اركضي أو قفي الآن.. أيتها الخيل:

لست المغيرات صبحًا

ولا العاديات كما قيل ضبحًا

ولاخضرة في طريقك تمحي

ولاطفل أضحي

إذا مامررت به... يتنحي 

على خلفية كلمات أمل دنقل، وقصيدة "الخيول" كنت أقرأ رواية "مقامرة على شرف الليدي" واستحضرها مع كل وصفٍ دقيق يصف به عالم الخيول والسباقات التي كانت تدور في قاهرة العشرينيات من القرن الماضي، ينتقل بنا الروائي المصري "أحمد المرسي" في روايته عبر الزمان والأماكن ليحكي لنا تفاصيل ما دار بين أبطال روايته في ذلك الزمان، ويناقش من خلال الحكاية التاريخية المحكمة عددًا من الأفكار التي تؤرق الناس طوال الوقت، مثل الأحلام والأمنيات وكيف يسعى المرء لتحقيقها، لاسيما في وقت كانت الرهانات على تلك الخيول من الممكن أن تغيّر الأحوال فعلاً، ولكن يبدو أن للزمن وطأته التي لا يتخلص منها أحد، سواء كان غنيِ موسر أو فقير مسكين! 

البناء المحكم والتنقل بين الشخصيات

لعل أول ما يلفت القارئ في الرواية هو ذلك البناء المحكم منذ السطور الأولى، حيث تبدأ الرواية بمشهد وفاة "فوزان الطحاوي" الذي لا يعرف كيف حدث ولا لماذا كان ينتظرها الشيخ "غالب" لسنوات، وكأن ذلك كله تمهيد للحكاية، وهو يقدم ذلك الفصل بعنوان "عتبة"، من هنا ثم من الصورة التي يتركها فوزان كأثرٍ باقٍ للحكاية كلها ندخل إلى عالم الحكاية المتشابك الغريب، وخلال أربع فصول قصيرة متتالية نتعرّف على أطراف من حكايات أبطال الرواية بدءًا بسليم حقي الذي نعرف أنه ضابط السواري الذي ترك وظيفته ويعاني من مرض زوجته التي يحبها "عايدة" ويسعى لنجاتها بكل الطرق، ثم مرعي المصري الذي يجيد اللعب بالرهانات على الخيول وتربطه علاقة وطيدة بأصحابها، وأخيرًا الليدي "ميتسي" السيدة الإنجليزية التي يأتي التعريف بها وبعالمها في الفصل الثالث، بعد أن نكون قد عرفنا طبيعة الرواية وعلاقات الشخصيات ببعضها، تأتي الليدي كأنها حبل النجاة أو وسيلة خلاص هؤلاء المقيدين بأحلامٍ لا تتحقق، وآمالٍ لا تجد لها طريقًا للتنفيذ، ليفاجئ الثلاثة (يحضر فوزان معهم) أنه حتى السيدة الغنية صاحبة القصر التي تمتلك الخيل وتراهن بها في السباقات تحلم بعودة ابنها الغائب، رغم يقينها أن الميت لا يعود! 

يتكشف للقارئ عالم كل شخصيات الرواية من خلال لحظة ضعفٍ خاصة يمرون بها، ويبدون على السواء رغم اختلاف طريقتهم وأسلوبهم في التعبير عن حالهم وضعفهم، بل ومحاولاتهم المستمرة للتغلب والتجاوز، ويختار الكاتب بعناية تلك اللحظات واللقطات المؤثرة والمهمة التي تعرفنا بشكل كامل وسريع في الوقت نفسه عن طبيعة كل شخصية، إما من خلال الموقف الذي تعيشه الأسرة مثل ما يدور بين عايدة وسليم حقي، أو من خلال السجالات الحادة التي تصل للتشابك بالأيدي الذي نراه بين مرعي والذين معه، أو ينشأ هادئًا وبسيطًا وفقًا لنفسية طفل لازال يستكشف العالم من حوله مثلما نراه عند فوزان سواء في البداية عند جزيرة الخيول أو بعد انتقاله لعالم القاهرة المبهر والمتشابك وتورطه فجأة بين أفراده. 

من جهة أخرى استعان الكاتب بالغوص في عالم تلك الفترة الزمنية التي اختارها بعناية لينقل لنا القاهرة في عشرينياتها، كيف كانت تعامل الناس فيها بين سادةٍ وإنجليز وعبيد، وتلك الفوارق الطبقية الحادة وما تصنعه في نفوس أبنائها من صراعات، بل واستفاد بشكل واضح من استخدام الحوار باللهجة العامية لينقل القارئ مباشرة وبشكل واضح إلى ذلك العالم الذي تتميز فيه طريقة الحديث بين الأفندية والبسطاء، بل وانتقل ببساطة بين تلك العامية الواضحة وبين الفصحى التي يتحدث بها "الخواجات" في ذلك الوقت لكي يضع القارئ في المشهد بالكامل، بل حتى عندما أتى بسايس سوداني كان حريصًا أن تكون لهجته وطريقة كلامه معبرة عنه، بل وعن عالم الخيول الذي ينتمي إليه. 

 ((بعض الأشياء مقدسة؛ لأنه مرَّ عليها الوقت ليس أكثر، نحن لا نولد بأحلامنا، ولكننا نخلقها، ونضيفها إلى ذواتنا، كأنها أجنحة تجعلنا نطير، لكن. من قال إنه لو قُصَّت هذه الأجنحة سنموت؟ ربما استطعنا وقتها أن نرى ما ينتظرنا فوق الأرض .. صعبة هي الحياة، ومؤلمة، إنها لا تعطينا ما نريده أبدًا، على الأقل لا تعطينا كل ما نريده، ولكن هو الآن يفهم حقيقتها، إن هناك ألمًا لن يزول، ولكن هناك معنى وحيد للحياة يعرفه الآن، وهو تحمُّل المضي عبر الأيام مع الألم)) 

تحمل الرواية في طياتها وبين حكايات أبطالها عددًا من الأفكار التي لاشك تدور في نفس كل قارئ، وتتجاوز فكرة الزمان والمكان لكي تناقش فكرة الآمال والأحلام التي يصعب تحقيقها، بل ومفاهيم كالحب والخيانة والوفاء والصداقة، كيف يمكن لمن ضاعت أحلامه أن يحتفظ بقدرٍ يسير من الحكمة في النهاية تمنعه من التورط في مشكلة أو مصيبة تنهي أيامه بشكل لا يرضاه! 

 ورغم أن أبطال الرواية يدورون حول أحلامهم ولا يحققونها، ويراهنون ـــ كالخيل ـــ على سباقٍ قد يكسب وقد يخسر إلا أنهم في النهاية يتمكنون من تجاوز كل تلك الآلام، وتمنحهم الحياة، رغم الألم والقسوة، فرصة أخرى لمواصلة الطريق، حتى ولو لم يكونوا راغبين فيه تمامًا. 

 استطاع الكاتب أن يعبّر عن شخصيات رواياته على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وأفكارهم، سواء كانوا شخصيات رئيسة في الرواية أو ثانوية، كما استطاع أن يعبر بشكل كامل عن بيئة ذلك الزمن وعالم سباق الخيل والرهانات وما كان يدور في في ذلك الزمن من صراعات ومؤامرات، وأن يقدم للقارئ صورة حية واقعية لذلك الزمن بأسلوب سردي محكم ومشوّق، والرواية إن لم تكن تعتمد على التشويق أساسًا لها إلا أن الكاتب استطاع من خلال رصد التوترات والانتقالات بين أبطال الرواية أن يجعل القارئ شغوفًا بمواصلة قراءة العمل، حريصًا على معرفة ما سيحدث لأبطال الرواية حتى السطر الأخير، والذي يصور فيه الكاتب ذلك المشهد الذي افتتح به روايته، ولكنه يقدم تأويلاً آخر لمشهد وفاة رجلٍ يبدو بسيطًا. 

رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" هي الرواية الثالثة للكاتب أحمد المرسي، كتب قبلها روايتين، حصلت الأولى "ما تبقى من الشمس" على المركز الثاني في جائزة ساويرس للأدباء عام 2021، ووصلت روايته هذه إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية هذا العام 2024. 


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم