في كل مرة يشرع روائي في خوض تجربة الكتابة عن علمٍ من الأعلام أو الفلاسفة والمفكرين الذين يزخر بهم تاريخنا العربي تثور عدد من الأسئلة والنقاشات التي تبدأ من البحث عن جدوى وأهمية تناول تلك الشخصية دون غيرها، أو تأمل مدى التقصير من قبل الكتّاب في مغامرة استعادة اكتشاف تلك الشخصيات بشكل عام والتنقيب عنهم واستعادة طرح أفكارهم مرة أخرى للقراء في روايات وأعمال أدبية مختلفة، ورغم شيوع ما عرف "بالرواية التاريخية" إلا أنها ظلت بعيدة عن تناول شخصيات هامة من التاريخ وتسليط الضوء عليها، فلا يزال الكثير من العلماء والأعلام بحاجة لمن يتناول سيرهم وحياتهم ويضيء جوانب من حياتهم ومسيرتهم الأدبية والفكرية باستعادة الكتابة عنها ولفت الأنظار إليها من جديد في واقعنا المعاصر، لاسيما إذا كان ذلك الواقع يعاني من مشكلات وأزمات ومواقف مرت بهؤلاء الكبار على مر التاريخ وأثرت في حياتهم ومسيرتهم، وإذا كانت المقولة الشائعة عن التاريخ أنه "يعيد نفسه"، فلعل الواجب علينا هو التوقف عند نقاط التشابه والتلاقي تلك للتعرف عليها والاستفادة منها ومحاولة تجاوز ما كان فيها من عثرات وأخطاء، بعيدًا عن حالات التمجيد أو التقديس المطلق بدون فهم للظروف التاريخية بشكل كامل.

ولعل أول مفاجآت رواية "بيت من زخرف" الصادرة حديثًا للروائي إبراهيم فرغلي أنها تلقي الضوء وتتوقف لتأمل سيرة ومسيرة واحد من أهم أعلام الفكر والفلسفة في العالم العربي في التاريخ، وهو "الوليد ابن رشد" الذي تجاوز أثره العالم الإسلامي ليصبح واحدًا من  أعلام الفلسفة الذين أثروا في الحضارة الغربية، وكانت شروحاته لأرسطو على وجه التحديد مدخلاً هامًا من مداخل الفلسفة الغربية الحديثة، بالإضافة إلى ما قدمه من أبحاث تتعلق بعلوم الفلك والفيزياء، ولكن أشد ما واجهه هو معركته الفكرية التي واجه فيها أحد أعلام الفكر الإسلامي وهو الإمام "أبو حامد الغزالي" الذي كتب "تهافت الفلاسفة" فرد عليه ابن رشد بكتابه "تهافت التهافت"، وكان يرى أن الفلسفة والبحث فيها ودراستها لا تتعارض أبدًا مع الدين الإسلامي، وكان موقفه ذلك مما ألب عليه فقهاء السلطة في زمانه، حتى اتهم بالزندقة وأمر الخليفة المنصور أن ينفى في قرية "أليسانة" وصادر كتبه وأمر بإحراقها، ولكن موقفه ذلك تغير بعد سنوات فعفى عنه، وعاد  إلى مراكش ومات فيها، وطلب أن ينقل رفاته إلى قرطبة.

حياة حافلة ولاشك تلك التي عاشها "ابن رشد" سواء في بداية تلقيه للعلوم وتعرفه على مدارس الفقه وأفكار الفللاسفة المختلفة، مرورًا بتقلده  أعلى المناصب في الدولة وهو منصب قاضي القضاة، وصولاً إلى نفيه وحرق كتبه وتلك النهاية المأساوية التي انتهت بها حياته رغم ما قدمه طوال عمره في سبيل العلم والفكر.

يلتقط "إبراهيم فرغلي" من حياة ابن رشد عددًا من اللقطات الدرامية التي يرى أنها هامة ومؤثرة في حياته، يسلط عليها الضوء وينسج حولها نسيج روايته المختلفة والشيقة في الوقت نفسه، إذ ينقلنا في البداية مع أستاذٍ جامعي مصري يدرس في إسبانيا، ويتعرف هناك على "ماريا إلينيا" تلك الباحثةٍ  وقصتها الغريبة حيث تطلب منه أن يكشف لها عن مخطوط لسيدة عملت عندها ويكتشف أنها تتناول فيه أطرافًا من سيرة "ابن رشد"، مما يقود ذلك الأستاذ إلى عالم "ابن رشد" وقصته وسيرته، ليكتشف فيها تشابهًا ولو في الأثر الأخير بين حكايته التي خرج بها من مصر وبين ذلك العالم الفقيه الذي قضى آخر أيامه منفيًا ومتهمًا بالكفر!

لعل المدخل الأول لتلقي أو تناول أو الحديث عن أي عالمٍ من علماء العرب والمسلمين هو تلك الصلات التي قد تربط بين ذلك الماضي والحاضر، ولا نعلم هل هو حسن الحظ أم "نكد الدنيا" أن كل لك المواقف الصعبة والمشكلات والأزمات التي تعرض لها هؤلاء العلماء والمفكرية بل والأدباء سنجد لها مثيلاً وصدى في واقعنا المعاصر وفي أيامنا هذه، رغم مرور كل هذه السنوات وكل ما حدث من تغيرات، ولهذا كان من اليسير أن يعقد القارئ بل وبطل الرواية أيضًا الأستاذ الجامعي "اسكندر" تلك المقارنة التي تقوده إليها الظروف بعد أن نتعرف معه على أطراف من سيرة ابن رشدٍ ومحنته.

وإذا كان اين رشد هو ذلك العالم العقلاني المتحرر المؤمن بحرية المرأة ودوها في المجتمع، فكيف سيكون حاله مع تلميذاته؟! يلتقط "إبراهيم فرغلي" خبرًا من واحدة من تلميذات ابن رشد، ويبني عليها جزءًا من روايته وهي "لبنى القرطبية" التي يفترض أنها أحبت أستاذها وتتبعته حتى منفاه في "إليسانة" وتمكنت من أن تكون قربة منه، ورغم أن العنوان الثاني للرواية هو "عشيقة ابن رشد" وأن تلك الحكاية ربما تكون الأكثر جاذبية وثراءً، لا سيما إذا تتبعنا حياة تلك العشيقة قبل معرفتها بابن رشد وبعدها، إلا أن القارئ سيفاجئ بأنها لا تأخذ إلا فصلاً واحدًا من فصول الرواية الستة، وهو الفصل الرابع في منتصف الرواية تقريبًا، والذي يمكن أن نعده الفصل الأكثر ثراءً بالفعل، وتركيزًا على جوانب خفية من حياة ابن رشد العالم والقاضي والفيلسوف، وكيف هامت به لبنى عشقًا رغم كونها تلميذه يشغلها طلب العلم في المقام الأول.

((رغم شعورها بالطمأنينه وقد سكنت نفسها وباتت أقرب لما أرادته تمددت على فراشها وهي تحدق في سقف الغرفه المعتم، وانتابتها مشاعر غامضه شعرت بانها اقتربت من الإمام كما لم يحدث من قبل البته، فقد كانت دومًا من بين المريدين طالبة علم بين آخرين وباحثة عن الحق رأت فيما اجتهد فيه الإمام سبقًا وحثًا على إعمال العقل وإنصافًا للنسا
لكنها اليوم جلست بالقرب منه وحدهما مست ساقيه وأنصتت اليه وأنصت إليها، لاحظت هزال جسده مقارنة بماعرفته عن هيئته خلال العقد السالف، ادركت أن العمر له حكمه على الأجساد مع ذلك قد شعرت باقترابها منه كابنة حرمت من الأب منذ طفولتها، لكن هل شعرت بأنها ابنه حقًا؟ كان ذلك ما مس شغاف قلبها وهي تجاور الإمام وتمسد جسده وتعالج آلامه لعلها شعرت بأنها أكثر من ابنة، أخت أم طبيبة؟ تسأل السؤال وهي تعلم أنها تعلل ما تشعر به، دار في خلدها كلمه استوحشتها من عائشة القرطبية قالت لنفسها بل كعاشقة أو عشيقة، ثم خفق قلبها لوقع الكلمة فكررتها همسًا لنفسها، فلما ثارت مشاعرها تقلبت على جنبها، وقد لفتها مشاعر غامضة ملأت قلبها بالغبطة، لكنها آثرت أن تهرب من حقيقتها بالنوم))

هكذا عبّر إبراهيم فرغلي عن العشيقة، ولكنه سرعان ما تجاوزها ليواصل حكاية بطل روايته الأصلية ذلك الأستاذ الجامعي الذي لاشك سيذكر القارئ بالدكتور "نصر حامد أبو زيد" الذي يهدي روايته لروحه منذ الصفحة الأولى، ولا يقتصر في روايته على عرض أطراف من سيرة ابن رشد وإسكندر، ولكنه يتعرض أيضًا بشكل موجز ودال إلى أثر ابن رشد في الثقافة الغربية في الفصل المعنون باسم "أفيرويس"  وهو الاسم الذي يطلقه الغرب على ابن رشد، لنتعرف فيه على أطراف من سيرته بصوته حينًا خاصة في أسام شبابه والتي يعنونها "المشاء" وبأصوات عدد من معاصريه  فيحضر "ابن عربي" و"ابن زرقون" وغيرهما، كما يشير إلى الظرف التاريخي شديدة الخصوصية الذي تم نفي ابن رشد فيه ، وهو تلك الحرب التي دارت رحاها بين الموحدين والقشتاليين، من جهةٍ أخرى تتدخل الفانتازيا أيضًا لترسم لنا مشهدًا روائيًا بديعًا من وجهة نظر طائر في السماء يتتبع النعش الذي يتحرك من مراكش إلى قرطبة.

رحلة شيقة ومختلفة، ومسارات متداخلة وغريبة أخذنا فيها إبراهيم فرغلي، ليعرض أطرافًا من سيرة ابن رشد ومحنته من جهة ويمارس لعبة سردية شيقة في الانتقال بين أكثر من بطل وأكثر من حكاية، وهو بين ذلك كله يبث  رسالته بشكل واضح إلى كل القراء والمهتمين بالأدب والفكر في كل زمانٍ ومكان، بأهمية العمل على استقلال الفكر والثقافة وتحررهم من أسر كل سلطة وقمع وضيق أفق، وهي الكلمات التي جاءت على لسان الدكتور إسكندر في حواره مع تلك الطالبة التي دفعته للحكاية كلها:

المثقفون يا عزيزتي ينتظرون مثل هذه الوقائع منذ عقود لكي يرددوا في كل مرة كلامًا جميلاً عن حرية التعبير المهدورة، ومحاكم التفتيش، ويجدون موضوعات مثيرة يكتبون عنها بلغة عصبية ينددون فيها بالحريات المهدرة، وأحيانًا بلغة باردة متأملة يضعون فيها جملاً براقة يثبتون فيها لأنفسهم قدراتهم على الكتابة والتأمل وإنتاج الأفكار، ... الكارثة التي تبينت لي خلال هذه المحنة أيضًا أن بعض المثقفين يرون في القضايا التي تتعلق بحرية التعبير في أمور تخص الإصلاح الديني مثلاً خطرًا يفضل الكثير منهم الابتعاد عنها، قد يتضامنون مع كاتب يكتب كتابًا إباحيًا أو يتعرض لمحنة بسبب كتابة مقطع جنسي، أما في قضايا الإصلاح الديني فستختلف المقاييس!

هكذا ينكأ إبراهيم فرغلي من خلال الرواية، وعرض سيرة ابن رشد، جراح المثقفين والمفكرين العرب في كل وقت، وضرورة أن تتحول تلك الأفكار والمقالات والكتابات إلى أداةٍ فعالة تحمي المفكرين والعلماء من سيطرة الجهلة وأصحاب المصالح أو حتى السلطة التي تقمع من تريد في أي وقت وبكل الطرق، وهو يشير بشكلٍ واضح إلى الأزمة التي تعرض لها المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد رحمة الله عليه منذ سنوات.

تجدر الإشارة إلى أن رواية "بيت من زخرف" تعد مغامرة سردية مختلفة خاضها إبراهيم فرغلي بمهارة واقتدار، وسبقها عدد من الروايات التي تناولت أفكار تتعلق بالقمع والحرية مثلما قدم في رواية "معبد أنامل الحرير" التي حصل بها على جائزة ساويرس في الرواية 2016، وقارئة القطار التي مزجت بين الواقع والخيال والتاريخ أيضًا، وحصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 2022. سبقهم رواية "أبناء الجبلاوي" وغيرهم من الروايات والمجموعات القصصية المتميزة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم