرعب النفسي الممزوج بالماورائيات..

ومن بين العتبات والاشارات اللافتة، شُغل الكاتب على الحقيقي مع السيّرية  والغرائبية، إذ يكون الكاتب/ الراوي ابن "داريا" الحقيقي، داريا المدينة التي تشكل عتبة لسوريا الحرب وبعدها .. وهو الروائي الذي يعرّف معارفه الألمان على ذاته كروائي، ويشير إلى روايته الحقيقية "وصايا الغبار"، وإلى أمكنة وأزمنة وأحداث حقيقية تمر كتداعيات أو كمرجعيات في ثنايا الرواية. 

وكما يبدأ الكاتب عرفة روايته بإشارة "خطابية" تلخص ماذا يكتب ولماذا يكتب، وتكثف الحالة التي كان فيها داخل "المنفى" والحالة التي صار فيها كلاجئ في "المنفى" بسبب الحروب التي تمزق الأرواح.. يختم روايته بإشارة أيضاً تحت عنوان "البداية"، حيث يهبط من جديد في بلاده ويجوبها شرقاً وغرباً.. من ساحة العباسين إلى ساحة الأموين .. ومن ومن.. كل البلاد تحولت إلى انقاض وحرائق.. كل سكانها قد هاجروا أو هُجّروا.. حتى الغرباء الذين استباحوها قد اختفوا.. البلاد من فراغ وخواء.. بلا زمان ولامكان.. البلاد من عدم.

وبين الاشارة والبداية تتوزع الرواية على أحد عشر عنواناً:(صحوة عابرة من الغيبوبة، ليليان، بيتر، مارك، علياء، أندريا، كورينا، متاهة، صور ، مسرحية، عندما يهبط الظلام.)، تشكل في الرواية ما يشبه الفصول، يقود فيها الكاتب مازن عرفة شخوصه لنبش أو طرح أفكاراً ما، ضمن حوارات وأحداث ومشاهد ومشاهدات.. تتبادل فيها الشخوص والبطل الروي بمسارات سرد متنوعة ومتعددة ومتشابكة.. ولايعني أن مايندرج تحت عنوان اسم شخصية ما سيخصها وحدها فقط، بل قد يكون لأكثر من شخصية كما في عنوان"مارك" مثلاً.

شخوص ومسارات 

لا يستطيع الكاتب مازن عرفة، بتقنياته الفنية ولغته الجزلة الثرية وخبرته الروائية، أن يصيغ شخوصه، ويقودها ، ويقوّلها ما يريد أن يقول وحسب، بل يسخّرها أيضاً لفرد مسارات سردية تواكب حركتها في زمن الرواية وأحداثها، ومسارات تسعى لتحقيق فكرة ما، تبدو تلقائية أحياناً، لكنها تبدو "قصدية" ومفتعلة أحياناً أخرى. وثمة شخصيات رئيسية بمشاركتها النوعية في متن الرواية، مثل "ليليان"، وشخصيات رئيسية في كمية تواجدها في أحداث الرواية، مثل "مارك وزوجته ألفريدا"، وثمة شخصيات تغيب فجأة، مثل "بيتر" وأخرى يستحضرها الكاتب ويغيّبها بقرار، مثل "علياء"، وثمة شخصيات وظيفية، وشخصيات هامشية وثانوية مثل زوجات الأصدقاء وأولادهم ومعارفهم .. 

بطل الرواية الذي لا يحمل "اسماً"، المثقف الروائي المطلع والمتابع لمستجدات الحياة .. يصيغ ،الكاتب مازن عرفة، شخصيته في حالة نفسية مركبة، قد يحتاج القارئ لمحلل نفسي كي يدرك أبعادها، وقد تترك عنده تساؤلات حول حقيقية وجودها علمياً أو طبياً .. هذه الشخصية المشغولة بدقة، بعيداً كل البعد عن الشخصية "النموذجية" أوالايجابية أوالمميزة، تسعى إلى أن تفتح مساراً انسانياً وسياسياً واجتماعياً في آن.. وتتوزع إلى مسارات منفردة ضمن سير الأحداث والأفكار التي يريدها الكاتب؛ فتداعيات الحرب في سوريا، ومسبباتها السياسية ونتائجها الاجتماعية، أوصلت البطل إلى حالة نفسية "مرضية" يعكسها الكاتب ويسخرها في الرواية ضمن خط بياني تصاعدي مدروس، يعتمد على دوافع هذيانية أساسها "الصور"، ما يمنح لتتابعها في الرواية منطقاً خاصاً، فتبدو مقنعة ومدهشة تارة، ومملة وغريبة تارة أخرى.

ليليان: روائية ألمانية التقاها البطل في احد اجتماعات مساعدة اللاجئين على الاندماج، واهتمت به بشكل استثنائي كونه روائياً، وعرّفته على عائلتها، وعلى تاريخ مدينة "بفورتسهايم" ومعالمها وحياتها الاجتماعية والثقافية، وعلى جمعية "أدباء مدينة الذهب"، وعلى الغابة السوداء.. وساهمت معه بفتح مسار في الرواية عن الحرب العالمية الثانية، وفظائع الدمار والحرق والقتل والموت والاغتصاب.. مشكلة بذلك نقاط ارتكاز لعودة بطل الرواية إلى "داريا"، ولكن ضمن تعميم وتعتيم اشكالي، فهول وفظاعة ما ذكرته "ليليان" عن تدمير مدينتها بالكامل وقتل الملايين واغتصاب نحو مليوني امرأة ألمانية...الخ. قد يعمم تداعيات الحرب ويعتّم على استعادات الكاتب والقارئ لما حدث في سوريا.

بيتر: القاضي بيتر شخصية عابرة يفصّل من خلالها الكاتب وصفه لنموذج "كاركتر" ألماني بلبسه وعاداته وبخله وسلوكه وعمله وهواياته الموسيقية.. واهتماماته وزوجته بالثقافات الافريقية.. وعلاقته بالأمور الدينية والسياسية وبجمعيات مساعدة المهاجرين.. ويتحدث الكاتب/البطل من خلال علاقته بهذه الشخصية عن انطباعاته عن الحياة في ألمانيا ضمن مسارات سردية متنوعة.. وفجأة تنتهي العلاقة: ((ينقطع عني بيتر.. ظهر واختفى، مثل شبح مكلّف من قوى تراقبني، ربما لتتأكد من أني مسالم، ولست "إرهابياً )).

مارك: العلاقة مع مارك مختلفة، والشخصية مختلفة أيضاً، وإن كانت حقيقية أو مركبة، أو من صنع تخيلات الكاتب، فهي شخصية انتقائية بذاتها من جهة، وبما تفتحه من مسارات متشابكة من جهة ثانية، فمارك الذي اندلقت على رقبته وباقي جسده مادة الكلور اثناء عمله في مختبر للمواد الكيميائية، تم انقاذه بأعجوبة، وأجروا له ثمان وعشرين عملية جراحية، اقتطعوا فيها الكثير من اللحم الميت من جسده، ورتق مكانها بقطع من جلد ظهره، وضمر فوصل وزنه إلى اثنين وأربعين كيلو غراماً فقط، وابتعد عنه الجميع.. في حين تحولت قساوة والده، الذي كان يعمل جامعاً للجثث في معسكرات الاعتقال عند الجيش الروسي، إلى نبع حنان رائع، واهتم بابنه بقية حياته. ورغم أن مارك كما يصفه الكاتب يشبه كائناً فضائياً بجلد حرباءة، إلا أنه يمتلك قدرات جنسية عالية مكنته من الزواج من امرأة تدعى "ألفريدا" شبقة وقوية ومتسلطة.. عملت في شبابها مزارعة لمدة أربع سنوات في مستوطنة "اسرائيلية". 

من خلال شخصية مارك وزوجته ألفريدا، استطاع الكاتب أن يفرد مسارات سردية متعددة ومتنوعة، كالمسار الديني الذي تجلى في ايمان مارك بأن المسيح مخلّص ووهبه حياة جديدة، وقيامه بنشر هذه القناعات، وانتمائه الى مجموعة "الكنائس الانجيلية المستقلة"، كما تجلى في ايمان زوجته وتعصّبها وسعيها الدؤوب للتبشير.. ويتشعب هذا المسار إلى دور الكنائس السياسي والاجتماعي، وأنواعها كالكنائس المسيحية-اليهودية، والطقوس الدينية الغريبة، والدينية الجنسية الهستيرية.. وصولاً إلى اعتناق المهاجرين الاسلام المسيحية للحصول على الاقامة في ألمانية.. واضافة لهذه المسار يعود الكاتب للحرب العالمية الثانية، ويواكب انتشار مرض "الكورونا"، ويتطرق إلى تفاصيل في الحياة الألمانية كالبيروقراطية القاتلة، وانتزاع الأطفال من عائلاتهم، ودور الاحزاب السياسية، والدفاع عن البيئة.. ونظرة الألمان إلى المهاجرين وتعصبهم للغتهم.. وجنوح بعض المراهقين نحو الاباحية والمثلية، والادمان، والتحوّل الجنسي...الخ. ويفصّل في تلك المسارات وبشخصيات إضافية من أولاد وبنات الشخصيات الرئيسية وأصدقائهم، ما قد يمنح لهذا الفصل أن يكون رواية ألمانية بحتة، متكاملة العناصر.

علياء: لتعزيز المسار الديني والاحاطة المنطقية بوجوده كمسلم في ألمانيا، يصيغ الكاتب شخصية علياء، وهي امرأة سورية مسلمة محافظة، كانت تدرّس في الجامعة، ولجأت إلى ألمانيا عام (2015) مع أولادها الذين شاركوا في الانتفاضة.. ولا يعرف بطل الرواية متى التقى بها ومن أين حصلت على رقم هاتفه.. والمبرر جاهز(ذاكرته المشوشة)، والهدف الأساسي هو عرض الجانب الديني في شخصيتها: كعدم السلام باليد، والصلاة في وقتها، واتجاه القبلة، وغطاء الرأس، والحلال والحرام، والذبح على الطريقة الاسلامية، ولحم الخنزير، والسباحة بالثياب الشرعية، وتجمعها مع العرب في محيط مغلق، ونظرتها الرافضة للمجتمع الألماني المتحرر، والقابلة باحتضان دولته للمهاجرين وتأمين فرص عمل وحياة آمنة لهم .. 

ولتكتمل المقاربات تأتي زوجة مارك المتعصبة لمسيحيتها الى بيت بطل الرواية دون موعد أو إذن مسبقين، وترمي على الطاولة كتاب "كيف خرجت من الاسلام إلى نور يسوع المسيح"، ومن بداية التعارف بقول علياء انها سورية من قرية على الحدود مع فلسطين، ورد ألفريدا بأنه ليس هناك فلسطين بل "اسرائيل".. يحدث التنافر بينهم، وينتهي بتمزيق علياء وابنها للكتاب، وصراخ ألفريدا الهستيري)): لماذا انتما هنا في ألمانيا؟ لماذا قدمتما إلينا؟)).

أندريا: روائية في الخمسين من عمرها، وجهها ناعم خال من التجاعيد، الابتسامة لا تفارقها، كأن ذلك بسبب دهشة الروائية بداخلها، أو ربما بسبب دهشتها من "شرقية" بطلنا الذي التقاها في أحد اجتماعات جمعية "أدباء مدينة الذهب"، وأبدت اعجابها الشديد بسحر ألف ليلة وليلة، ومصباح علاء الدين، والسندباد البحري.. كما وتضمن الاجتماع أيضاً أسئلة تلقاها عن موقف الاسلام من المثليين، وتعاون العرب مع النازيين، ودعم بوتين للنظام في سوريا، وتنظيم داعش، وأسئلة شخصية عن أي الروايات التي يفضل ...الخ.

وإضافة لتعرف البطل على شخصيات جديدة، يركز هذا الفصل على علاقة الألمان بالقطط والكلاب، وعلى العلاقات الجنسية الإباحية، ومحاولة أندريا ممارسة الجنس معه في الشارع رغم أنها متزوجة، وممارسته هو للجنس الافتراض " الالكتروني" مع صديقته "سهير" المتزوجة أيضاً. 

 كورينا: الروائية كورينا في الأربعين من عمرها، التقاها البطل مع أندريا في "جمعية أدباء مدينة الذهب"، وكانت تضع على ثيابها وحقيبتها شعارات "المثليين"، مما جعله يعتقد إنها سحاقية، لكنها فاجأته حين أكدت له، في شقته، أنها لاجنسية: ((هكذا ولدتُ بيولوجياً، من دون رغبة بالجنس، لا مع الرجال، ولا مع النساء. يوجد الكثير من أمثالي بين أفراد المجتمع)). ورغم ذلك أصر على مداعبتها، معتقداً أنه سيدخلها على عالم الأنوثة، مما أدى إلى ارتجاف جسدها وبكائها بشدة وخروجها مسرعة من البيت.. وبين وهم وحقيقة ماحدث، اتصلت به أندريا في صباح اليوم التالي ووبخته وهددته بتقديم شكوى ضده إلى الشرطة لمحاولته الاعتداء على "العالم البلّوري لمواطنة ألمانية"..

ورغم أن هذا الفصل يتابع المسارات الاجتماعية عامة والجنسية خاصة، لكنه يشكل نقطة تحول مركزية في الرواية، فهذه الحادثة تنقل الكاتب/الراوي إلى عالمه الهذياني، وخروجه من الزمن الوقائعي إلى الزمن التخييلي الهلامي، ومن لغة الحوار مع الآخر الى هذيانات ذاتية بصور ومجازات واستعارات.. تحاول أن تقترب أحياناً من الواقعية السحرية، لكنها في أغلب الأحيان هذيانات وهلوسات غرائبية متكررة ومملة، دوافعها الوحدة والوحشة والفراغ والصمت.. 

هلوسة بالصور 

عنوان "صحوة عابرة من الغيبوبة" يشي بأن ثمة غيبوبة مستمرة وما سيقوم به "الخارج من المنتج الطبي" لا يمكن رصده أوضبطه، فهو لا يعرف متى خرج، ويخفق في تذكر قديمه وحتى جديده.. يحاول أن يملأ كل الفراغ في غرفته بالصور.. صور تهزي بصور جديدة، ومن مكوناتها تنبلج صور أخرى، صور تشكل تداعيات لهلوسات عن الطبيعة، وعن الحياة وعن الأمكنة، وصور تعيد التداعي لشخوص وجثث وموت وحرق ودمار.. وصور بالرسم وصور بالكلمات وصور بتخيلات.. وصدى صور من الواقع، وملامح متداخلة لصور من الوهم والهذيان.. "يطغى الأحمر الدموي على إحدى اللوحات.. وجوه كابوسية مشوهة، بعيون واسعة جاحظة.. وفي لوحة ثانية، تهطل أقمار شاحبة تتكدس فوق ما يشبه جثة..."، وهكذا من بداية الرواية، تكون الهلوسات في غرفته ومع صوره، ويمارس حياته الطبيعية ويلتقي بأصدقائها ومعارفه، حتى حصول حادثة تحرشه الجنسي بالروائية "كورينا"، تأخذ هذياناته منحاً تصاعدياً مغايراً، يستمر من صفحة (86) إلى نهاية الرواية، تمر خلالها "داريا" وإشارات عن الحرب السورية /السورية مروراً عابراً.

وهكذا، يبدأ هذيانه بصور أو برؤية أو بتداع مع ذاته في زمن تخييلي.. ويقطعه بالاستيقاظ من نومه أو غفلته أو غيبوبته، أو بالعودة إلى الزمن الوقائعي بحوار مع الآخر عبر الهاتف المحمول مثلاً، ويعاود الهذيان في الزمن الوقائي نفسه، وبما حول من الأشياء التي يراها، كالناس والألعاب النارية، بل ويجعل الشخصيات الحقيقية تهذي معه أيضاً، كما يقول له مارك مثلاً: (( أنا من كائنات كوكب آخر.. أنت الوحيد الذي يستطيع رؤية جلدي الحقيقي؛ جلد الحرباء))، وقد يشارك الشخوص الحقيقيون معه في حدث هذياني ما في مكان حقيقي، كسقوط برميل متفجر على جسر المدينة الذي يقف عليه كل من عرفهم.. ومن ثم انهيار الجسر وسقوطه هو وحده.. ولا تخلو الهلوسات من مشاهد وعبارات جنسية واضحة، ومن متابعة لتفاصيل حياتية اجتماعية وسياسية ودينية.. تمتد من الحرب العالمية الثانية حتى الحرب الروسية على أوكرانيا.

تحت عنوان "المتاهة" وصف هذياني للأمكنة الحقيقية والوهمية،  في ظل صمت حجري مطبق وفراغ مريب.. تتخلله مشهديات واقعية، كالاستحمام وشرب الشاي، والذهاب الى السوق.. وامرأة حقيقية تقف على شرفتها بين الزنابق.. وتكون المتاهة في السير بين الأمكنة والابنية والشوارع التي يصفها بدقة متناهية.. مؤكداً بمبالغة غرائبية على عزلته ووحدته وفراغ كل هذه الأمكنة من سكانها.

وتحت عنوان "صور"، يستيقظ من كابوسه وينتزع منه جثته، ويكمل هذياناته بالصور.. جدار أول وثان وثالث.. صورة أولى يسير في شارع عريض مرصوف.. وثانية على رمال شاطئ مشمس.. وفي أخرى منصة عسكرية.. ومن ثم طائرات تغير وتقصف.. يهرب الى صور جديدة يتجول بين أنقاض المدينة.. ويذهب مع آخرين الى صور ملونة للتمتع بالسباحة بثياب مغرية.. وهكذا تتالى الهذيانات متشابكة متباينة مجنونة.. لأمكنة وأناس ومخلوقات وكائنات بصور غرائبية: ((..تغطس قدماي في مستنقع مليء بالطحالب والأشنيات أغتسل تحت مطر غزير تواجهني في الفسحات كائنات عملاقة تنانين ديناصورات، أفاع، تماسيح، سحليات جميعها تنهش بعضها بعضا)).

يتابع بطل الرواية هذيانات تحت عنوان "مسرحية"، لكن هذه المرة بمشاركة مارك وزوجته ألفريدا، وتدور الهذياتات حول المسرحية ومرض كورونا والأموات منها، والمراهقين والجنس، والقتل والدمار.. ورغم أن الكاتب يضع عنواناً آخراً "لفصل" جديد وهو "عندما يهبط الظلام" لكنها حالة هذيانية واحدة يفصل بينها عودة مؤقتة للزمن الوقائعي، ليعود من جديد مع ألفريدا إلى الطريق من المسرح إلى البيت كي يجلب شهادة التطعيم الخاصة بمرض الكورونا.. وفي أجواء تفوق تخيلات القارئ وتطفو فوق منطق التأويل.. يتابع هذايانات وهلوسات لا تفصل بين الواقعي والخيالي، والأزمنة والأمكنة.. عوالم متباينة كأشرطة سينمائية تعرض أموات يمشون في أفلام الرعب.. وأشخاص يسيرون بسياراتهم تحت الماء ويتحولون إلى أسماك وأحصنة.. وتداخلات وتحولات لعوالم وشخوص تفوق أفلام الخيال العلمي.. وكل هذا يأتي بشكل تصاعدي، اشتغل عليه الكاتب من بداية الرواية، حيث أنه حاول وضع القارئ في زاوية رؤية خاصة لشخصية بطله وحالته النفسية والصحية التي تؤهله لفعل ما يشاء و" أنىّ" يشاء، وقول وتذكر ونسيان ما يريد، داعماً ذلك بلغة جزلة وتوالد هذياني مدروس ليحاول مساعدة القارئ، على تتبع مسارات الرواية السردية حتى النهاية، أكان من خلال تكرار اسماء لأماكن بعينها، أو لشخوص مارقة، مثل امرأة الزنابق، وايفونا، والفتاة القطة، وغيرها... أو استعادة صور لأمكنة أو أسماء حقيقية كمحاولة لتشيكل نقاط ارتكاز للعودة من الضياع.. لكنه في المحصلة يعيد سؤال الجدوى عامة، "ماذا يريد؟"، ويُربك ويرتبك مع المنطق العام للنص، بفنتازيا لغوية، أن صح التعبير، قد تصبح مفرداتها وجملها خارج المنطق التأويلي أو المجازي أو الاصطلاحي لمعانيها..

خاتمة أو تقاطعات 

ربما هي خاتمة وتقاطعات في آن.. وما تجدر الاشارة له أولاً، أن الكاتب يتملك لغة بليغة وجزلة ورشيقة.. وقدرة عالية على الوصف والسرد.. ومع عدم اهتمامه ببناء الرواية وزمنها، لكنه ينوّع بالسرد، ويحيط بشكل متكامل بمشهدية المكان وبصياغة الشخصيات وموضوعيتها، فلم يمنح لبطله أي "أنموذجية".. بطله يكذب ويتهرب من الواجبات، مسلم ويشرب البيرة ويأكل لحم الخنزير، لا يجيد الالمانية رغم أنه يفهم بالتخاطر السمعي الذي يعتبره لغة رابعة، يشاهد الافلام الاباحية، ويتحرش جنسياً، ويمارس الجنس الافتراض..

ومن التقاطعات اللافتة اشتراك الروائي مازن عرفة مع روائيين سوريين في تناولهم للحرب السورية واللجوء والنظرة للمجتمع الألماني.. فالمقارنة بين ماحدث في الحرب العالمية الثانية مع ماحدث في سوريا، أو بين برلين وحلب.. يضع القارئ بين التعميم والتعتيم.. فما ذكرته "ليليان" عن مدينتها، في رواية الغابة السوداء، من فظائع دمار، ومجازر وموت وحرق واغتصاب.. أكبر بكثير، وبكثير، مما ذكره الكاتب مازن عرفة عن "داريا" وعن تداعيات الحرب في سوريا.

والتقاطعات الاجتماعية اللافتة، إضافة لتناول الروائيين لعلاقة الشعب الألماني بالقطط والكلاب، والبيروقراطية، وغيرها.. أن عدة روايات بطلها العربي" الشرقي" يمارس الجنس مع امرأة ألمانية متزوجة، واعتقد أن الخيانة الزوجية قلما تحدث عند الأوروبيين، فالمرأة تختار زوجها بعد ممارستها الجنس بشكل طبيعي قبل الزواج، وتمتلك الحرية والقدرة للانفصال عن زوجها متى تريد.

ومن التقاطعات أيضاً، المبالغة في نظرة الألمان للعربي، وكأن العرب وحدهم يمثلون الشرق، وكأنه الرجل العربي هو الشرقي الذكوري الأول الذي يأتي إلى ألمانيا.. وفي الغابة السوداء، يكون الدافع لمحاولة" أندريا" ممارسة الجنس مع بطل الرواية وخيانة زوجها، هو انبهارها بغرائبيته وبسحر ألف ليلة وليلة، وشهرزاد، والسندباد البحري.. وتعميم ذلك على كل المعجبات به في الرواية، أكان ذلك في الحوارات الحقيقية مع الآخر، أو في هذيانات البطل الشرقي: (( تقول ألفريدا "آهٍ، خذني بقوة يا صديقنا الشرقي، المختزن شمس الشرق الحامية. دعني أصل إلى نشوة لم أختبرها في حياتي، اجعلني أصرخ بجنون)).

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم