أول رواية تترجم له الى العربية ترصد تقاطع المصائر وتدوير التاريخ

"أعطى صوتاً لما لا يمكن البوح به"، هكذا وصفت الأكاديمية السويدية الكاتب النرويجي يون فوسه في إعلانها فوزه بجائزة نوبل للآداب لعام 2023. هذه السمة التي تجلت في معظم أعمال فوسه، كانت أكثر وضوحاً في روايته "ثلاثية" الحاصلة على جائزة المجلس الاسكندنافي عام 2015، والتي صدرت ترجمتها العربية حديثاً عن دار "الكرمة" في القاهرة، وقد أنجزتها شيرين عبدالوهاب وأمل رواش.

دلالات الصراع

لم تكن قصة الحب رافداً للرومانسية داخل النص، بقدر ما كانت أداة، وظفها الكاتب لتبرير الصراع، بين بطليه من جهة، والمجتمع من جهة أخرى، إذ أصبح العاشقان منبوذين، لا سيما بعد حمل "أليدا". فرفضت أمها بقاءهما معها، ورفضت المرأة العجوز في بيورجفين استقبالهما، وحاول كل من صاحب الكوخ وصاحب النزل استغلال الفتاة "ولما كانت أليدا حاملاً، ولم تكن هي وأسلا متزوجين، فإن الأم هيرديس لا يمكنها أن تتعايش مع هذا العار في بيتها". ومثلما أسهم الصراع في دفع وتحريك الأحداث، حمل دلالات تحيل إلى الفضاء الزمني للسرد، الذي جهله الكاتب، لا سيما أن التقاليد التي أججته، تعود لماضٍ ودعته النرويج، ربما قبل قرنين من الزمان. وعبر هذا الصراع أبرز فوسه الجوانب المظلمة للنفس البشرية، وتعقيداتها، وكذا تناقضاتها الصارخة، فالعاشق المحب، الذي اعتاد أن يبذل نفسه من أجل فتاته، لم يتورع عن ارتكاب أكثر الأفعال خسة ودناءة، ليحقق غاياته، التي كانت في الوقت نفسه غايات نبيلة، وتلبي حاجات إنسانية مشروعة وأصيلة. وهذا ما قاد الكاتب إلى محاكمة المجتمع بالمثل، والكشف عما يعتريه من قسوة، وزيف، ونفاق اجتماعي، وامتناع عن الإحسان ومد يد العون. واتسقت هذه المحاكمات، والرؤى الضمنية، مع أيديولوجية الكاتب اليسارية، التي بدت في مواضع عدة، من نسيجه الروائي "الحال على هذا المنوال، بعض الناس يملكون والباقون لا يملكون. ومن يملكون يتحكمون فيمن لا يملكون من أمثالنا"، كما سمحت للنص، بالخروج من حيز المحلية المحدود، إلى الإنسانية الرحبة، ليناسب القارئ في بقاع شتى.

دلالات التكرار

الرواية بالترجمة العربية (دار الكرمة)

اعتمد الكاتب تقنية التكرار بكثافة على طول خط السرد، على نحو ربما بلغ حد الإسراف، غير أن غايته في استخدام هذه التقنية، لم تقتصر على تعزيز جماليات النص، على مستوى البنية، أو للدلالة على عمق معاناة الشخوص وحسب، وإنما عمد عبر التكرار أيضاً، للإحالة إلى دلالات رمزية، تشي بتقاطع المصائر، تداول المأساة، وإعادة تدوير التاريخ. فالفقراء دائماً يعيشون في مشقة، والرجال حين يغادرون، عادة لا يعودون، والأمهات كثيراً ما يمتن وحيدات، مهما تبدل الزمن، وتغيرت الوجوه. وبمثل الكثافة التي استخدم بها الكاتب تقنية التكرار، لجأ إلى الديالوغ المسرحي، الذي هيمن على مساحات واسعة من النسيج، وهو ما بدا أمراً طبيعياً، نظراً إلى خلفية فوسه المسرحية، فقد كتب أكثر من 30 نصاً مسرحياً. وقد أثرت هذه المساحات الحوارية، النص الروائي، إذ أسهمت في تعزيز الإيهام بآنية الحدوث، مما سمح بدوره، بزيادة التماهي مع النص، كما أنها سمحت بكسر أحادية الرؤية للراوي العليم، عبر تمكين الشخوص، من استخدام صوتها الخاص، والتعبير عن ذواتها بحرية، مما أتاح مزيداً من الصدقية، والحميمية، دون أن ينال من شمولية الطرح، وموضوعية الرؤية.

استخدم فوسه تقنية الاستباق، ليضفي على نسيجه طابعاً تشويقياً، يتسق مع الجريمة، التي وزع مراحلها على الروايات الثلاث. وأحاط بعض الأحداث بضبابية، وأرجأ إزالة ما اكتنفها من غموض، إلى مراحل متأخرة من السرد. فلم يكشف عن طريقة حصول "أسلا" على القارب، الذي أعده لرحلته وأليدا، إلى بيورجفين، ولا عما فعله بالأم هيرديس، بعد اكتشافها محاولتهما سرقتها، ولا عن مصير المرأة العجوز، التي رفضت توفير مأوى لهما. وسمح للقارئ بالمشاركة في السرد، عبر دفعه لتوقع مصائر الشخوص، إلى أن بلغ الرواية الثانية "أحلام أولاف"، التي تأكدت خلالها إدانة "أسلا"، واستحقاقه -على نحو ميلو درامي - للعقاب، وتحول حالة الحب، ومصير الحبيبين، إلى وجهة أخرى.

وكما يشي عنوان الرواية وزع الكاتب أحداثها على ثلاثة أقسام، وثق خلالها - عبر صوت راوٍ عليم - ما يشبه تاريخاً عائلياً، فانطلق في القسم الأول "سهاد"، من رحلة بحث عن مأوى، يخوضها شابان لم يتجاوزا الـ17 من عمرهما "أليدا وأسلا"، في مدينة بيورغفين. وزاد من صعوبة بحثهما، برودة الطقس، والظلام، والمطر، وأيضاً حمل "أليدا"، التي أوشكت على الولادة. ومن هذه الرحلة الشاقة، ارتد الكاتب عبر تقنية "الفلاش باك"، إلى موطن بطليه في "ديلجيا" التي نزحا منها، ليكشف عن علاقة حب ربطت بينهما، وعن شعور بالوحدة تشاركاه، كان باعثه لدى "أسلا"، موت أبويه، في حين جنته "أليدا" من كراهية أمها لها، بسبب ملامحها، التي تشبه ملامح زوج هجرها. وكان ما تشاركه العاشقان من يتم، واغتراب، ركيزة حبهما، وسر قوته، إذ بات كل منهما، بمثابة عالم للآخر، وكل ما تبقى لديه.

الرواية بالأصل النرويجي (أمازون)

عمد الكاتب في مواضع كثيرة، إلى إبطاء حركة السرد، عبر الحوارات الطويلة، وأيضاً عبر الوصف، لكنه أسرع بها في مواضع أخرى، عبر تقنية الحذف، لا سيما مع الانتقال - في الرواية الثالثة "تعب الليل" - إلى بطلة جديدة، هي امرأة وحيدة وطاعنة في السن "أليس"، يتكشف مع تواتر الأحداث، أنها ابنة أليدا، التي تستعيد عبر التذكر، ما سمعته في الماضي عن أمها، وزوجها "أسلا" المتهم بالقتل، وعن حياتها التالية بعد خسارتها له، وما فرضه القدر، وامتثلت له. وكان حرص فوسه على حذف سيرة الابنة/ المرأة "أليس"، وكل ما يفسر اختفاء الأخ غير الشقيق، سبيلاً لتحقيق غاية أخرى، تتجاوز الإسراع بالسرد، وهي ضمان مشاركة إيجابية من القارئ، في صنع الأحداث، بعدما وضع له قاعدة واضحة، تؤكد تقاطع المصائر، وتكرار التاريخ. وبينما بدا أحياناً جنوح فوسه، إلى الأسلوب التقليدي في السرد، بدت أيضاً محاولاته للتجديد والابتكار، لا سيما فيما عمد إليه من مزج الوهم بالواقع، وتقويض الحدود القائمة بينهما، مما أضفى على الأحداث غلالة سحرية "تنظر إلى البحر، وفي السماء هناك ترى أسلا، ترى أن السماء هي أسلا، إنه هناك، هو الريح..، ثم تسمع صوت أسلا يقول أنا هناك، أنا معك، أنا دائماً معك، لذا لا تخافي سأتبعك".

وكما مزج بين الوهم والواقع، عمد إلى الربط بين الماضي والحاضر، في مشاهد متناوبة، استخدم خلالها تقنية التقطيع كتكنيك سينمائي، ساعد إلى جانب اللغة المشهدية، في نقل الأحداث، إلى حيز الرؤية. ولم يكن البصر الحاسة الوحيدة، التي استنفرها السرد، وإنما برع فوسه في استنفار كافة الحواس، عبر لغة شعرية، منحت مشاعر الشخوص، ملمساً، ومذاقاً ورائحة.

البعد السيكولوجي

بدا عبر السرد، اهتمام الكاتب برصد السمات السيكولوجية المعقدة للنفس الإنسانية. ووظفها في خدمة الأحداث، فكانت الإزاحة التي مارستها الأم "هيرديس"، وتوجيه غضبها من زوجها، إلى ابنتها، دافعاً للصراع، الذي وقع بينهما، وكان بدوره محركاً للأحداث. كذلك كان "الإنكار" الذي مارسته "أليدا"، بأعراضها عن اكتشاف الجانب المظلم في طبيعة "أسلا"، وإحجامها عن محاولة معرفة كيفية حصوله على القارب، وتعامله مع "هيرديس" الغاضبة، وسر بقائهما في منزل العجوز على غير رغبتها، وسيلة ساعدتها على الاحتفاظ بسلامها الداخلي، وكذا التكيف، وقبول الواقع، وتقبل الحبيب. أما التناقض، فكان السمة النفسية الأبرز، التي رصدها فوسه عبر الشخوص، ومن خلال مشاعرهم المتباينة، في تعاطيهم مع الأحداث "تفكر في أن أمها الآن ميتة، وذلك لا يحدث فارقاً معها، لكن لا يجوز أن تفكر بهذه الطريقة، لأن أمها ميتة، كانت أمها على أي حال، لا إنه شيء فظيع جداً، هكذا تفكر أليدا". وعبر هذا التناقض، صنع الكاتب شخوصاً غير نمطية، فالفتى القاتل، طيب القلب. والفتاة الرقيقة، سارقة وعاقة لأمها. والأم رغم غريزة المحبة، تصوب باتجاه ابنتها سهام الكراهية. والابنة البارة، تترك أمها تموت وحيدة، ولا تودعها في جنازتها. وفي خضم هذه التناقضات، التي تعبر عن ثنائية معقدة للخير والشر، أبرز الكاتب عديداً من الثنائيات المتقابلة الأخرى، منها ثنائية الحياة والموت. وألبس الحياة ثوب المشقة، في حين ألبس الموت ثوب الحرية، والانعتاق، والتحليق. ومرر رؤاه عن الحب، وأثمانه الباهظة، وعن الحقيقة، وبعض وجوهها الغائبة، التي يتعذر على المرء أن يعرفها.

المصدر: اندبندنت عربية  

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم