تبدو علاقة الإنسان بالزمن طوال الوقت معقدة وإشكالية، سواء الماضي وما كان فيه من مواقف وأحداث مؤثرة شكلت الوعي وألقت بظلالها على الحاضر، أو حتى ذلك الحاضر المربك الذي يتنازعه ذكريات قديمة وآمال بمستقبل يسعى دومًا لأن يكون أفضل! بين هذا وذاك يدور الإنسان في فلك حياته راصدًا حينًا ومتأملاً أحيانًا أخرى، هل يمكنه التجاوز؟ ماذا إذا كان ذلك الماضي ثقيلاً ماديًا ومعنويًا، هل يمكن التخلص منه بجرة قلم أو قرار؟! أم أنه يبقى حاضرًا ومؤثرًا رغم كل محاولات التجاوز؟!

في روايته الجديدة "خزامى" يتناول الروائي العراقي سنان أنطون حكايتان متوازيتان يأخذ كل منهما موقفًا حادًا من الماضي، بين محاولات تجاوزه إلى السعي للتشبث به فيما هو يتفلت!  نحن في البداية مع حكاية  الطبيب سامي البدري الذي كبر في السن، وبدأ "الخرف" يزحف على عقله وذاكرته، يعاني من بوادر "ألزهايمر"، ويسعى مع ابنه لتجاوز تلك الحالة المرضية الصعبة، ولايكون الحل إلا في العودة للماضي الذي يحضر كومضات تظهر وتختفي، نتعرّف منها على حياته في العراق قبل الغزو الأمريكي، فيما يعيش ابنه وأسرته الجديدة في أمريكا، منبت الصلة عن أصوله القديمة، في مقابل حكاية سامي وبالتوازي معها نجد حكاية عمر الشاب الذي هرب من التجنيد في العراق أيام حكم صدام حسين، فحكم عليه بقطع أذنه، يسعى لفرض بداية جديدة يتخلص فيها من ماضيه كله، بل ويعلن تنكره  لأصله ومولده في العراق بشكل واضح:

((لا أريد أن أتحدّث عن العراق أو أن أرتبط به ولا أن أكون منه أردتُ أن أقطع الصلة وأبدأ من جديد هنا واخترت پورتوريكو بالصدفة لم أشأ أن أكون من پورتوريكو بالذات أي مكان آخر غير العراق هل أؤذي أو أزعج أحداً حين أقول إنّني من پورتوريكو؟ اعتبروني مثل الشهود الذين يساعدون الحكومة الفدرالية في القبض على المجرمين في الأفلام. يأخذونهم إلى ولاية أخرى ويعطوهم أسماء وهويات جديدة ليبدأوا حياة جديدة. أنا لم أشهد ضد أحد. لكنّي هارب من مافيا))  

حكايات وعوالم متوازية متقاطعة! 

عراقيان إذًا يجمعهما القدر، رغم اختلاف الحكايات والتفاصيل، ليهاجرا إلى أمريكا، وتحدث هذه المقابلات بين العالمين ويحضر على الفور صراع الهوية، أي هوية يمتلك المرء وأي وطن يحلو له أن ينتسب إليه؟! هل يمكن فعلاً أن يجتث المرء جذوره وينبت في أرض أخرى؟! تطرح الرواية أسئلتها التي لا تنتهي، مرة على لسان الأبطال ومرات أخرى بشكل غير مباشر بين حكاياتهم، يبدو الأول في حالة من يبحث عن ماضيه، بل ويسعى ابنه والآخرون من حوله أن يعيدوا له علاقته بذلك الماضي حتى لا ينتهي به الحال مصابًا بألزهايمر وفاقدًا للذاكرة، تلك التي سيفقد معها حياته تقريبًا، تسعى الطبيبة المعالجة للاستعانة بالموسيقى التي يرى بعض الباحثين أنها ربما تكون سببًا في عودة الذكريات الجميلة لأصحابها:

(( أكد المحاضر إن الموسيقى يمكن أن تعالجها أو تخفف من أعراضها ومع ذلك فقد أعجبت بأسلوبه والصور الشعرية التي استخدمها حتى أنها كتبت وصفه للخرف والآلزهايمر بأنهما مثل اللص الذي يسرق أثمن ما لدى الإنسان أو أن عقل الإنسان يشبه سبّورة يمحو المرض كل ما كان مكتوباً عليها وشبّه الذكريات بسجادة كبيرة وجميلة، مطرّزة بأجمل الأشكال والألوان، يمزّقها المرض، خيطاً خيطاً، ولا يتوقّف إلا حين لا يعود هناك ما يمزّقه لكنّ الأبحاث والتجارب الميدانية أثبتت أن للموسيقى مفعولاً مهدّئاً، يكاد يكون سحريّاًّ ويمكن لها أن تخفّف الغضب والانزعاج الذي يشكو منه المرضى لأنها تعيد ربطهم بذكرياتهم وتخترق ضباب الخرف الذي سينقشع ولو مؤقتا ))

تسعى الممرضة إذًا لتجنيب سامي ذلك المصير المؤلم من خلال الموسيقى وربطه بذكريات الأغاني، التي تحضر في السرد بالفعل، ويبدأ من خلالها التعرف على بعض أطراف من تفاصيل حياة سامي، يحضر (ياس خضر) بأغانيه التي تعيد سامي إلى لحظات الحب الأولى ( ياطعم يا ليلة من ليل البنفسج)، كما تحضر أم كلثوم، تتقاطع الذكريات مع كلمات الأغاني منذ تعرف على زوجته "مآرب" حتى حادثة وفاتها المؤلمة بينما تصدح أم كلثوم بالغناء،   ولكن يبدو أن السارد والحكاية كلها لا تنتصر لسامي كثيرًا، بل على العكس من ذلك تحضر لقطات من حياته كومضات خاطفة، بينما ينتقل السرد بثقله وتفاصيله  إلى عمر  الذي ترك خلفه كل ما يمت بصلة إلى ماضيه، يصل أمريكا متخففًا من أحماله كلها، ويركن إلى البحث عن وطن بديل، حيث لم يعد العراق وطنه، يتساءل بلسان السارد  

‏((وطن؟‏ ‫ ‏أيّ وطن وأنت لا تملك شبراً أو شيئاً فيه؟ حتى جسدك الذي تكوّن في رحم أمّك لا تملكه أنت الحكومة هي التي تملك جسدك وتسمح لك، لفرط كرمها، أن تعيش فيه وكأي مالك جشع، فهي تفعل بجسدك ما تشاء متى ما شاءت. تلقي به، مع مئات الآلاف من الأجساد، في أتّون الحروب الخاسرة. تحرمه من الطعام وتجيعه كي تسمن هي وأولادها))

 هكذا لا يبدو أن الحكايتين تتقاطعان، رغم التقائهم في الماضي والحاضر على أرضٍ واحدة، ويبدو السرد موزعًا بينهما، حتى تأتي نهاية الرواية التي تجمع بينهما في مصادفة تكشف الكثير مما كان في الماضي، ومما سعى السرد نفسه أن يخفيه طوال فصول الحكاية وصفحات الرواية الممتدة، وكأنه يشير بشكل واضح إلا أنه لا مفر من هذا الماضي، لايمكن بالفعل التخلص منه، سيظل يطارد المرء مهما تنكّر له وحاول أن ينساه أو يستبدله بحكايات الحاضر وعالمه!

 من شجرة الرمان إلى الخزامى 

هكذا ينقلنا سنان أنطون في روايته الجديدة إلى حكاية مختلفة، تأخذ من الحكايات السابقة والروايات السابقة بعض التفاصيل وتنطلق بها إلى أرضٍ جديدة، ربما  تستمر المأساة في الحكايات كلها، ولكن سنان أنطون يختار هذه المرة أن يحكي عن العراقيين في المهجر، في الوطن البديل، هل يمكنهم فعلاً تجاوز كل ما حدث؟! لاشك أن التجاوز حادث وموجود بشكل واقعي، فثمة حكايات جانبية حاضرة مثل حكاية الابن "سعد" وعائلته التي تبدو هادئة لا يعكر صفو أيامهم إلا الخوف على حياة الأب، وثم حكايات أخرى متناثرة لآخرين، استطاعوا تجاوز مأساتهم ووجدوا حياة أخرى، لكن أبطال روايتنا ليسوا كذلك، سامي يتعثر في حكايته، وعمر يسعى للهرب منها، وينغمس في ملذات جسده بحثًا عن الحب، ولكن الماضي يعود!

كانت "شجرة الرمان" في روايته السابقة شاهدة على المأساة، ولكن الوضع قد اختلف هذه المرة فحضرت "الخزامى" برائحتها المميزة التي تبعث الماضي وذكرياته، وكأن ثمة استدعاء للحواس كلها في هذه الرواية، فالأذن التي تسمع الموسيقى تحفز الذاكرة لتستعيد الذكريات، والأنف كذلك تستحضر الرائحة وتعيد مابقي من ذكرياتها وكأنها تعوض كل ما تشوه أمام العين من شاهد الحروب والدمار بالموسيقى والرائحة الزكية.

خزامى هي الرواية الخامسة لسنان أنطون، وصلت روايته "يا مريم" للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2012 ، كما وصلت روايته "فهرس" للقائمة الطويلة عام 2017، صدر له مجموعتان شعريتان "ليل واحد لكل المدن" وموشور مبلل بالحروب".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم