صدرت عن دار المصورات السودانية للنشر السودانية بالقاهرة رواية (أقراط الحلفاوية) للكاتب السوداني والإعلامي البارز عبد الحفيظ مريود، وتأتي هذه الرواية بعد صدور مجموعتين قصصيتين (حبشيات، متحرك القلب).  

ويُعد الكاتب والروائي عبد الحفيظ مريود من الكتاب الذين أسهموا بشكل بارز في تطور كتابة القصة القصيرة في تسعينات القرن المنصرم. 

ويعد من أميز كتابها في السودان من الذين اجترحوا بعداً قصصياً يتساند إلى التكثيف اللغوي وتوظيف البعد المعرفي في النص القصصي. 

وفي هذه الرواية التي تعد الأولى للكاتب تجسدت فيها تجربته السردية وخبرته المعرفية في أشكال وموضوعات الكتابة المختلفة التي مارسها طوال ثلاث عقود فقد عمل الكاتب صحافياً، ومعداً برامجياً ومدرباً إعلاميا وأحد ألمع كاتبي السيناريو للأفلام الوثائقية حيث بُثَّت أفلامه الوثائقية التي تناولت جوانب سياسية وتاريخية وفنية في كبريات القنوات الدولية؛ وحاز بعضها على جوائز دولية. 

ومن المتوقع أن تثير هذه الرواية التي انتظرها القراء طويلاً في الوسط الأدبي والنقدي الاهتمام لما يتمتع به صاحبها من مكانة وسط نخب الكتاب والمثقفين. 

ومن ثّمَّ، فأن تصدر هذه الرواية (أقراط الحلفاوية) بعد هذه التجربة الطويلة في ممارسة الكتابة، لابد أن تثير أسئلة تتصل بالخطاب السردي وكيف أن التَّوهج السردي الإبداعي قد تعوقه أسباب قد تتصل بنشر الأدب في بعده الإحصائي أو ظروف النشر أو مما يعيق عادة انتاج الأدي عادة لأسباب باتت معروفة في الواقع الثقافي السوداني.

 وتضعنا هذه الرواية في أفق السؤال حول مدى الاستجابة ومدى فاعليتها هذا التراكم المعرفي والكتابي المنبثق عن الممارسة وما تضيفه إلى رصيد الروائي وهو يستعد لتشكيل رؤيته السردية وفق ما تحدده اختياراته. والخبرة الكتابية إن جاز الوصف هي ما يقترن في المفهوم النقدي الخطابات السردية أو المحايثة مضافاً إليها التجربة في القراءات السردية وجملة من مخزون لغوي مع وجود مسبق ليس للموهبة وحسب ولكن للرؤية السردية Narrative Vision المكتسبة التي تساعد على تكوين الفضاء السردي وتوسع من دائرة تغطيه لأحداث وشخوص روائية لا تساكن نصوص النص الروائي؛ ولكن تتنزع ديناميكية حركتها من عملية الإنشاء الروائي وتفكيك الواقع الذي ترحل تصوراته إلى النص الروائي.

ومن هنا كانت أهمية روايات كُتَّاب الرواية الواحدة التي أحدثت (تحولاً) أو بقيت علامات فارقة في تاريخ الرواية ومنها: رواية جورج ميتشل (ذهب مع الريح) أو رواية الشاعر الإيرلندي أوسكار وايلد (صورة دوريان جراي) ورواية (لوليتا) فلادمير نوبوكوف غيرها من أعمال. وكذا الأمر في السياق العربي رواية (الخبز الحافي لمحمد شكري، وثمة رواية خلدت لكتاب دون غيرها وتسيدت على ما عداها من انتاج الكاتب نفسه كرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح.

الرواية: البنية والتشكل

ومع أنها الرواية (أقراط الحلفاوية) الأولى للروائي، فلا تعد تجربة أولى لكاتب متمرس في ضروب سردية اختلفت في الوصف المحدد لشكل الرواية لا تقنية الكتابة السردية والتي تجعل من هذا النص نصاً روائياً تقبع من ورائه خبرة ومهارة تطويع للصورة السردية وإعادة تشكيلها وفق آليات البناء الروائي.

 وربما مثلت الصورة السردية ههنا تقاطعاً بين تجربة الكاتب في كتابة السيناريو والمكنة في اللغة والقدرة على رؤية الشخصية مجسدة على النص الروائي. فارَّتسمت ملامح الصورة السردية وخلقت نصاً روائياً دون أن يكون رهيناً لمحددات الصورة السردية نفسها واستفادت من الطاقة التحويلة التي بثتها الصورة الواصفة إلى النص visualization المُخصبة سرديا، فالصورة وحدها ليست كافية في تشكيل النص الروائي إذا لم تتخللها أضواء سردية كاشفة تبين قدرة النص وحركته بين الأحداث والشخوص وعناصر المكان والزمان وكل ما يقترن بالرواية في بعدها الكلاسيكي أو تعريفها داخل تعريفاتها النقدية أو طرائقها الأسلوبية. 

ويقول الناقد والمفكر ادوارد سعيد متحدثاً عن الروائي الإنكليزي الأشهر جوزف كونراد: كان المعنى الذي أنتجته الكتابة أقرب إلى الملامح البصرية التي لا يمكن للغة أن تقترب مها إلا من الخارج وعند بعد يبدو انه ثابت".

تنطلق أحداث رواية (أقراط الحلفاوية) بصوت راوٍ عليم عبر فصول ثلاث تشكل بنيتها الفنية وصفاً لرحلة قطار مخاطباً على عادة ما يرد في الرسائل (سيدي الطيب لك الود أجزله) النداء الذي سيتكرر لاحقاً في مفتتح فصول وأجزاء الرواية مما يضع يشدنا إلى الالتفات إلى مدخل العنوان أو ف عتبته وفق يعرف باستراتيجية العنوان في الدراسات السردية؛ وكل ما تعده من سياقات تحليلية تخضع (العلامة) دلالة العنوان للتحليل السيميولوجي ولما يقوم به من وظائف في السرد، حيث تبدأ أولى عتبات النصّ حسب الملاحظات المنهجية النقدية التي تُعوِّل على العلامة كواحدة من الدلالات النصِّية في تكيّف الإطار الشكليّ للعلامة.  

وتكاد الرواية تتكثف في الفصل الأول من حيث مساحته وزخم الاحداث وتجلي رؤية الرواية وما تحتويه انساقاها اللغوية والسردية والفنية وكل ما يشكل المدخل الذي ينفتح على الرؤية الجمالية في الوصف والبناء السرديين. كثافة الاستخدام المادة العلمية الذي ينبي عن قراءات فكرية وفلسفية ودينية متبحرة قد تضيق بها الرواية ولكن لم تسلم من التسرب الذي كاد في بعض المواضع أن يتداعى في زخم التصوير الواقعي المباشر للحد الذي ينفصل بالمادة عن سياقها السردي.

ومع أن الرواية تدور بتركيزٍ أكثر حول شخصية (الحلفاوية) -عنوان الرواية- وبالتالي تندرج في مساحة سردية (الفضاء) تتزامن مع حزمة أحداث تتجدد على مدى تطور الأحداث والشخصيات وتحولاتها داخل النص.

يلعب الراوي دوراً رئيسياً ويمثل صوت مهيمناً protagonist يطغى على كافة أصوات الشخصيات في الرواية، وهو في دوره التبادلي بين أحداث الرواية والشخصيات المركزية (زهير، القمراوي، العم الدومة ...الخ) ويقود الراوي الأحداث متحكماً بكافة تفاصيلها. ويستأنف الصوت الآخر (القمراوي) حكايته داخل النص الراوي حكايته داخل النص الراوي إلى جانب تطور الأحداث في تشكيل نصٍ مركب تتعدَّد فيه الحكاية دون أن تنفصل عن سرد مجريات الأحداث على لسان الراوي. هذا الاتجاه لا يتوقف تفسيره عند حدود التعدد الصوتي Polyphony أو ما بات يعرف بالرواية البوليفونية التي لا يتعدد فيها الصوت كمصدر أوحد في التعدد مشمولاً بتعدد المواقف والشخصيات وتداخل الحكايات. والراوي دوره في سياق الأحداث تفاعلاً مع الشخصيات يسرد وبالتركيز على شخصية (القمراوي) الصوت المرافق للراوي والشخصية التي تصيغ الأحداث على خلفية مغامراته مع امرأة (الأمبراورية). 

وقد تمكن الروائي من تحديد الشخصية الروائية Fictional Character على الرغم من زخم الأصوات المتضمن في سرد تفاصيل حكايات الشخصيات الأخرى في النص. وهذا التمدَّد السردي عادة إذا لم تتقن مساراته في سياق الزمن الروائي يجعل من الحكاية السردية تكراراً ومتاهة لا تنفصل فيها الشخصية عن الراوي وتشويهاً للعمل واضعافاً لبنيته السردية.

تكاد الرواية تخلو من الحوار بشكله الكلاسيكي في النص السردي (رواية، قصة) ولكنها جعلت من تتابع السردي في الرواية حواراً متصلاً على اعتبار نظرية الناقد الروسي الأشهر مخائيل باختين في حوارية الرواية باعتبارها حواراً سردياً متصلاً. وهذا الحوار تتضّح مساراته في الحراك الذي تحدثه حكايات الراوي المتنقلة بين حكايات شخصية القمراوي وصولاً إلى حكاية الروائي نفسه مع الشخصية الحلفاوية المحورية. 

فالموقع الروائي والمسافة بينه والنص وعناصره السردية الفاعلة هو ما يفسر موقع الراوي والمسافة بينه وفواعل النص السردي مثل حكاية الجد الدومة على لسان شخصية القمراوي أي بقراءة بنيوية كما تذهب الناقدة يمنى العيد في تحليلها لموقع الراوي في رواية موسم الهجرة إلى الشمال:"... يبدو أن الحوار بين الأصوات وفي دينامية حواراً بين الموقعين في تناقضاتهما في سياق القول/الصياغة النامية في هيئة يتداخل فيه الأسلوب المباشر والأسلوب اللامباشر/ من يروي ومن يحاور، من يحكي ومن يقول بصوته". 

هويات سردية: 

المدخل الى الشخصية يفضي إلى الكشف والتعرًّف على الشخصية بملامحها داخل النص السردي أو بالشكل الذي ترسمه الأحداث السردية. فالرواية تشكيل نصي Configuration تكونه اللغة وما قرَّ من تقاليد كتابية في الرواية منذ ظهورها كجنس أدبي حديث إذا ما قورن بأشكال السرديات الإنسانية الأخرى في تاريخ أدب الشعوب كالشعر والملاحم والقصص (الشفاهي/الكتابي). والأهم من أبعاد الشخصية الروائية في الرواية نعثر على البعد الإثنواغرافي الوصفي بما تحتمله الظاهرة الأنثروبولوجية في تكوين للشخصية وهو وصف يبرز هوية داخل الهوية السردية.

فلكل شخصية بينتها البيئة المنصبة في تشكيلها الانتمائي القبلي الذي يحلق نعتاً باسم الشخصية في دائرة التكوين الجنالوجي Genealogy وفق دائرة انتماء قبلي ولغوي ثقافي. وتلك اللواحق لا تخلو من دلالة سيميائية وما تعنيه رمزيتها في البيئة (المكان) للشخصية مضافاً إليها الخصائص الثقافية كاللغة ووسائل التعبير الثقافي الأخرى. 

وضع هذه الشخصية داخل اطارها التعريفي بهويتها القبلية ... مثل الحلفاوية، والقمراوي والبقاري والرباطابي ...الخ كلها تشير إلى تكوينات اجتماعية تتواجد في خارطة السودان الإثنية كما يرد على لسان الرواي: سيخترق القطار ديار الجوامعة. والجوامعة متمدنون، حتى في قراهم النائية. مسالمون ومضيافون، لذلك تكثر في ديارهم جيوبٌ من القبائل الأخرى: الجعليون، الفلاتة، الهبانية، الدناقلة، الشايقية، الشنابلة، الكبابيش وغيرهم. 

فإذا كانت الرواية السودانية مؤخراً تناولت قضايا لاحقاً في سياق ما سمي بـ (جدلية المركز والهامش) أي تلك الروايات التي تناولت قضايا مناطق واثنيات ذات جذور سوسيولوجيا تحيزات الخطاب الروائي في جغرافيا كما يطلق عليها الناقد الدكتور احمد صادق بالجغرافيا المنهكة. 

فروايات عبد العزيز بركة ساكن وأبكر آدم إسماعيل ومنصور الصويم وغيرها قد تآخمت حدود لها وقعها السياسي والاجتماعي في العقل الجمعي. لا تعيد الرواية طرح إشكاليات اجتماعية أو نقدها على نحو ما أحدثته بعض الروايات مؤخراً؛ فهي لم تخلِ بل تكاد تحفر – إن جاز الوصف- عميقاً في طبقات تراكمت عليها صوراً من علِّل اجتماعية وعلاقة الراوي بـ (الحلفاوية) تدخل في هذا السياق على ما يذهب الراوي في علاقته بالحلفاوية " أكثر من مرّةٍ، سألتني الحلفاويّة إنْ كان في عروق أيّ دماء "عرب"، حتّى ولو كان جدّك الخامس عشر. كنتُ أستغرب ذلك. تقول إنَّ زوجة خالها، مفتّش الضرائب، وعدتها بأنّها ستقفُ معها وتحمل أهلها على الموافقة على زواجنا، لو كان أهله من عرب دارفور، فدارفور كبيرة، كما تقول زوجة خالها. 

تساءلني الحلفاويّة بجدّية، في مرّات عديدة:" لأىّ القبائل في دارفور تنتمي؟". أجبتُها مرّة " نحنُ من قبيلة التّعايشة". تسألني "هل هم عرب؟". أجيبُها "لا...ليسوا كذلك".. وإن يكن هذا المدخل موضوعياً لا يفيد كثيراً في قراءة الرواية من مقاربة نقدية تبحث عبر قراءة نقدية تحليليِّة تنزع إلى تفكيك خطابات الرواية اللغوية والفنية داخل التشكيل السردي، وكيف تمكن الروائي من تقدير موقفه تجاه حزمة قضايا ورؤى صاغتها شخصيات الرواية واحداثها.

ولكن تشكُّل الهوية السردية يمكن قياسها ونزّعها من واقع السياق السردي الروائي، وهنا تمكن قدرة الكاتب (الروائي) على إضاءة ما يخبو منها. فأبعادها النفسية والاجتماعية وما يتمَّحّلُ منها من نزوات ورغائب تستدعي عند المقاربة النقدية تحديدها وفق المستويات التي تخترق من خلالها النص السردي بحثاً عن الشخصية وهويتها؛ إذ أن الشخصية والهوية رغم تداخلهما إلا أنهما ينفصلان من حيث الوجود والفاعلية السردية على متن الخطاب السردي. على النحو الآتي: 

أن تنبثق الهوية من شخصيات النص السردي (الروائي) في سياق تطور الشخصية استناداً على ما يشكِّل الممارسات الثقافية الاجتماعية بالإضافة إلى تطور العناصر التكوينية الأولى، ويتماهى هذا المستوى من الهوية السردية مع تلك التي تسبق وجودها في السرد.

الإطار القاعدي للهوية السردية: وتحاول الشخصية السردية (الهوية) الإمساك بالفهم الديناميكي والموضوعي وربط ذلك بالتجربة التي صاغت هذه الشخصية ووضعتها في هذا الظرف الذي يمثل النص السردي ورؤية الكاتب في النص الروائي أهم مصادرها.

وبمتابعة شخصيات الرواية في تفاعلاتها المتباينة أمكن لها أن تتكون هويات في المعنى السردي حتى الشخصيات الهامشية التي ذكرت في الرواية دون تلعب دوراً على الرغم من وجودها النسبي في أحداث الرواية كشخصيات هامشية: دفع الله الأقرع، صديق يانس، خالد فخري، ليماء ...الخ وتقوم بالتواصل ضمن حركة الأحداث بالشكل الذي فيما يبدو أن الراوي استعان بها وإن يكن وجودها محدودا كشخصيات لا تنزاح من مكان لآخر أو تتفاعل بعيدا عن النسق المنطقي للحدث وبالتالي تنسب مواقفها إلى تصورات غير محددة في النص. فهي تدخل في الحكاية والحكايات السردية من داخل النص الروائي لا من خارجه، أي كأحداث استباقية Internal Prolepsis تنتمي إلى الحكاية بالاصطلاح النقدي.

تعدد المكان: 

من حيث المقاربة التقليدية النقدية فإن المكان في الرواية في حركة دائماً فتبدو الأحداث مترحلة من مكان لآخر (القطار، المحطات، المدن، القرى.. الخ) أو حسب موقع الحدث ومحور الشخصية فيه. 

فإذا كان وجود الشخصيات يمنح البعد الصوتي المتعدد؛ فإن المكان في رواية (أقراط الحلفاوية) وتنوعه الطبوغرافي (الوصف البيئي) تجسيد شامل ومساحة ايكولوجية شملت وصفاً لكل ما يتفاعل في المكان من أنماط وثقافات واحالات تاريخية كشفت عن مدى استخدام الروائي وتوظيفيه لعناصر المكان كاشفاً لدقائق التفاصيل الحياتية فجاء المكان مسحاً أنثروبولوجياً أخصب السرد في عملية تشويق متصلة في الزمن الروائي. 

وبهذا تكون الرواية قد أوجدت مكاناً لديه طاقته في استيعاب المكونات وبالتالي تطويرها بما تقتضيه الصيغة السردية للأحداث. فيأخذ المكان موقعه الجديد بما تنطوي عليه من علامات تجدد بضرورة الحدث السردي فاعليته في الموقع والزمن.

فإذا كان السرد كما يقول منظر الدراسات السردية ديفيد هيرمان مخططا من أجل تشيد عالمٍ ما فالفضاء بالتالي جزء جوهري من الفعل الذهني لإعادة تشييد العالم ما دام الخيال لا يمكنه إلا أن يصور الأشياء التي تبدو امتداداً فضائيًا. وعلى هذه القاعدة تمدَّدت فضاءات الرواية بما اشتملت عليه من وحدات مكانية تضمها جغرافية تتفاعل فيها الاحداث، وتبرز مكونات هذه الجغرافيا مما يزيد من قيمة المكان في النص السردي. 

وكثير من الروايات تغرق في تفصيل المكان دون تحريك مكنزماته التي تعمل على تحريكه وتمنحه بالتالي وجودة الفيزيقي (المادي) والروحي (الانطولوجي) في حوار متصلٍ مع بنية الأحداث. فالمكان يدعو إلى تقصي الحدث السردي من خلال تعدد وتنوع عناصره (الأحداث والشخصيات) التي تتشكل منها أهمية المكان والمسافة المتقاربة Juxtaposition بينه والشخصية الروائية في تكوين هويتها المرتبطة بالمكان وظروفه. 

ويتقاطع زمانياً بوصفه حركة بين موقع وآخر، فالقطار مكان وزمان ثم أن اختلاف تموقع الحكايات ما بين أحراش الجنوب ومغامرات الأمبروارية أو مدينة تستحوذ طقوسها اليومية حيث الحلفاوية في مغامراتها والراوي وأماكن أخرى يخترقها قطار حافلاً بحكايات الراوي وشخصيات الرواية الموجودة بفعل الحدث والسرد.

والمكان في الرواية لم يتأتى اخباراً أو وصفاً طبوغرافياً للطبيعية المادية الساكنة كوجود مسبق، فقد حلَّلت الرواية إلى حدٍ كبير عناصره بما يتسق وبنية الرواية السردية. فما بين معلومات تاريخية وأخرى ثقافية اجتماعية. تشير إلى العناصر دون أن تجعل منها مكونات متناقضة بفعل الوصف الروائي.

إن وجود المكان وجود ذي بعد زمني كما هو موضوع ملموس إلى جانب بعد زمني آخر يرتبط بالمكان من حيث تعاقب الأحداث؛ ويشكل ثنائية مفترضة في تكوِّين أحد أهم محورين في الخطاب الروائي (الزمكان) المصطلح الذي صاغه المنظر الروسي ميخائيل باختين Chrontope. أنه الموقع الذي يشكل مصدراً أو بنية تقوم على ما تجري عليها وتتفاعل من أحداث تنتمي إلى المكان بنسب متفاوتة وأحياناً حسب حدة الصراع بين مكونات المكان. وهو يصوره الروائي ذلك المكان بأنه " وربّما كان زهير ذاته طيفاً يسرى عبر الأزمنة والأماكن. 

من يدري أو يقطع يقيناً بأنَّ الشخص هذا أو ذاك، الذي نراه ونعرفه هو، وليس طيفاً أو شخصاً آخر جاء في اللحظة المعينة والتزم بقوانين المكان والزمان، للتوّ؟" فالزمن الذي تماسكت به الحكايات السردية داخل النص متزامناً لا بما يحدد الحدث السرد وقعه، بل ما تجسَّد من زمنٍ في الرواية يخضع الشخصيات إلى زمن ترمز حركته إلى حركة الشخصية في زمن السياق السردي نفسه. 

ولأن كثيراً من الأحداث استدعاء من الذاكرة خاصة تلك المتعلقة بحياة الراوي كشخصية لا تنفصل عن زمن الرواية في بعد زمنها التسلسلي Chronology الكرونولوجي وزمن الذاكرة حيث يكون التسلسل المنطقي لمفهوم الزمن الفيزيائي متجلياً بأبعاده المعروفة في الماضي والحاضر والمستقبل، فحين يقول الراوي: أخطِّطُ لبابنوسة، مرتع طفولتي وصباي، سلختُ جزءا من شبابي ههنا. أحبُّ هذه البلدة كما يحبُّ الرجلُ امرأتَه، وليس زوجته". ففي هذه الجملة الخبرية...

سطوة اللغة: 

شكَّلت اللغة في رواية (أقراط الحلفاوية) مدخلاً تأسيسي قامت عليه من حيث بنيتها الصلبة وقوة اشعاعها الرمزي مما يفيد بتجذر الاستيعاب اللغوي للروائي. فإذا درج النقد مؤخراً على إبدا الملاحظات اللغوية المستخدمة في الرواية العربية (المكتوبة باللغة العربية) بشكل يكاد يطغى على الاحالات النقدية الأخرى مما يعكس ضعفاً أصاب الخطاب الروائي في مكونه التأسيسي أي سلامة اللغة المؤسسة للنص الروائي. 

واللغة شرط أساسي في كتابة الرواية؛ ولكنها ليست كافية في تكوين بناء سردي بمتقضي شروط كتابة الرواية وتقنية اساليبها وتمثلها لغويا.

وهو اللغة التي استخدمت إلى حد كبير بشكل مختلف بين مستويين من الاستخدام والتوظّيف أو التشخيص في المتون السردية. فاللغة في حدود الاستخدام لا تعمل وظائفها في الترميز Symbolization والعلامات الدالة دون تدفق معرفي متصل يشكل ويوسع هذا الاستخدام بل ويجعل منه فعلاً مشروعا مسوغا وفق سياقات الخطاب المعرفي. 

لغة الرواية أو ما جرت عليه الكتابات النقدية (اللغة الروائية) لا تعدو أن تكون أكثر من حذاقتها بما يشيء بتراكيب لغوية تدخل في عملية البناء السردي. وبما أن اللغة لديها مستويات بحسب وضعها الوظيفي في النص يحدد بينتها المورفولوجية (التشريحية) وبين اللغة في المستوى العام، ولغة الرواية تدخل في لغة الادب Literary Language بالتصنيف اللغوي والمقاربة النقدية العام. 

فلغة الرواية تتراوح بين لغة مباشرة ولغة ترتكز على الثراء المعجمي باستخدامها الواسع للإحالات اللغوية والاقتباسات وتناصها مع المرموزات الثقافية ودقتها في الوصف باستنباط ملامح الشخصية وأبعادها في النص الروائي. وبهذا تماسك اللغة والشخصية الروائية حتى لا تبدو كشخصيات متناقضة وإن احالت الأحداث في سياق تطورها التناقض كنتيجة وليست سبباً ينبثق عن تعثر لغوي كتلك الحالات التي يضعف فيها التوظيف اللغوي وبالتالي يؤثر على أداء الشخصية الروائية. وبلاغة اللغة ليست لغوية تندرج في علوم اللغة ولكن بلاغية سردية أو استخدام اقصى طاقات التعبير اللغوي دقة: قال جدَّي بريمة " لأنّك جنديٌّ ستظل تقاتل، حتى ولو خبتْ نيرانُك الدّافعة للقتال.  حتّي ولو بلغ الشكُّ والرّيبة أعلي روحك. تقيسون المعركة بعقلكم وباتباع التعليمات.  لكنَّ هذه الحرب قديمةٌ يا بنيَّ. لم تبدأ معك ولن تنتهيَ بك. الفتاة ذريعتك لخوضها.  

وها قد زهدتَ في وقوفها إلى صفك، ولا زلتَ تقاتل. تريد امرأةً ستبيعك متي هبَّ نسيمٌ يحمل عطرَ رجل آخر، أفضل منك بمعاييرها؟؟! ستظفر بها رّبّما لليلةٍ، لشهرٍ، لسنة كاااااملة، ثم ماذا بعد؟؟ لغة سردية متصلة بأحداث الرواية تضعها من بين أفضل الروايات التي تشكل اللغة تكاثف لغوي يسبر عميقاً أغوار اللغة المستكشفة للمعني السردي حيث يخضع النصُّ الروائي إلى آليات السرد من منطلق أن السياقات السردية تتعالق حولها نصوص مُهجنة للبنية المحورية للخطاب السردي ومن ثم تتناص مع نصوص أخرى أو بما يعرف بالتناص أي مجموعات الخطابات الأخرى الموظفة في الخطاب الروائي. ويكون الخطاب الروائي قد أفلت من محدَّدات اتجاهات النقد الموضوعي وبالتالي التحليل البنيوي المنغلق على العلامات والوحدات البنيوية للغة.

هل كانت ثنائية الجدليِّة بين حكاية القمراوي (الامبراروية)، وحكاية الراوي (الحلفاوية) أم أن بعداً انسانياً حاولت به الرواية رؤية العالم ومن ثم تطبيقاً على الخطاب السردي في محاولة فهمه وتقديم تناقضاته لا تناقض شخصياته. إنها حلم في بعده وطن ترتجي صورته متحققة على التعدد باستيعاب ما يفهم منه تناقضات حقيقية أم متصورة، إذا كانت من تدخل الكاتب Author’s Intrusion فهي ما يسدد رؤية الكاتب نحو نص سردي بكل حمولاته. 

ومن بين المآزق الإنسانية ذات البعد الإنساني كالحرب " هذه الحرب التي تخوض، نخوضها وأجدادُك منذ آلاف السنين.  ذرائعُنا مختلفة. حُججُنا وافرةٌ في كلِّ مرّة. وقعتَ في طريقها اختياراً وليس صدفة. عليك أن تجتاز ولعُك بالأمبرراوية لتحوزَ السكينة، لتكملَ روحُك صعودَها إلى المعرفة الحقّة.  

عليك أنْ تصل إلى النّضج البليغ، أن تترك ما تحب وتشتهي في أوْجِ تسلطنه على روحك. أنْ تنحيَه جانباً، وأنت في أمسِّ الحاجة إليه. اصنع يقينك منذ الآن، وسألتقيك في واو...حين تكون الأمبرراوية نائمة إلى جوارك، كنوزُها مبذولةٌ لك، أقانيمُ جسدها الممجّد عامرةٌ بالطّيب، وتفوح دلكةٌ عابقة، تنتظر غزوك، ثم لا تقربها.  ليس أنفةً أو نقصاً بالرّجولة، وإنَّما تماسكاً وتوحداً مع عزمك "

تظل جاذبية الرواية ومحورها السردي (الثيمة) حين لا تنحصر في البعد التاريخي أو التوثيقي للرواية ودقة اللغة الواصفة وصياغاتها السردية المركبة من عناصر تقنية اسلوبية في الكتابة ومساحة فاعلية الخيال بقدر انتزاعها من بين السيرة السردية والتداخل سردية تستدعي الذاكرة والسيرة معا. وحملت رؤيتها في تفسير ما حدَّدته من اتجاهات توزعت فيها احداثها على مدى مسار الرحلة مما قربها من أدب الرحلات بكل ما يحتويه من مضامين شيقة ومعلومات غزيرة لا تقصر أهميتها في بعدها المعرفي، بل يعمق من مجمل الرؤية السردية. 

وتبقى رواية (أقراط الحلفاوية) كشفاً صريحاً عما تداعى من احداث خلفت آثارها على وطن وانسان تنازعته الأحداث كما نازعها في صراعه الابدي بين تحقق واخفاق. ولقراءة الرواية نقدياً ينبغي قراءتها إلى ما يتجاوز سياق الأحداث في بعدها السردي إلى وهو التحقق الذي يستدعيه بالمفهوم النقدي ما بعد النقد Metacritique لما تثيره الرواية من تعقيد وجدل يطال حدود قصية في التصور السردي والإنساني كما يقول الراوي: "كنتُ أصارعُ لأنْ أفصّل المعنى لأجلها، ليناسبها، لكنّها دائماً تكونُ أقصرَ أو أطوَلَ. أنحفَ أو أسمَنَ منه. فرجعتُ مؤمناً بأنّنا نحبُّ أشخاصاً آخرين غير أولئك الذين نلتقيهم ونتعرّف عليهم ونسير معهم، هنيهةً، أو ردحاً من الزّمان".

ــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارات مرجعية:

- رواية أقراط الحلفاوية

- تيتانيكات افريقية

- قراءات في النقد والرواية

- الموقع والشكل

- Mikhail Bakhtin, Problems of Dostoevsky’s Poetics

-  Edward Said, the World, the Text & the Critic

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم