تُمثَّل رِّواية الروائي السوداني مَنصور الصِويِّم (ذاكرة شرير) الصَّادرة في 2005م، التي تُوجَّت حينها بجائزة مرموقة تحمل اسم الروائي السوداني الأشهر الطيب صالح للرواية؛ نقطة تحوُّل مُركَّبة بين مفارقة بداية التجربة السَّردية، وبداية تأسيس لمسَّار سردي قادم يتجلىَّ في تعددُّ إصداراته الروائية اللاحقة بتَقنيِّات سردية مختلفة، منها التَّجرِيب والتَّكثِيف اللُّغَوِيّ في (أشباح فرنساوي)، والرواية التَّاريخية المُفسرة سردياً في (آخر السلاطين)، ورواية التَّجليِّات الفنتازية في (عربة الأموات)، ومن ثَمَّ روايته -قيِّد النشر- التسجيلية (طُحلب أزرق) التي توثق للثورة السودانية الأخيرة. وقد سبقتها روايته القصيرة الأولى (تُخوم الرَّماد)، إضافة الى مجموعة قصصية (كانت وكان وكانت الأخرى) ونصوص وكتابات مفتوحة أخرى؛ بالإضافة إلى نشاط ثقافي وصحافي على المستويين المحلي والخارجي.

الرواية: 

لاقت الرواية منذ صدورها ترحيباً نقدياً بما كتب عنها محلياً وعربيًا ومراجعات الكتب دولياً في مُلحق صحيفة لوموند الفرنسية. ولم تتوقف حظوظها عند الجائزة الأولى فقد تمدَّدت شهرتها لِتُتَرجَم إلى اللغة الفرنسية بعنوان (Souvenirs d'un enfant des rues) بترجمة أستاذة الأدب العربي بالجامعة الوطنية الأسترالية (ANU) فرانس ماير وصدرت عن دار فابيوس الفرنسية 2012م؛ ومن ثُمَّ أعيد طباعتها في أكثر من بلد وطبعة وترجمة. ويتضِّح من العنوان المُترجم أن المترجمة أخذت بمحتوى النصَّ في تأويل العنوان الأصل: فذاكرة شرير، أو ذاكرة شريرة لا تعني حرفياً في المقابل الفرنسي (أطفال الشوارع (enfant des rues أو أولاد الشوارع في الخطاب السيسيولوجيي (الاجتماعي) السُّوداني الدَّارج، وإن يكون عنواناً موحياً بحِدة عن العنوان الأصلي مما اقتضه اختيارات الترجمة أو استعارات المعاني أكثر من حرفيِّة النصّ! وتأخذ الترجمة في الإنجليزية، التي لم تبعد كثيراً عن موضعة (الشر، الشرير) في سياق المترادفات الضمنية بين المُحتال، والشقي حين تَرجم الأميركي وليام هتشنز مقتطفات من الرواية مستخدمات حرفياً (Rouge’s Memory) العنوان المقابل في مجلة بانيبال اللندنية. وأن يتعدَّد العنوان في الترجمة وهو أمر شائع في الترجمة الأدبية ومراجعات الناشرين، ومن جهة أخرى لا يعني ارباكاً مثيراً للتشويش بقدر تعدد مطاوعته للإحالات اللغوية التي تلقي بظلال المعاني الكثيفة إضافة إلى مبلغ الاختيارات اللغوية للروائي في تقصيه لما وراء الدلالة اللغوية نفسها؛ أو كما تسوغه استراتيجية العنوان في الدراسات السَّردية مؤخرًا. ومن التَّرجمة واللغة إلى واقعية الحياة التي جسَّدتها الرواية لحياة المشرد أو الشِّريِر. فالشَّر حالة تقع إلا في تصَّور الآخر مثل الشارع، وكل من لا ينتمي إلى مؤسسة بيولوجية (الأسرة) أو رسميِّة كالمدرسة والوظيفة، والمدينة إلى آخره. وكما يراه الناقد الفلسطيني فيصل دراج بنظرة مُتَأمِّلَة لا تخلو من معنى وجودي في كتابه عن الشر والوجود في أدب نجيب محفوظ: "يُترجم الشَّرُّ إرادة الأقدار، جزء من الوجود وعلامة فيه، اعتباطي قاهر ولا تفسر أسبابه، يعالن غموضه بغموض الوجود الملتف حول ذاته بطبقات متعددة، ينفتح وينغلق على كل شيء وينغلق حين يريد..." وبمعنى فلسفي علَّة وجود تشكل نقصاً ركيزاً في أصل الطبيعية البشرية على نحو ما يستطرد فيه الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه (1840-1900) "إنّ الأخيار من النّاس هم النّبلاء، الأقوياء، الفضلاء الذين يقومون بمهامّهم كما ينبغي، وهم الذين يحدّدون معنَى الخير، أمّا غيرهم الضّعفاء فهم يمثّلون الشّرّ، ليس بمعنى العدوان والظّلم، وإنما بمعنى الرّداءة والحقارة". وسردياً كما في رواية الإنكليزية ماري شيلي (1797-1851) فرانكشتاين التي يتخلق فيها الشَّر تحت يدِ عَالِم أو مجتمع ومن ثَمَّ تصعب السيطرة عليه. وفي ذاكرة شرير يمثل الشَّر -كما يذهب الناقد أنطوان جاكي في قراءته لمفهوم الشِّر في الرواية - إلى أن الصويم "ينجح في تحويل حياة طبيعية مطبوعة سلفاً بالفشل واليأس والعنف إلى قصة شبه اسطورية. فنتابع على طول الرواية مغامرات بطله، منذ الطفولة وحتى سن الرشد، وتطور علاقاته المثيرة مع أطفال الشوارع والمعاقين والمحتالين ورؤساء العصابات، لكن الروائي لا يسعى من خلال ذلك الانتقال به من العتمة إلى النور بل يبقى آدم "شريرًا" حتى النهاية تتسلط على قدره لعنة ولادته ونشأته". ويصف بطل الرواية (آدم كسحي) حياته منذ ميلاده على نحو وجودي يثبت آدميته وحقه مثل أي مخلوقٍ آخر:

"من بطن الحلم خرجت مفزوعاً تحس ثقلًا عظيماً يجثم على صدرك. فتحت عينيك. إضاءة باهرة تغمر المكان. نافذة مشرعة، وجوه القديسين تحدق بك في ضوء النهار. المسيح بوجهه الطفولي تراه يمد يده تجاهك، ومريم الرسولة تواجهك باسمة وشحوب الزمن قد اعتلى ثوبها الأحمر المتموج. تبتسم لها قبل أن تلتقي عيناك بالعيون الشريرة المحدقة بك في ظفر".

إنَّ شخصية (آدم كسحي) وعالمه الذي يبدو محدودا بفعل الإعاقة والنبذَّ الاجتماعي إلا أنه يحتشِّد بالحياة وفعل الحياة في شبكة علاقات واسعة حفَّرت الرواية في تجاويفها العميقة بأدوات سردية مُحْكَمة تقومَّت برؤية الروائي التي أبصرت ما هو غير مرئي في عالم الحياة اليومية. تستجيب الرواية في محاولة منها لفهم ما يجري تفسيراً على السرد الإبداعي بالنفَّاذ إلى عوالم فئة اجتماعية يُطلق عليها (الشَّمَاشْة) تصّارع في عنف متوحش– كما ترسمها الرواية- في دائرة من طقوس الشَعْوَذة والسِّحر والتَسَوُّل والتشَّرد والجنس والعنف والتدَّيٍن الصُّوري، وغيرها من علِّل اجتماعية فَتْكت بالواقع السوداني في فترة من تاريخه السياسي والاجتماعي.

التَّجربة والتَّأسيِس: 

بهذه الرواية كعمل ثانٍ يكون الصويم قد غادر بدايات السرد والتأثير المباشر للقراءات التي تلازم المراحل المبكرة من التجربة (التأسيسيِّة) للشروع في الكتابة المفتوحة والمستقلة، أي تلك التي صاغها في كتابة روايته الأولى (تُخوم الرَّماد) ذَّات النفس الأقصر، والحجم الصغير (Novella) الرواية الوجيزة وهي حالة تعتري الكاتب في محاولاته السردية الأولـى. إذا كان الرِّهان على اللغة عند مستوى الاستدعاء والتقليد لنمط كتابي (اسلوبي) لكاتب آخر قد يُحسِّن من -بظن الكاتب- أو يرَّفع من شأن نصه الروائي، فإن في اختلاف الحدث المتشكل في خياله عادة ما يكشف عن قصور أو تفوق في تجاوز أهم عتبات الكتابة في المغامرة؛ أي المحاولة الأولى.

حدَّدت الرَّواية مدخلها الذي شكَّل ثيمتها من خلال تناول لحياة معاقٍ ينتمي إلى طبقة دنيا في المدن كدلالة سيكون لها داخل النص الروائي تفسير يتسق وجملة ما تثيره وما يتعلق بالهوية والعنصرية والهجرة. والإشارة هنا (اختيار) العنوان ذات ملمح معرفي، نقطة مرجعية علمية فيما تمثله الإعاقة كقصور بيولوجي في حالة (آدم كُسِّحِي) قبل أن يرتبط بالمفاهيم الثقافية وتجلياتها الاجتماعية، والطبقية. وقد آثر النقُّاد بإحالة الكتابات الرواية السودانية مؤخراً الى الالتفات إلى معالجات قضايا التهميش بمعناه السياسي والاجتماعي الذي يتأسس على بنية إثنية (عنصرية)، وتداعيِّاته السياسية، وحالات الفصَّام في سؤال الهُّوية بالشكِّل الذي انتجته الصراعات والحروب والِاحتِدَام في التفسِّير. فجاءت كتابات الروائي بركة ساكن -بعد صدور رواية الصويم بسنوات-(مخيلة الخندريس 2013)، ويلاحظ أن هناك ظلال باستخدام الذاكرة كما لو كانت الذاكرة في حياة المشرد أكثر فاعلية من حياته الواقعية. وكذلك رواية الروائية رانيا مأمون (ابن الشمس 2012) إلا أن هذا الاتساع السردي في احتواء هذه الشريحة بلغة التصنيف الإحصائي وتحويلها إلى متون سردية قد ابتدرته أولى الروايات السودانية (إنهم بشر) لأبي بكر خالد في ستينيات القرن العشرين؛ وتمثل هذه الرواية برأي الناقد الدكتور أحمد صادق المصدر المرجعي في الروايات التي تناولت قضايا المهمشين اجتماعياً بالرغم من التطورات الاجتماعية واسقاطاتها الاقتصادية والسياسية وما تشكله من واقع جديد يستدعي التدخل الإنساني والسردي. والصويّم في هذه الرواية مزَّج بين استعارات التهميش والخندريس وابن الشمس (الشماسة) وغيرها من كتابات سردية في ذات السياق.

ما تجاوزه الصويم في روايته (ذاكرة شرير) أو المرحلة البينية بين تلقي ردَّ الفعل أو أصداء ما كتب حولها؛ عملياً هو البداية السردية بالممارسة وتفعيِّل قدراته السردية، وقد واجهت أعماله النقد بمختلف آلياته، وأياً تكن قيمة تلك الآراء النقدية منها والانطباعية ومدى أثرها الطاغ على تجربة الكاتب، فقد اتسعت الرؤية البصرية بما يكفي لرؤية الواقع ومن ثَّم إمكانية التعبير عنه سرديًا بأدوات قد تكون مغايرة وعميقة في مسَّار البحث السردي.

في عالم الرواية بوصفها عالماً يبتدع فيه الإنسان تُلزم التجربة التقيِّد بصيرورة المنطق وتاريخية التطور في بدهية البدايات والنهايات لا على الطريقة البيولوجية النظرية الدارونية في النشوء والتطور التي تؤدي في دورتها الى الفناء المحتوم! في مذكرات الكتاب أو ما كتب عنهم فإن الصدفة في كتابة النصَّ أو محاولة كتابة نص روائي يكون حظه من النجاح كعملٍ روائي مغيباً في التجربة الإنسانية بشكل عام. كثيرة هي الأعمال التي رُفضَّت وعُدَّت كأعمال فاشلة لكتاب لا يعدهم المستقبل جيداً ككتاب معترف بهم، ولم تُصِّفح عما انتهت إليه من قيِّمة جمالية وفنية. والشواهد من الماضي أو الحاضر تكاد تكون بعدد الكتاب.

احتوت (ذاكرة شرير) على ثمانية فصول، إذ تبدأ الحكاية متجذرة في بنية سردية أُسِست على خلفيِّة ما يمكن أن يطلق عليها البنية البحثية التي ليست على النمط الإرشادي لمسوحات البحث الاجتماعي، وإن تكن قد راكمت ما يفيد أجواء وشخصيات ولغة الرواية في علاقة حوارية بحسب الناقد الروسي ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) في نظريته الروائية التي تتحقق من خلال تحاور الأصوات وتعددها Polyphonic داخل الرواية ممثلة في شخصيات الرواية (جاك تويلا، حاج محمدو، الرقيب دهمان، أستاذ الدِّين هاشم، وهيبة، مرتوق، أبو التنقي...). شخصيات رئيسية في النصّ امتلكت ناصية الوظيفة السردية ضابطة لإيقاع الأحداث الممتدِّة على مساحة الرواية، حيث تقلص الحوار إلا في أضيق الحدود في وجود هيمنة للراوي العلِّيم، وهو تقنية اسلوبية تكاد تستأثر وتغلب على جميع أعمال الصويِّم الروائية.

فمن الوجهة النقدية تكوَّنت وتشكَّلت الرواية من ملامِّح توجد في سيِّاق الاجتماعي وما يضمره من خطابات ذات حساسية عالية في واقع متخم من التضَّاد الإثني والميثولوجي، والعنصري، أمكن للروائي معالجته مع استقامة في توظَّيف القراءة الأنثروبولوجية لعنَّاصر لا تفسِّرها إلا في هذا السياق، ضمن وفرة الموضوعات كعناصر خامّ وبالتالي خاملة في سكونيتها الطبيعية قبل تدَّفق الخيِّال السردي. وبهذا يكون النص الروائي (الرواية) قد افضت إلى نصٍ أحتوى ما تقترحه التقاليد النقدية في كتابة الرواية: الشخصية والمكان والزمن وما يتقاسمها من فواعل قائمة بقوة الحدث أو السرد وضروراته.

في هذه الرِّواية (ذاكِرَة شِرِّير) يتفاعل النصُّ السَّردي مع أحداثٍ مثيرة نتج عنها نص روائي كاشف عن هشَّاشة الفعل الإنسانيِّ وقوة إرادة الحياة في خضِّم قلق وجودي مستبدٍ يحيط بالتجربة الإنسانية في صدامها المُستمرِ مع رحلة الحياة. ثمة ملحمة روائية تٌجسِّدها الرواية في مَزجها بين الحبكة الروائية المتُقنة في سياق تطَّور سردي منطقيِّ تسانده لغة تضيء عبر مجازاتها السردية ومحيط دلالاتها الرمزية وعناصرها الهيكلية من شخصيات وأماكن وأحداث قصيِّة عن التَّوقع يصعب التعبير عنها أو تصَّورها خارج الصُّور النمطية.

تُقّدم الرواية شخصياتها باتسِّاقٍ واقعيِّ دون تحيِّز أيديولوجي يجعل منها مادة تسجيلية أو خطاباً تعيق سرديته المباشرة والتقريرية كما في العديد الأعمال السردية العربية. إذ يتماسك البناء السردي دون فجاجة في تمثل الشخصية لمحيطها الفيزيقي والميتافيزيقي بالتعبير المباشر عن (رؤية العالم) من خلال العلاقات الموضوعية بين الفرد والقوى التي تحركه اجتماعياً. فالشخصيات الروائية في هذه الرواية تمثلها علامات بارزة كثيفة الحضور لا تكتفي بالاستقلال كهويات نابضة بالحياة، بل تحيل مشاهدتها بالممارسة الكاملة للدور الإنساني في الوجود دون إسقاط لرؤى مسبقة التشكّل أو دافع أخلاقي مرغوب في تبنيه أو مبدأ يتطلب تضحية بالنصّ السردي استجابة لنزعة أيديولوجية كانت أم فلسفية أو دينية.

وبمقاربة سردية وخبرة في صياغة وتشكيل الخطاب الروائي تعتّد بالوصف السردي بطاقته الهائلة في التخييل من خلال التصوير الحسي والرؤى السَدِيدة خلقت الرواية عملاً سردياً مستلهماً سرديات الواقع بكلِّ تناقضاته وصراعاته النفسية والاجتماعية؛ ليُقدَّم لنَّا الصويم حزمة من الشخوص العارضة أو الهامشية في توازٍ مع العلامات التي شكَّلت عوالم هذه الشخصيات، عالم (آدم كسحي). وتمكَّن بالتالي من رسَّم هذه الشخصيات بدقة سردية متناهية منحت الشخصيات السردية الحقَّ كأشخاص يحقُّ لهم التمتع بالحياة الطبيعية.

والسؤال هل اكتفت الرواية بما أثارته من سؤال الهوية ومفارقتها عند الآخر، والمهاجر، أو غير المنتمي؟ وكل ما يصنفها في دائرة التهميش أو الانحياز إلى فئات تفترسها المدن والمجتمعات التي تنبذ قيمها المعيارية والطبقية فئة بذاتها. فإذا كان الكاتب الإنكليزي الأشهر تشارلز ديكنز (1812-1870) قد رسَّم في رواياته بالوصف الدقيق الحياة في بؤسها ممثلة في تلك البراءة التي جسدتها شخصيات روايتي اوليفر تويست، وديفيد كبرفيلد. والرواية بالمعنى العام في بنيتها الوظيفية لا تجيب -كما يفترض- مباشرة عن رأي حول قضية بذاتها؛ فالفرق بين الرأي وما تستنكه الرؤية السردية كتعبير عن ظُلامات اجتماعات بواسطة شهادات مجازية تكشف عنها اللغة الإنسانية في دائرة احتجاجها في مواجهة الطغيان. فحياة المشرد (آدم كسحي) بين صدمة الحقائق الحياتية وسياق التطور السردي. وهكذا تعبر الرواية عن مواقف سياسية أو اجتماعية أو وجودية تعبر عنها دراما السرد الروائي.

أدب الهامش: 

في هذه الرواية يشير الصويِّم إلى أن الأدب كان دائما له دور في التغيير والانتقال مستخدما أداتي الإدراك والوعي، ثنائية من ضمن آليات المعرفة في بعدها الفلسفي وشعوراً عقلانياً مُسنداً بالتراكم المعرفي بما يعكس الحياة ضمن محددات المسارات التاريخية للأدب. ولكن يبقى الأدب محملا بعبء هذا التغيير في وجود وتزايد الإزاحة التي تنتج فئات دون الطموح الانساني. يفترض الصويِّم أن الأدب حين يكون أدباً أصيلاً وخالصاً وإنسانياً بإمكانه خلق حالة تواصلية إنسانية يتوحد عندها الشعور بالألم أياً تكن المسافات التي تفصل بين الناس. الرؤية هنا مشبعة بتفاؤل ربما أوحت به اللغة التي يتبناها الأدب، والأدق أن شخوص الصويِّم الروائية التي تناولها في روايته (ذاكرة شرير) استطاعت أن تتوحد بالشعور الإنساني في مجمعات الشماسة (المهمشين). فالشخصيات الروائية هي في الأساس من خلق الكاتب كما يرى الناقد الروسي ميخائيل باختين في تناوله للمشكلة الشعرية لدى دستويفسكي. فإذا كانت هناك شخوص، يفترض وجود مجال حيوي أياً تكن درجة تهميشه يتجذر فيه المشترك الإنساني من لغة وثقافة وحالة من الحوار تتيح له التعبير والتعامل. وهي الوسائل التي يحتاجها الأدب في تصوير الواقع قبل تغييره، لأن المتخيل الأدبي لا يحول واقعاً ما إلى إحالة مروية Narrated من واقع أدوات ذلك الواقع. فاللغة والثقافة التي تعبر بها الشخوص (المهمشة) لا تنتمي إليه من حيث السياق الدلالي لأن المفردات اللغوية - برأي الصويِّم – تتحول إلى علامات دالة عليه في المتن الروائي. وعليه تقف اللغة عاملاً محايداً وليست أداة تواصل بين ما يراه الكاتب وشخوصه في النصوص والواقع. إذاً الرواية تتوطن اللغة المكتوبة بها معبرة عن واقعها مقيدة بالانتماء الاجتماعي اللغُّوي المتداخل ثقافياً مع تصوراتها المسبقة.

وتتجلى الهوية السردية في الرواية العربية منذ ظهورها في بدايات القرن العشرين كجنس أدبي جديد على خطاب السرديات العربية، ولأن الهوية السردية تمثل شخصية البناء الروائي في الخطاب السردي، إذاً يعد ظهور الرواية هو ظهور للهوية السردية. وعلى فرض أن الرواية العربية من حيث تتبع تاريخها على نحو ما ينزع اليه مؤرخو الأدب والنقاد يعود إلى بدايات ظهور الرواية باعتبارها نمط كتابي حديث لم تبدعه الكتابة العربية تزامن مع صعود ما عرف في التاريخ الثقافي العربي بالنهضة العربية. 

لا تخلو مسيرة حياة (كسحي) من مفارقات عادية محتملة الحدوث في حياة الشخص الطبيعي دون أن تحدث خللاً يُؤطر للشخصية الهامشيِّة في مسلكها الحياتي العام. فالرغبة والرهبة نزعات كامنة في النفس البشرية، لا يحدُّ عنها إلا المرجعيات السلطوية القائمة في مُسطّحات المجتمع ظاهرياً. ولكنّا نقف أمام خصوصية ثقافية على مدى تحرك الشخوص الروائية ودرجة استجابتها ومقاومتها للتهميش. يحدث هذا ويُعبر عنه بطرائق غير مألوفة في ممارسة الاحتجاج والرفض نسبة لاختلاف الخبرات الاجتماعيِّة والنُظُم التي تنتجها ثقافة المهمشين في رواية (ذاكرة شرير) في مقابل نظم مغايرة وأكثر تطوراً لأنها منظومات ثقافية ينطبق عليها الوصف الأنثروبولوجي للثقافة في ظروفها البدائيِّة. فثقافة المهمشين وغيرهم من الفئات المعزولة كغيرها من الثقافات التي لا تقبل الاختزال، أو الاندماج بالتعبير المعاصر في نسق الثقافة المهيمنة. ويطالب الصويِّم الكاتب (الأديب) بسلسلة من الخطوات التي يجب اتباعها للاقتراب من دائرة المهمشين لفهمهم والإحساس بآلامهم وذلك بالتماهي والذوبان الشعوري لسبكهم جمالياً في منجزه الأدبي. ومن الواضّح أن هذه الخطوات تضع حداً بين إنسانية هؤلاء المهمشين المفترضة والمصدر الذي يتعاطى معهم كقضايا وعينات للبحث أو مادة تلهم النصَّ الأدبي – لسبكهم جمالياً- لإنجاز مهام البحث أو حشدهم لإغناء النصّ الروائي. وتوحي محاولات الكاتب في الاستفادة من مخزون آلام الإنسانية بالقصور أو العجز عن لعب دور أكثر واقعية مع قضية يتصدى لها بأدوات كبيرة التأثير.

السيِّاق النقدي: 

رواية (ذاكرة شرير) نص روائي له استثناءاته السردية وقد أخضعته العدِّيد من المقاربات النقدية للنقد والتحليل والدراسة التي تفاوتت في رؤيتها -النقدية-ومستوى التحليل التشريحي للنص. فأياً تكن تلك الاستقصاءات النقدية للرواية، وأي رواية أخرى فثمة أبعاد يعسُر على النقد استجلائها. فهي عناصر متباينة يتركَّب منها النص السردي. ونجد مقاربات وكتابات نقدية عديدة حاولت تشريح النص الروائي (ذَاكِرة شِّرير) بمفهوم الناقد الكندي توماس فراي، وإن يكن غالب تلك الكتابات قد تعمقت في رؤيتها النقدية مستخدمة أدوات كلاسيكية في النقد وممارسته الإجرائية. ومن تلك الدراسات منها ما أنجزته أقلام سودانيِّة وأخرى عربية: عامر أحمد حسين، صلاح النعمان، ومحمد علي العوض وأسماء عربية: أحمد فراج النابي، وأنطوان جاكي، ولنا عبد الرحمن وغيرهم. وتعدُّد هذه الزوايا النقدية يؤكد للوهلة الأولى أهمية الرواية بما أثارته من حدث له أهميته في مسيرة كتابة الرواية السودانية في العقديين الأخيرين؛ وهذه المراجعات النقدية يلاحظ تركيزها على ظاهرة (التهميش) كما تجسَّدت في شخصية (آدم كُسحي) التي تكشف حياته المتصاعدة بين أحداث النص عن بؤر أخرى فتقول الناقدة الدكتورة لنا عبد الرحمن قد كتب من العتمة. والعتمة هنا مكان ينتمي إلى بؤر اجتماعيِّة أدرجت كشريحة تحتمل صفات وسمّات بشرية من نوعٍ آخر. دفع بنا نص الرواية عبر شخوصها وأقبيتها المكانيِّة إلى مواجهة خياري الانحياز والحياد، فالنصوص الأخرى التي عالجت هذا الواقع عرضت شخوصها عبر مسارات السرد إلى استجداء التعاطف والرثاء، مما أضرّ بالقيمة الفنية للعمل، لتقسيمه إلى وحدات مصفوفة لكل شخصية على حدة. فشخصية آدم كسحي تعلو على الوصف الفيزيقي للجسد العاجز الكسيح، إلى الرغبة في الانطلاق وإرادة التمسك بحق الحياة. هنا تقف الشخصيّة شاخصة معبرة عن المكان بمحدوديته كمثلث الأسمنت أو مجاري المدينة التي اتخذتها تلك الفئة بيوتاً. استطاع الصويم عبر الذاكرة رسم الشخصية وتفعيل المكان، وهو ما يفيد في الكشف عن خبايا الذاكرة التاريخية على سبيل المثال.

بينما اتجه الناقد السوداني أبو طالب محمد إلى قراءة مفارقة (مفارقة في خطاب التَّابع التاريخي) في مقاربة ضوء مدرسة التابع Subaltern دراسات ما بعد الاستعمار إذ يرى أن الرَّواية بقضاياها وشخصياتها وأمكنتها وأزمنتها ومسارات تحركات سردها أعادت كتابة التاريخ من أسفل أي من المجتمعات الإنسانية التي تعيش على الهامش بسبب الحروب والمجاعات والتشرد والفقر وغياب الخدمات المجتمعية؛ مما أجبرهم على المجيء إلى المدينة لممارسة حقّهم الطبيعي في الحياة. وهم في الرواية جماعات تضمّ معسكرين معسكر المتسولين المسالمين ومعسكر المتسولين الأشرار، وفي التصنيفين دفعتهم أسباب مُلحّة إلى المدينة. هذا التوجّه السردي أعاد كتابة التاريخ الاجتماعي من أسفل لأنه وضع فئة المقموعين والمهمشين في موقع المؤرخ المنحاز إلى قضايا التهميش في المجتمعات ذات التناحرات القبلية والحروب المسُتعِّرة.

ولم يبتعد كما أسفلنا النُقَّاد عن التركيز على قضية الإنسان المُهمش وهي ثيمة الرواية، فيرى الناقد فراج النابي: هي رواية مفعمة بالحسّ الإنساني والعواطف الماثلة في الوفاء وعدم النقمة والضغينة، جاءت بلغة شعرية منسابة كالنهر، مبتعدة عن الحوارات الخارجية إلا فيما ندر، منحازة للداخل لتكشف عمق الشخصيات، لذا يميل السَّرد إلى الغنائية التي تتقارب مع السَّرد الملحمي الحزين، فتغرقك في هذا العالم المدقع تارة، وتسمو بروحك في تعاطفك مع شخصياتها دون أن تدين أحدًا منهم بل تجد نفسك في غير موضع مُتحسّرًا على نهايتهم، وفيًا لهم رغم غيابهم تارة ثانية، وهي رسالة جميلة قدمها النّص نخرج بها رغم صِدامية العلاقة التي تجمع أفراده، القائمة على التواطؤ والخيانة."

وتكتب كاتبة الغارديان والمترجمة البريطانية آليس كوثري: "إن كتابات الصويِّم تنقب عميقاً في الأوعية الجنس- نفسية للعالم التحتي وفي التجاويف الخفية لثقافة المدن. فالصويم يستكشف المعضلة والجوانب الخفية في سياق إنساني أرحب بشكل عام وعن بنية مجتمع أفريقي من النادر أن نصل إليه. إن الوحشية والمشاهد القاسية في هذا الكتاب الرائع (ذاكرة شرير) وقدرته على رسم التداخل بين عوالم أكثر قطاعات المجتمع السوداني تهميشا ربما قورنت بالخبز الحاف في مذكرات العالم التحتي للروائي المغربي لمحمد شكري. وتتوصل الكاتبة الى القول إن: غض النظر عن المشاهد الحسية ولكن هناك سرد قيثاري/ غنائي Lyrical Prose لا صلة له بلغة محمد شكري الفظة".

وإذا كانت الدراسات النقدية التي تناولت رواية (ذاكرة شرير)، قد مارست مهمة البحث عن الهوية بأدوات سردية وهي هوية تصنف داخل المفهوم الثقافي بتناولها لقيم متباينة بين فئات طبقية متخلفة في تشكيل روائي يعني بالهوية في بعدها الإنساني سواء أكانت ذاتية، أم جماعية أو ثقافية ولأن الهوية في بعدٍ أخر تؤسس الهوية على انفصال بينما الداخلي والخارجي، مما يجعل الناس يعتقدون بأنهم لديهم سلطة هوية مضمرة بدواخلهم ولم تستطع المدينة على محاولاتها القاسيِّة نزع جذور المجتمعات من أصولها الثقافية كما عبر الراوي بصوته:

"الهدهدة ما كنت أحسه وأمي العظيمة مريم كراتيه تضعني على حجرها، تطوقني بيد وتدس بالأخرى خرقة القماش في فمها وتمص ذرات السلسيون المعطونة بين ثنايا القماش على سطح عربة تتأرجح برتابة وتتحرك ببطء بدأت أتعرف على الأشياء والحظ الناس، الوجوه المحايدة والأجساد التعبة. من على السطح المتأرجح عرفت لأول مرة عرفت الحمير والجمال وشاهدت الأطفال وهم يجرون وراء القطار لأجل التقاط أقراص الخبز المقذوفة من داخل العربات. جيراننا فوق السطح المتأرجح كانوا يهبون أمي قطع الخبز والبيض المسلوق ويسألونها وهم يمررون أصابعهم على شعري الناعم عن اسمي. اسمه "آدم" ترد أمي.. "آدمو"، ثم تضمني إلى صدرها وتقبلني لاكتشف طعم (السلسيون) الفائح من شفتيها، استنشقه بلذة وأتابع بعيني البريئتين الرجال الجهمين وهم يهددون الأم العظيمة بقذفها من على السطح أن لم تدفع. تحل ثوبها المعقود بعناية وتعطيهم الأجرة الالأحالجرة وهي تسبهم بلغتها الخاصة التي نسيتها الآن. الأيام الخمسة أذكرها بوضوح وكأنها تدور الآن أمامي".

تَقاذفت حياة (آدم كسحي) الأحداث، وعبثت بها سلسلة من المصائر غير المنطقيِّة في تسلسها لمعاقٍ بضرورة طبيعة الأشياء؛ ولو لم يفعل بأكثر من الوجود بين خيارات لم يكن معها تفاوض. ففقد الأم الفاجع في عالم التشرد والمخدرات وعدميِّة حياة غير مساءلة لذلك الوجود في واقعتيه المعبرة عن هشاشة بنية اجتماعية معلولة توسم بالتشرد Homelessness. عالم طرحه السرد دون تحيِّز يُسيِّغ احتجاجاته المضمرة وتوَّقه إلى شعارات العدالة والحرية والمساواة وتواجد إنسان يعاني من قصور ذاتيِّ (البطل). وتمكنت الرواية من التمهِّيد نحو تكوِّين نصٍ قابل لكل صور المقاربات النقدية من القراءة الموضوعية إلى تحليِّل الشخصيات الموظفة داخل النص الروائي.

يتجدَّد السرد لدى الصويم في هذه الرواية تلازماً مع طبيعة النص الروائي بوصفه نصاً ينفتح بحسب النظريات السردية التي أطرت تعريف الرواية الحديثة من كونها نص قابلاً للانفتاح البيني بتنوعه المتجذر في أكثر من مجال معرفي وتعبيري فني. وبما أن التجدد لا يعني مفارقة تقاليد متوارثة لمسار ابداعي حديث نسبياً (الرواية) فهو من جهة يمثل في عالم السرد الذي يعد وحده العالم كما يعرف الفيلسوف الألماني هيغل الذي يستدعي الإشكالية الذي تحقق فيه الروح نفسها في الفكر والممارسة الاجتماعية. وهو ما يمكن تفسيره وبالتالي تطبيقه على رواية (ذاكرة شرير) بالشكل الذي طوره – سرديا- الصويِّم في شكل الكتابة وأفق السرد الروائي في أكثر من مستوى:

مستوى الكتابة والانتقال: 

تعد الرواية الثانية بعد روايته الأولى (تخوم الرماد)، امتدت المدة الزمنية الفاصلة بينهما خمس سنوات وبعدها تشكل وعي بالكتابة وتطور في الأدوات والوعي السردي وهذا ما يظهر جلياً في رواية ذاكرة شرير من حيث:

  • مستوى الاستخدام اللغوي (مهارات، تقنيات الكتابة السردية).
  • ازياد التجربة والوعي واتساع في رؤية العالم والتعامل معه سردياً (افق السرد).
  • القدرة على التركيب المعقد والحاذق (بناء الشخصيات الروائية).

عناصر روائية: 

  • صوت الراوي البطل (آدم كسحي) علاقته بأمه التي ترحل باكراً ومن ثم تطور علاقاته بين وهيبة وسلوى وتنقلاته.
  • هيمنة شخصية كسحي بأدواره المختلفة في النص إلى جانب أصوات أخرى مؤثرة (شخصيات الرواية، حاج محمدو، أمه، .... الخ).
  • تناولت قضايا المعاقين والشحاذين والمشعوذين ومن هم في حكم التغييب وبالطبع غير المشمولين بقوانين المواطنة.
  • وتعرضت الرواية لشرائح مصابة بالاعتلال الاجتماعي في واقع تمكنت فيه من كشف للتناقض الذي يعيشه المجتمع من منظور اجتماعي وديني في بلد تتنازعه هويات تعددت فيها الهوية والإثنية وشروط التكوين ودرجة الاعتراف على مستوى التكوينات الاجتماعية والسياسية والإثنية وكل ما يشكل صراع الهويات والطبقات.
  • بنية الرواية (وفق التقاليد السردية) الشكلية للرواية مع محاولة في الابتداع او التجاوز (التقنيات المستخدمة).
  • اتقان الصياغة السردية وهي ما نقصد به تكييف اللغة ونصاعتها (الشعرية) وهي لغة مكثفة اعتمدت على دقة توصيف المفردة والإيحاء الرمزي.
  • التحكم بالتصاعد السردي (تطور الأحداث) والشخصيات داخل السياق المنطقي للحدث السردي دونما اخلال في كامل المساحة السردية (فضاء السرد).
  • الاستفادة من تقنية القصة القصيرة في إيجاز المقاطع السردية التي تظهر جلياً في ضبط بعض الصور السردية.
  • دقة الوصف امتد الى أهم مرتكزات الرواية (المكان Sphere) لا يكاد مكان لا يوصف إلا تجده مشبع باللغة وبارز بقوة اللغة والحدث نفسه (مثلث الأسمنت الخصيب)، الشوارع، الأسواق، الانفاق. وكلها بيت حيث تأوي الإنسان في التعريف المعروف للناقد الفرنسي غاستون باشلار للمكان.

جانب موضوعي: 

  • استطاعت أن تتوحد بالشعور الإنساني في مجمعات (الشماسة، المهمشين). فالشخصيات الروائية هي في الأساس من خلق الكاتب كما يرى الناقد الروسي ميخائيل باختين في تناوله للمشكلة الشعرية لدى دوستويفسكي.
  • وقد نُزِّع عن شخصياته المسكوت في طبقات العقل الاجتماعي الجمعي. ولا تخلو مسيرة حياة (كسحي) من مفارقات عادية محتملة الحدوث في حياة الشخص الطبيعي دون أن تحدث خللا يُؤطر للشخصية الهامشيِّة في مسلكها الحياتي العام.
  • فإذا كانت هناك شخوص، يفترض وجود مجال حيوي أيا تكن درجة تهميشه يتجذر فيه المشترك الإنساني من لغة وثقافة وحالة من الحوار تتيح له التعبير والتعامل. وهي الوسائل التي يحتاجها الأدب في تصوير الواقع قبل تغييره، لأن المتخيل الأدبي لا يحول واقعاً ما إلى إحالة مروية Narrated من واقع أدوات ذلك الواقع ومن هنا تمكنت الرواية من ترجمة هذا الواقع إذا جاز القول سردياً.
  • اللغة والاحالات الثقافية التي تعبر بها الشخوص (الشماسة) لا تنتمي إليها من حيث السياق الدلالي لأن المفردات اللغوية - برأي الصويِّم - تتحول إلى علامات دالة عليه في المتن الروائي. وعليه تقف اللغة عاملاً محايداً وليست أداة تواصل Communitive toolبين ما يراه الكاتب وشخوصه في النصوص والواقع الطبيعي الآخر الذي لا يملك قدرة التوصل إلى فهم ما يجري حوله، حالة من التغييب تتطلب من الكاتب (الأديب) التعامل مع نتائجها لا مسبباتها من خلال تسليط الضوء على آلامها.
  • ومع إن الاستخدام المكثف للمفردة اللغوية لتصوير واقع تلك الفئة لا اشكال فيه، ولكن عند الحوار اضطر الروائي الى مفردات وعبارات عامية قصيرة. ومن هنا برز في النص ما يمكن ان يكون تردداً في جعل الشخصية تعبر عن ذاتها بين لغة متعالية وأخرى واقعية وامنية وهذا جانب ربما لم يعد نقدياً وارداً منذ سبعينات القرن الماضي.
  • امتدت الرواية من خلال ثمانية فصول كعمل سردي متوازن بين التخيل السردي والسيطرة على الأحداث والشخصيات المعقدة والنسيج السردي المتماسك، ويبقى الأهم أن الصويم صورّ بدقة متناهية شريحة اجتماعية لا صوت لها.

لم يستدع الصويَّم الهامش في سرديته الروائية على نحوٍ ما يقتضيه الخيال السردي في تكوين نصه الروائي من منطلق السَّبق في الوصول إلى مسكوت اجتماعي وحسب، فقد تجلَّت التصورات الإنسانية بل والوجود الإنساني نفسه في فعل مقاوم وإن لم تكن المقاومة بأدواتها السردية مقاومة متخيلة، بل استمرار في الكشف عن مواطنها كما تجسدها المجتمعات. وبذلك استعاد الصويِّم في رائعته (ذاكرة شرير) الجوانب الإنسانية المنسية – المهمشة – التي تشكل نسيجاً مجتمعياً تتناقض قيمه إلى حد المفارقة غير المنطقية في تفاعلاتها اليومية.

وتظلُّ رواية الصويِّم عملاً روائياً خلاقاً في تصديه السردي لقضية جوهرية تتعلق بهوية الإنسان (المهمش) دون انحياز إلى تمثلاته النمطية في السردية العربية من التهميش الديني والطائفي والجغرافي، وغيرها من سياقات وأحزمة يوجد فيه المهمشون من قرى ومدن (المكان)، بل تجلَّت في إبراز الإنسان المهمش بتتبع تفاصيله الإنسانية اليومية بتصور روائي إبداعي.

إشارات مرجعية: 

  • روايات منصور الصويم: (ذاكرة شرير، تخوم الرماد، آخر السلاطين، أشباح فرنساوي، عربة الأموات، طُحلب أزرق – مسودة غير منشورة، مجموعة قصصية (كانت وكانت هي الأخرى).
  • منصور الصويم، بورقة بعنوان: "اللامنتمون والطبقات الدنيا"، مؤتمر الرواية، ليون، فرنسا 2013م.
  • فيصل دراج، الشر والوجود في أدب نجيب محفوظ.
  • فريدرك نيتشه، ما وراء الخير والشر
  • أنطوان جاكي، "ذاكرة شرير" لمنصور الصويم بالفرنسية.
  • ناصر السيد النور، التهميش في الأدب: رؤية منصور الصويم.
  • هويدا صالح، الهامش الاجتماعي في الأدب، قراءة سوسيولوجية.
  • بركة ساكن، رواية مخيلة الخندريس.
  • رانيا مأمون، رواية ابن الشمس.
  • ابوبكر خالد، رواية إنهم بشر.
  • عامر أحمد حسين، ذاكرة شرير سرد الأنا المفرد لسجن الروح والجسد، بحوث في نقد الرواية - أوراق المؤتمرات العلمية لجائزة الطيب صالح ٢٠٠٣/ ٢٠٠٨، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي.
  • أبو طالب محمد، ذاكرة شرير مقاربة في خطاب التابع التاريخي.
  • صلاح النعمان، ذاكرة شرير خطاب المقموعين أنسنة الهامش.
  • أحمد فراج النابي، منصور الصّويم يوهّج اللغة في (ذاكرة شرير).
  • لنا عبد الرحمن، قراءة في "ذاكرة شرير": للروائي منصور الصويم.
  • منتدى الرواية السودانية، مناقشة رواية ذاكرة شرير، مجموعة من النقاد 2021م.
  • الملتقى السوداني للسانيات – مائدة مستديرة حول رواية ذاكرة شرير 2021م.

France Meyer, Souvenirs d'un enfant des ruesb,

William M. Hutchins, Rouge’s Memory, Banipal (spring 2016).

Mikhail Bakhtin, Problems of Dostoevsky’s Poetics

Charles Dickins, Oliver Twist, David Copperfield.

Mary Shelly, Frankenstein.

Northrop Frye, Anatomy of Criticism

Alice Guthrie, Mansour Al-Souwaim’s Memoirs of Wicked

Francis, Fukuyama, Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment.

Gaston Bachelard, the Poetics of Space

###


* ناقد ومترجم سوداني.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم