0. تحديد المنطلق

 نجري في هذه الورقة مجرى القارئ الذي لا ينضبط لأي منهج قد يغريه بمفاهيمه وخلفيته الفكرية فيبعده عن المقروء، وتكون النتيجة الإسقاط الذي يعدم حياة النص ويقذف به جثة في مقبرة الإحصائيات والجداول، وما نحن على ذلك بقادرين. ولهذا أعلنا في العنوان تسمية قراءتنا بالحاشية، كما عهدناها مساحة داخل الكتاب ندون فيها الأفكار التي يثمرها نشاط القراءة بدون سابق تخطيط واتباع منهج، وأقصد بالحاشية لغة ما جاء في اللسان** لابن منظور : حاشيتا الثوب : جانباه اللذان لا هُدْبَ فيهما، فالثوب نسيج والنسيج والنص يتداخلان ويتشابهان إنتاجا واستعمالا. وعليه فقراءتنا تتوخى أن تلتقط ما انفلت من مركز النص الروائي إلى حاشيته بما هي فضاء القراءة المبدعة . وبهذا يكون ميثاقنا مع قارئ هذه الورقة شرطا ملزما للطرفين ( القارئ للرواية، والقارئ للحاشية ) .

أولا : من العتبات إلى المتن الحكائي

1. مساءلة العتبات

1.1.  تفكيك العنوان :

إذا كانت اللغة في المنطق الرياضي هي دالة الفكر***، فإن العنوان في الأدب هو دالة العمل الأدبي الموسوم به .

في الأدب اللغة غاية في ذاتها لا وسيلة، وهنا تكمن جماليتها، فالعنوان الذي اختاره الروائي خالد أخازي**** لروايته : هاتف السيدة نجوى، لا يمكن لقارئ حصيف، خَبِر لعبة  الكتابة والقراءة الروائيتين وجدليتهما، أن يمر عليه مرور البداهة، ذلك أنه لابد من مساءلة العتبة الأولى والحذر منها *****، وإذا حق لنا أن نسائل العنوان ونفككه، فسنصل، دلاليا، إلى النتائج الآتية : هاتف / تلفون : الهاتف في اللغة يعني الصوت القادم من بعيد، إذ مادة [ه.ت.ف] في اللسان تجمع بين القوة والجفاء وبين المرونة والحنان، وهذا التضارب الدلالي، قد يكون له الأثر في إذكاء الصراع بين  الشخصيات الروائية من حيث المواقف والانتماء. وهوما ستبرزه هذه الورقة / الحاشية لاحقا، أما الكلمة الثانية: السيدة، فلها الإحالة على معنيين متضاربين في مادة [ س.و.د] بلسان العرب، حيث تعني الغلبة والعظمة، كما تعني القهر والغمر، وفي هذا ما يزكي الافتراض السابق حول دلالة الهاتف القائمة على التضاد، وهو التضاد الذي يساهم في نمو أحداث الرواية ويذيق القارئ لذة التشويق، وبالنسبة للكلمة الثالثة : نجوى: اسم علم  يدل على النجاة من الخطر ، كما يعني الحديث السري بين اثنين، وفي التنزيل الحكيم، ورد بمعنين متضاربين : معنى الشر والوسوسة / الإحالة على الشيطان ( إنما النجوى من الشيطان ) المجادلة، الآية العاشرة، ومعنى الخير والرقابة الإلهيين/ الإحالة على الرقابة الإلهية ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ) المجادلة، الآية السابعة . وبهذا  قد يكون لشخصية الرواية الوارد اسمها ( نجوى ) في العنوان نصيب من الوسوسة الشيطانية/  والمتع الدنيوية، كما لها مطمح السكينة في حضرة الرقابة الإلاهية .

2.1 استنتاج مؤقت لابد منه : للعنوان بما هو نواة النص ودالته دلالات الصراع والتضارب، كما هو بارز من خلال تفكيك مفرداته، فهل ستنبت هذه البذرة  الصراع والتضارب بين الأصوات، أم أن العنوان سيكون مخيبا لأفق القارئ ؟

3.1 عتبة البين - بين :

بين العنوان والمتن الروائي  يقيم الكاتب عتبة تجمع الداخل النصي / بخارجه / الغلاف دون أن تطمئن القارئ بميثاق قراءة واضح، مثلما ما هو معهود في الأعمال الروائية الكلاسيكية، بل يزرع الكاتب في نصين مصاحبين للمتن الروائي وسابقين له، بذور الارتياب والتنكر بصفتهما آليتين  من آليات الكتابة الروائية الحديثة، العتبة الأولى : استهلال شعري يحيل على شعرية غنائية تنتصر للذات الشاعرة دون سواها، استهلال يختار من شعر المتنبي ما له دلالة الدربة والدراية بعوالم الكتابة بلغة الضاد. وبعد هذا الاستهلال الشعري المريب، ينقلنا الكاتب  إلى العتبة الثانية : عتبة التنكر من صفة امتلاك النص بما هو كاتبه ويسلمه لراو يعلن عن رهاناته من الحكي، كما يجعله تارة شيخا حكيما وأخرى من الطبقة الكادحة / الإسكافي .

وإذا كانت العتبات قد رسخت من خلال ما سبق، دلالات الشك والارتياب واللايقين، فماذا عن المتن الحكائي لرواية هاتف السيدة نجوى ؟!

ثانيا: المتن الحكائي

1. القوى الفاعلة في رواية هاتف السيدة نجوى وعوالمها الحكائية:

إن السيدة نجوى في الحكاية شخصية فاعلة في ثلاثة عوالم يطبعها التمزق بين الارتياب واليقين، وهو التمزق الذي يسهم في نمو الحكاية، ويدفع بأحداثها نحو التوتر . عالم نجوى الأول هوعالم الذات / الفرد، السيدة الصحافية التي اختارت  ألا تحتفل بعيد ميلادها الستين، واكتفت بالترقب المخيف، ترقب يثير الأسئلة الوجودية، يجعل غاية الحياة القصوى تتجسد في الموت : الموت بما هو قطع الصلة بكل ما هو خارجي والانكفاء على الذات استعدادا لمرحلة زمنية غامضة مجهولة، مرحلة ما بعد الستين، ما بعد العطاء، ما بعد العمل . وفي هذا العالم الذاتي تنقلنا السيدة نجوى تارة بلطف النوستالجيا والحنين للماضي إلى عالم ثان خارج الذات الفاعلة فيه، وتارة بصرامة النقد وحصافة الرؤية لسيدة خبرت دروب الثقافة، من خلال تملكها لآليات السلطة الرابعة ( الصحافة) . وهذا العالم هوعالم العمل، العالم الذي تشرِّح فيه السيدة نجوى منطق العلاقات الاجتماعية الرابطة بين العاملين بالصحافة، مقارنة بين زمن ثقافي مثمر مضى، وآخر موصوم بالتفاهة والتنازل عن دور الصحافة التنويري لصالح المال والجنس والمصالح الشخصية في الحاضر  . من داخل العالم الأول الذي تشظت فيه الذات ، وهي تكابد  ثقل أسئلة الانتقال إلى ضفة زمن مباعد الستين، راغبة في النجاة من مخالب زمن الشيخوخة،  استطاعت شخصية نجوى أن تنظر نظرة ناقدة إلى زمن سابق لزمن الشيخوخة وهوزمن الكهولة والعطاء بصفحة الثقافة التي تحولت إلى صفحة التفاهة قبل أن تتقاعد . وبين العالمين ، ينتصب عالم العلاقات الاجتماعية الذي تتوزعه أربع قوى  فاعلة : القوة الفاعلة الأولى : الزوج عدنان، الأستاذ الجامعي المناضل الذي غاب عن ليل نجوى النقي ليرتمي في ليالي الخيانة الملوثة، غياب الشعور بالندم وإدمان شرب الخمر والعودة المتأخرة ليلا مع البوح لابنته صفاء، غياب ينتهي على مستوى عالم عدنان الخارجي بحادثة سير تلزمه الفراش مشلولا، فيحاول في عالمه الداخلي، البيت، أن يرأب الصدع بينه وبين زوجته نجوى بعدما أصبح لكل واحد منهما سرير نومه الفردي، غياب يتوج برسائل الاعتراف بعد وفاته، التي كشفت عن حقيقة زواج ساد فيه الالتزام وغاب الحب عنه، بفعل تفاني كل زوج في أداء واجباته في مؤسسة العمل وإهمال مؤسسة الزواج . وبخصوص القوة الفاعلة الثانية  :  ثمرة الزواج، إنها بنت السيدة نجوى وعدنان، المسماة صفاء، فهي من جهة حارسة سر الأب الذي باح لها بخيانته لأمها رغم قسوة البوح عليها، ومن جهة أخرى مصدر شك وارتياب لنجوى، الأم الضحية ( ضحية اغتصاب وزنا المحارم )، الأم التي تخشى أن تكون ابنتها هي الأخرى ضحية والد يشاركها الفراش بعدما اعتزل فراش الزوجية . إن عالم صفاء، في الرواية، هوعالم الانتقال من الشابة المغربية المؤمنة بقيم الانفتاح والحداثة المطلقة، وهي في بلدها، إلى الزوجة المسلمة المنفتحة على الآخر ( الزوج الفرنسي المسيحي الذي أقنعته باعتناق الإسلام والتخلي عن شرب الخمر  ) في حدود الحفاظ على هويتها المغربية المسلمة، وهذا الاعتدال هوما ساهم في الحد من تشظي الذات لدى الأم واجتثاثها من عالم الوسوسة وشيطان الشك نحو عالم اليقين والطمأنينة نسبيا بعد وفاة الزوج . أما القوة الفاعلة الثالثة التي شكلت سندا ودعما لشخصية نجوى في محنتها بين الشك واليقين، بين الموت ( موت التقاعد ) والحياة ( معانقة الحياة من جديد )، هي زميلة العمل الصحافية، والصديقة سلوى التي تميزت بالشجاعة والانتصار للحقوق النسوية إلى حد التطرف، وهذا ما تجلى في حوارها المتشنج مع صفاء لما عادت بزوج أجنبي مسلم من فرنسا . إن سلوى هي من ساعدت نجوى على تقبل صدمة الحادث الذي ترتب عنه شلل زوجها عدنان، وهي التي ساهمت في تقوية عضد نجوى خلال قراءة رسائل الاعتراف التي تركها زوجها، كما أنها كانت رفيقة نجوى في التصالح مع الماضي والعودة إلى قريتها الأطلسية (تغسالين)، التي غادرتها( نجوى) طفلة صغيرة بعدما تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل زوج أمها الملقب ب" العجل " . ورغم تمسكها بقيم الحداثة المطلقة وسلوك المدينة، استطاعت سلوى أن تستقر في الهامش بعدما أحبت ابن خال سلوى الطالب المُجاز، الذي أصيب بالرهاب الاجتماعي. وبالنسبة للقوة الفاعلة الرابعة، والرئيسية التي صاحبت نجوى، منذ أن كانت طفلة إلى أن تصالحت مع الماضي ، فتتجسد في الهاتف :  المنقذ لنجوى من الاغتصاب طفلة، ومن مخالب العزلة وهي زوجة توشك أن تدخل سن الشيخوخة من بابه القاتل . الهاتف الذي صاحبته وصاحبها، شاهدا على ذكرى اغتصاب كانت سببا في نزوح نجوى من الهامش  إلى المركز طالبة ثم صحافية لها هبة السلطة الرابعة، وهوما جعلها تتمسك به في الداخل كصوت صرخة الأعماق، وفي الخارج، مكونا من مكونات أثاث منزلها .

2. على سبيل الاستنتاج:

وإذا كان يحق لنا أن نستعير من جيل دولوز الشخصية المفهومية****** بماهي شخصية روائية تمثل مفهوما مجردا، فإنه يمكننا تصنيف القوى الفاعلة برواية هاتف السيدة نجوى إلى أربعة مفاهيم : السيدة نجوى تمثل مفهوم المثقف المتصالح مع الماضي، في حين يجسد الزوج مفهوم المثقف المزيف، أما صفاء فهي ترمز لمفهوم الهوية المرنة ضد الهوية القاتلة، في حين تجسد سلوى الصبر بما هو صمام أمان العلاقات الإنسانية من الصدمات الانفعالية، أما الهاتف  فيمثل مفهوم الصوت المكتوم بما هو كبت للاحتجاج خوفا من سلطة الطابو ( زنا المحارم) . وإذا نظرنا إلى هذه التصنيفات للقوى الفاعلة في رواية هاتف السيدة نجوى بتمعن نستنج أن استراتيجية العنونة كانت ناجحة لدى الكاتب، وأن العتبات الأخرى مهدت فعلا لصراع جعل كل شخصية تحتمي بعالمها إلى حين لحظة الانفراج والتصالح مع الذات ومع الآخر .

3. الزمن والمكان :

دارت أحداث الرواية في أزمنة متنوعة بين الليل بما هوزمن الخوف من النهاية، والنهار بما هو مواجهة هذا الخوف بشجاعة نابعة من الذات ومسنودة من الآخرين، البنت، الصديقة، الأم، والهاتف . وقد شكل زمن الحاضر زمن تكثيف الأحداث لتعكس الحالة النفسية المتصدعة لشخصية نجوى ومواقفها من الماضي، أما زمن الماضي فقد انقسم في الرواية إلى زمنين : زمن الماضي القريب المرتبط بالعمل والزواج والعلاقات الاجتماعية في العمل والسكن، وزمن الماضي البعيد : زمن الطفولة المغتصبة بالنسبة لنجوى وزمن الصوت المكتوم، كما يرمز له الهاتف، الزمن المسترجع من أجل التصالح بين نجوى الطفلة ونجوى الستينية، كما عملت على ذلك والدة نجوى . وبخصوص المكان فقد كان  في الرواية مغلقا، كما هو الحال، مع مقر العمل والمنزل، ومنزل أم نجوى ، ومفتوحا مثلما هو الأمر مع المستشفى والطريق بين المدينة وتغسالين .

ثالثا : المبنى الحكائي :

1.طبيعة السرد

اختار الكاتب السرد المتنوع بين سرد متماهٍ مع  الحوار الداخلي، المناجاة ( المونولوج)، وهو السرد الذي  أصبحت معه الشخصيات ساردة في الوقت نفسه، وبين السارد العليم بكل شيء والمتواري خلف عوالم الأحداث . وهذا التنوع جعل الرواية تتميز بتعدد الأصوات، إذ تعبر كل شخصية عن موقفها أو إحساسها بذاتها أو غيرها بعيدا عن هيمنة الصوت الواحد  . كما ساهم الاستباق والاسترجاع في خلخلة منطق السرد وجعل الرواية تتجاوز منطق الحبكة التقليدية التي تجعل القارئ مجرد مستهلك لا ينخرط في كتابة النص وبناء الأحداث مع الكاتب .

2. لغة السرد

اللغة، كما أشرنا في البداية، هي الهدف في الأدب، والرواية بالخصوص، ولكي يتحقق لها ذلك مع جنس تتداخل فيه الأجناس الأدبية كلها، لابد من خبرة الكاتب ونباهته في تدبير تعدد الأصوات وترك الشخصيات تتكلم بلسانها الثقافي وانتمائها الاجتماعي وحالتها النفسية، أي تركها تعبر عن مواقفها بكل حرية ( ديمقراطية السرد الروائي)، وهذا ما نجح الروائي خالد أخازي في تدبيره، وذلك باللجوء إلى لغة فصيحة دون أن يثقلها بالتصنع، بل جعلها تجري على لسان الشخصيات بسلاسة وتنقل تجربتها بصدق وبمنأى عن التكلف أو التصنع . لغة متحت من الشعر في حالة الحوار الداخلي، المناجاة، كما هوالحال مع نجوى داخل عالمها الذاتي، واستعارت من لغة الصحافة ما يناسب التعبير عن المواقف الرافضة لواقع الصحافة الحالي القائم على المصالح الشخصية وسلطة المال، كما هيمنت في الجزء الثاني لغة الرسائل الموسومة بشعرية البوح والاعتراف تارة، والعتاب واللوم تارة أخرى . وبتنوع السجلات اللغوية استطاعت الشخصيات في الرواية أن تحقق امتلاءها النفسي وتعبر عن مواقفها تجاه الذات والعالم المحيط بها وقضاياه الراهنة ( العلاقة بين المسلمين والغرب، العلاقات المتشنجة بين الكتاب والمثقفين ، ... الدفاع عن حقوق المرأة ...) .

3. على سبيل الختم :

اخترت لقراءة رواية هاتف السيدة نجوى اختيارا وسمته بالحاشية لأني لم أستطع أن أقيم مسافة كافية بيني وبين عمل قرأته أكثر من مرة، منذ كان مخطوطا من باب التدقيق اللغوي، من جهة، ومن جهة أخرى ، فقد كان مقررا تقديم قراءة  لرواية أسرار أمونة******* التي أعتبرها  الرواية الأولى، التي جعلتني اكتشف فيها الروائي خالد أخازي يقوم بتسريد تاريخ مقاومة الهامش المغربي للاستعمار الفرنسي بأسلوب روائي متميز . لكن هذا لم يمنع من الإقرار أن رواية هاتف السيدة نجوى استطاعت أن تدلني على قدرة الكاتب والروائي خالد أخازي الفائقة على تسخير الكتابة الروائية لردم الهوة بين الواقع والممكن بخصوص قضايا المجتمع المغربي  السوسيوثقافية في وقتنا الراهن، وعلى رأسها الفعل الثقافي ومؤسساته : مؤسسة النقد الأدبي، الصحافة، الجامعة، فضلا عن معضلات الشأن الاجتماعي، مشاكل الزواج، العمل، الخيانة، الزواج بالأجنبي، دون نسيان المنظومة القيمية التي تعتبر الرواية مشتلا لها، حيث ينتصر الكاتب لقيم الحوار والنقد والاختلاف البناء والتصالح والانفتاح عن الآخر دون محو معالم الهوية المغربية المسلمة العربية الأمازيغية الإفريقية  .

أتمنى أن تكون هذه الحاشية قد أنارت للقارئ بعد معالم الحكي وجمالياته في  رواية هاتف السيدة نجوى، واستطاعت أن تحثه على قراءة العمل الروائي دون أن تعفيه هذه الأسطر من ممارسة فعل القراءة بما هو تجربة ذهنية وثقافية لابد منها للنهوض بالثقافة والأدب المغربيين.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم