يمهد الروائي الكردي السوري جان دوست لروايته «مجنون سلمى» بتوطئة يشرح فيها ظروف وملابسات كتابته لروايته وكيف أن هناك ظروفًا تسببت في ضياع جزء منها، بحيث تتصدر حكاية كتابة الرواية من دون أن تحاول أخذ حيز كبير، لكنها إشارة إلى استمرارية ظروف الاقتتال والتعارك التي تتخلل الرواية وترسم خلفياتها التاريخية في جغرافية لم تستدل إلى درب للتهدئة منذ قرون. يفتتح جان دوست روايته (دار رف، الرياض، ٢٠٢٣م) بتحديد المكان، في المنطقة الكردية على الحدود بين تركيا وإيران. أمير كردي؛ بدر بك، بلغ قرنًا من الزمان، يحتضر ويكون مرضه دلالة على مرض إمارته، وكيف أنه يخلف أوضاعًا بائسة وأسرة متناحرة يسعى عدد من أمرائها للظفر بكرسي الإمارة، ولو كان على حساب إراقة دماء إخوته أو أبناء عمومته.

يخوض جان دوست رحلة تخييل مبنية على علامات تاريخية في روايته ليرصد التناحرات والخلافات والمشكلات التي كانت تصم الإمارات الكردية في ظل السلطنة العثمانية، ويجري نوعًا من الإسقاط على الواقع، وكيف كان الأمراء الكرد حينها يتنازعون نزاعًا دمويًّا على السلطة ويستعينون بالآخرين لتعزيز مكتسباتهم على حساب إخوتهم وأهلهم، والاستقواء بالآخرين في محاربة الخصوم من الإخوة المتقاتلين فيما بينهم.

ولادة شاعر وموت أمير

ينسج جان دوست سيرة متخيلة عن شاعر حقيقي متصوف عاش بين ١٥٧٠- ١٦٤٠م، من خلال حكاية عشق غريبة متخيلة، تكتسب ديمومتها من خلال بقاء جذوتها متقدة في أشعار الشاعر التي تناقلتها الأجيال، والتي تتبدى وكأنها سجل حافل بمشاعر ملايي جزيري، الشاعر المتصوف العاشق الذي دمج في قصائده بين عشقه الإنسي والقدسي.

بمشهد احتضار الأمير بدر بك وولادة الشاعر أحمد يدخل جان دوست قارئه إلى عالم روايته، بعد أن يصف المكان والزمان بسرد تاريخي يستعين فيه بكتب تؤرخ لأحداث تاريخية، وكأنه يرمز إلى أن ولادة شاعر في تلك البقاع ستملأ الشغور الذي يمكن أن يتركه موت أمير؛ ذلك أن الشاعر يتحول إلى مركز للحدث، ويتراجع الأمير وذريته إلى الخلفية، وتبدأ الأحداث بالدوران في عالم الشاعر الوجداني. ينتقل صاحب «الشاعر والأمير» من مدة زمنية لأخرى، من دون أن يكترث للفجوات التي يمكن أن تخلفها الانتقالات الزمانية، بحيث تكون التحولات التي تطرأ على شخصية الشاعر من صباه إلى شيخوخته مركزًا للأحداث ومحورًا لها، في حين تكتمل المحاور الأخرى بالتقاطع معه أو التطور بما يخدم سلطة حضوره الطاغية.

يستعين الروائي بتقنيات وأساليب استخدمها في روايات سابقة له، وبخاصة روايات تاريخية برع في نسجها، كرواية «عشيق المترجم» حيث عشيق يحدث تلميذه أو صاحبه برحلته الحياتية التاريخية، وهنا كذلك في «مجنون سلمى» يلجأ الكاتب إلى التقنية نفسها، فيكون الشاعر أحمد راويًا لتلميذه قصصه وغصصه، حكايات قصائده وسرديات منطقته التي كان شاهدًا عليها.

يتكئ الكاتب على ما وصلنا من حكايات متداولة عن سيرة شاعر يحظى بمكانة خاصة عند الكرد في تاريخهم، وهو الشاعر المعروف بملايي جزيري، وتروى عنه أساطير شفاهية، بحيث تؤول قصائده وكأنها وثائق تؤرخ لوقائع وحكايات تجد لها مستقرات في الذاكرة الجمعية، بإضافات وتحديثات تناسب كل منطقة وكل مدة زمنية.

الشاعر والأميرة

يقع الشاب أحمد؛ طالب العلم في المدرسة الفقهية الشرعية في الإمارة الكردية، في حب الأميرة سلمى أخت الأمير، وعلى الرغم من أنه يدري بأن حبه محكوم بالفشل، فإنه يرضخ لسلطانه ويمضي وراءه باحثًا عن سُبُل للوصال مع أميرة قلبه، ولا يعدم أساليب الوصول إليها عبر مراسيل ينقلون رسائل عشقه التي تكون قصائده يفرغ فيها مكنونات قلبه.

يبتدع الشاعر أسلوبًا للوصال والتراسل، حيث يضع قصائده في أعواد قصب، ويلقي بها في النهر لتتلقفها أميرته سلمى، لكن ذلك لم يستمر طويلًا؛ لأن الأميرة تعود للواقع ولا تنساق وراء جموح حبها، تكتم حبها وتلقي به في قعر قلبها وكأنها تختم بدفنه هناك؛ لأنها تدرك استحالة أن تتزوج من رجل من عامة الناس، وهي الأميرة ذات الحسب والنسب.

تبث الأميرة سلمى لواعجها لمرآتها، تبوح لها بما لا يمكنها البوح به لأحد، تناجيها في وحدتها ووحشتها، تسرّ لها بأسرارها، تكشف لها عن محنتها في عشق الشاعر العالم، وكيف أنها ستبقى بعيدة منه كنجمة لا يمكن أن يطاولها عاشقها المتيم بها، وهي الساكنة بدورها في قصرها المنيف.

تكمل الأميرة حياتها كما يفترض بأميرة، تقترن بأحد الأمراء وتسكن معه في منطقة قريبة، وهناك تعيش حياتها الزوجية بهدوء وسلاسة من دون مشقات تذكر، تنجب أبناء وبنات وتسير في رحلتها الحياتية بعيدًا من الشاعر الذي يبقى وفيًّا لعشقه لها، ويرفض الاقتران بغيرها، وكأن قلبه لم يعد يتسع لأخرى، أو كأنه لا طعم للحياة إلا معها. يخوض الشاعر العاشق مغامراته الشعرية والحياتية بدوره، حيث هناك دومًا مَن يحاول تنغيص عزلته عليه، والتسبب له في المتاعب، كأحد الحاسدين من رفاقه الذي كان ينتحل شعره وينسبه لنفسه، ويتغنى به في مجالسه ويكتسب المديح والثناء بناءً عليه، والذي يلجأ لأساليب دنيئة في النيل منه بالوشاية به للأمير وتأليبه عليه، وهو ما يضطره للابتعاد من مكانه والانتقال بين أمكنة عدة، منها إمارة الأميرة نفسها؛ «حصن كيف»؛ ليقضي هناك سنوات قريبًا منها لكنها غير دارية به وبقربه.

لا يختلق الروائي مصاير غرائبية لشخصياته، بل يسير بها في مراحلها العمرية لتكون شاهدة على خيباتها وخيبات عصرها، وتكون معابر لفهم تلك العصور وما ضجت به من وقائع وأحداث، وما شهدته من فجائع ومآسٍ. فالموت الذي ينتظر كل كائن حي ظل متربصًا بأبطاله وحصدهم تباعًا، في حين ظلت الجروح التي خلفتها الأحداث نازفة في قصائد بطله الشاعر أحمد ومحبوبته التي لم يستطع الزمن تهدئة فؤادها ولا محو صورة عاشقها من خيالها.

يحاول جان دوست في روايته «مجنون سلمى» كتابة ملحمة شعرية تضع بطل روايته الشاعر أحمد جزيري في مصافّ المشاهير من الشعراء الذين وقعوا ضحايا للجنون في دروب عشقهم، وأسطروا عشقهم في قصائدهم، كحالة مجنون ليلى وغيره من الشعراء الذين اقترنت أسماؤهم بأسماء حبيباتهن اللائي نسبن لهم أو نسبوا لهن، بحيث أصبح اقتران الاسمين بديلًا أو تعويضًا عن الخيبة أو الفشل في اقتران الحبيبين.

يلفت جان دوست في عمله إلى أن قصص الحب العظيمة التي يخلدها التاريخ هي تلك التي تكون بين طرفين يستحيل تحقيق الوصال بينهما، أي أن الحب المستحيل يبقى حبًّا أبديًّا، وكأنه محكوم عليه بألا يتوج بالزواج كي لا يدخل في شرك الاعتياد ويفقد سحره وغرابته ودهشته وجنونه.




0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم