سيدي مُحمَّد بن مالك 

رواية "اختفاء السّيد لا أحد" هي حكايةُ لا أحد وكلّ النّاس؛ فثمّة شبَه بين شخصية المجهول الذي آثر الانكفاء على نفسه واعتزال المجتمع والاحتجاب عن الآخرين وبين الشّخصيات الأخرى التي تشترك، على الرّغم من اجتماعيَّتها ومُخالَطتها لغيرها، مع الـ (لا أحد) في الإحساس بألم الحياة وقسوة العالَم والشّعور بفقدان المعنى: "نزل الدّرج، وعند الباب وقف ينظر إلى كلّ من يمرّ أمامه، ويُمعِن فيه، كان يجد في كلّ إنسان يراه شيئًا من الـ (لا أحد) الذي وصفوه له وأعجزَه العثور عليه، كلّ واحد منهم فيه شيء منه، والـ (لا أحد) قد يكون بعضًا من كلّ أولئك الذين مرّوا وأشخَص فيهم بصره، كأنّه ذاب في الجموع"([1]).

تلك هي حال رفيق ناصري الذي وقَر في ذهنه ذلك التّناظُر بين الـ (لا أحد) وبين أولئك العابرين الذين مرّوا أمامه، والذي ألفى في نفسه ما يحثُّه على اقتفاء أثر المختفي أكثر من سواه، ليس لأنّ عمله يقتضي التّحقيق في جريمة قتل سليمان بن نوي المفترَضة والبحث عن الجاني المحتمَل وهو الـ (لا أحد)، ولكن لأنّ الذي يُؤلِّف بينهما هو الإحساس بالحرمان والخذلان والضّياع والفراغ. وهو الإحساس الذي بدأ يُحفِّز رفيق ناصري، شيئًا فشيئًا، وأسوةً بالـ (لا أحد)، إلى التّخلي عن المشاكَسة والطّموح، والتّحلي باللّامبالاة، وارتضاء الاختفاء، مع أنّه قد استصعب، في البداية، أن يحذوَ حذْوَ شبيهِه في التّواري دفعًا للإذلال والتّحقير.

ويحيل هذا الوعي بالفقدان الذي يتقاسَمه الـ (لا أحد) ورفيق ناصري ونظائرُهما إلى وجود رؤية مأساوية تعبّر عن "أزمة عميقة في العلاقات بين النّاس والعالَم الاجتماعي والكوني"([2])، حيث لم تكن علاقة الشّخصيات بالمجتمع من جهة، وعلاقتها بعضها ببعض من جهة أخرى، سويّة ولا خالية من الخصومة والكيْد والنّفاق، ولم يكن الواقع رحيمًا بها ولا مُنصِفًا لها؛ فقد عرف الـ (لا أحد) اليُتْم، والاختطاف من قِبَل جماعة إرهابيّة، ثمّ رحل عن قريته سرج الغول بسطيف هربًا من الموت، ومضى يعمل، بعد موت خالته التي كانت تُعيله لسنوات، في جمع القمامة، وحمّالًا في محلّات الجملة في الجزائر العاصمة، كما وقع ضحيّةً لإغْراء الجنون وفريسةً للجوع والتّسوُّل، لينتشله مراد من براثن التّشرُّد ويُوكِل إليه مهمّة رعاية والده المجاهد سليمان بن نوي في حيّ منسيّ بمدينة رويبة. وبذلك، ظلّ الـ (لا أحد) كائنًا عابِرًا في حياة الآخرين، مُستعمَلًا منهم وأداةً لأفعالهم وخُطَطهم، وهو ما أشعرَه بالخزي والمهانة والهشاشة.

وهو الشّعورُ ذاتُه الذي اضطرم في نفس رفيق ناصري، بعد أن خذلته العدالة في قضية استيلاء أحد النّافذين الكبار على جزءٍ من أرض زراعيّة، وخذلته الحياة حين حرمته من الإنجاب من زوجته منيرة داودي؛ فكان الطّلاق، وإن جاء متأخِّرًا، حلًّا لانتظاره الولد طيلة عشر سنوات: "أغلق باب الانتظار، مُجبَرًا، وأغرق نفسه في يوميّاته. تخفَّف من وطأة النّظر في عينيْها عندما يعود في كلّ مساء، يملؤهما اتّهام مُبطَّن وأمل في الله بأنّه لن يستمرّ في حرمانهما للأبد"([3]).

إنّه العجز، الذي هو قرينُ الفقدان، أمام تعاظُم إرادة العالَم الاجتماعي؛ عجز الـ (لا أحد) عن إصلاح كينونته المستكينة، وعجز رفيق ناصري عن مُحارَبة الفساد وعن الإنجاب، وعجز سليمان بن نوي بسبب الكبَر والمرض، وعجز مبارك طهراوي صاحب المقهى عن الاقتران بامرأة أخرى تُنجِب له ولدًا يرثه بسبب مُعارَضة زوجته المتوفّاة ثمّ بناته، وعجز عثمان لاقوش الجنسي وعدم قدرته على تأمين الحياة كما تشتهيها زوجته زهيّة، وعجز حسان دفّاف إمام المسجد عن دَرْءِ الهوى وسلوك سبيل التّقوى، وعجز المخبِر قادة بن صافية عن تغيير صورته التي ارتسمت في أذهان النّاس بوصفه انتهازيًا لا تهمّه سوى مصلحته، وعجز جلال بن حميدة حارس المقبَرة عن الامتناع عن المتاجَرة بعظام الموتى، وعجز عاشور قابض البريد عن الانصراف عن سرقة المال.

ولا يُمكِن مُجابَهة هذا العجز الذي تُثيره إغراءات الحياة وإكراهاتها، والذي يُفضي ببعض الشّخصيات، على الأقلّ، إلى التّيه الذي يعكس "عدم الرّغبة في أن يكون المرء هو ذاته، والانفلات من كلّ المسؤوليات المتّصلة بكوْنه يحمل اسمًا ووجهًا ونسَبًا وتاريخًا"([4])، إلّا بالإيمان بالجبريّة والتّسليم بالقضاء والقدر؛ فـ "الأقدار تهزم الجميع"، والقدر يتولّى إدارة الحياة، و"الأقدار لا تنتظر أحدًا"، عباراتٌ تجري على ألسنة الشّخصيات، ويقينٌ تَطْمَئِنُّ به أفئدتها، وبديلٌ تحتمي به من انهزامها وانكسارها أمام قسوة العالَم الاجتماعي، وكأنّ جبروت ذلك العالَم لا يساوي شيئًا أمام جبروت العالَم الكوني الذي تحكمه نواميس أخرى ينبغي للإنسان أن يخضع لها، وإنْ ساوَره الشّك في أنّها غير عادلة: "أيّ عدلٍ في هذه الدّنيا ؟ تمنّى من كلّ قلبه لو أنّ الله وهَبه الولد. ربّما كان جبانًا ومُحبًّا للمال أكثر ممّا ينبغي. يُدرِك الآن ذلك تمام الإدراك. يلوم نفسَه، ويحقد على مَنْ منعته من الزّواج بأخرى..."([5]).

ذلك هو موقف مبارك طهراوي الذي ينمّ عن عجزه أمام الإرادة الإلهيّة التي لا يملك إزاءها سوى التّضرُّع والرّجاء، وهو عجزٌ أشدّ وطْأة على نفسه من ضعفه وهشاشته أمام الإرادة الاجتماعيّة التي يقوى على ازدرائها ومقْتها على الأقلّ؛ تلك التي أوْعَزت إليه بالسّعي إلى الاستكثار من المال والتّقصير في استقْباح أثَرة زوجته. وهو ما يشي بقابليّة الشّخصية للتّطويع من قِبَلِ الإرادة الاجتماعيّة والانقياد لها، واستعدادها لتبرير ذلك، أيضًا، بأنّه قضاء وقدر.

وقد أبدى عثمان لاقوش وقادة بن صافية الموقفَ عينَه، حين تخليّا عن مبادئهما وعقيدتهما وتصالَحا مع الفساد الذي عمّ النّفوس والعقول واكتسح شرائح المجتمع وفئاته ومؤسَّساته جميعها، حيث أدار عثمان لاقوش ظهره للسّياسة، وتنكّر لأيديولوجيّته اليسارية وحلمه في التّغيير، وراح يُمنّي نفسَه، بعد طلاقه من زهيّة، بحياة أفضل من خلال بيع الأدوات المكتبيّة والمدرسيّة ظاهرًا وتجارة الخمور سرًّا، إلّا أنّه أخْفَق، مرّةً أخرى، في أن يرى وضعه يتحسَّن، ولا ريب أنّه سيَعزو ذلك، كعادته، إلى سوء الطّالع وإلهه الفلسفي. كما تنازَل قادة بن صافية عن إيمانه بالحلّ الإسلامي لأزمات المجتمع وآفاته، ورضِيَ، بعدما سُجِن وامتُهِن بسبب إيمانه، بأن يكون وضيعًا وخسيسًا؛ فهو لم يتورّع، فضلًا عن التّجسُّس على سكّان حيّ المحطّة، عن اقتراف الأفعال السّمجة طلبًا للمال. أمّا جلال بن حميدة فقد ألفى في بيْع عظام الموتى فرصةً للانتقام لوضعه البائس: "هم سرقوا حياتنا وأرواحنا ونحن أحياء. أظنّ أنّ انتقامي منهم عادلٌ جدًّا"([6]).

وعلى الرّغم من طبيعة العجز وأثره في نفوس عثمان لاقوش وقادة بن صافية وجلال بن حميدة، إلّا أنّهم لم يبلغوا مرحلة التّيه، وإنْ كان قادة بن صافية قد فكَّر في تغيير حياته إدراكًا منه لدرجة الانحطاط والتّدهور التي وصل إليها، وذلك بخلاف الـ (لا أحد) ورفيق ناصري اللّذيْن لم يتواءَما مع عالَم المطابَقة وأبَيا التّصالُح مع فقدانهما ومُطاوَعة القدر، وارتضيا التّيه سبيلًا يُخلِّصهما من الإذعان والمهانة والألم ويُكسِبهما الحريّة والكرامة والسّعادة؛ فكان سعي الـ (لا أحد) إلى الاختفاء حثيثًا وجريئًا، وكان سعي رفيق ناصري إليه وئيدًا ومضطربًا. بينما أفضى الرّضى والقناعة بمبارك طهراوي إلى الاختفاء قتْلًا، وبعثمان لاقوش انتحارًا، وبقادة بن صافية اختباءً بعد جريمة القتْل، وبجلال بن حميدة احتجازًا للاشتباه به في ارتكاب تلك الجريمة، وبعاشور فرارًا بعد اكتشاف ثغرة مالية في مركز البريد.

ولأنّ "الأقدار لا تنتظر أحدًا"، كان ظهور الـ (لا أحد) جريئًا بمقدارِ الجراءةِ نفسِه الذي كان عليه اختفاؤه، حين عزم أمره على الاقتران بدليلة علاق؛ فكان الزّواج تعبيرًا عن أسفه لما ألحقه بالممرِّضة من أذى حين أوْهَمها، يومًا ما، بأنّه يحبُّها، ووصْلًا لما انقطع من وشائج مع الحياة التي "تستحقّ الهروب إليها". ولأنّ "الأقدار تهزم الجميع"، أيضًا، فقد تزامَن ظهور الـ (لا أحد) مع اختفاء رفيق ناصري الذي تعجَّل الرّحيل ولم يتيسَّر له الاطّلاع على خبَر حمْل زوجته هدى ونّاس منه: "انسحب قبل أن ينتصر. كان الظّفر يحتاج فقط إلى انتظار أيّام أخرى قليلة، لكنّه استعجل الهزيمة"([7]).

إنّ رواية "اختفاء السّيد لا أحد" نصّ فجائعي، يقدِّم علاقة الإنسان المهزوم بجبروت العالَم الاجتماعي والكوني، من منظور مأساوي يبعث على الغثيان والاشمئزاز، لولا بصيص الأمل الذي يُلمِح إليه ظهور الـ (لا أحد) في النّهاية، والذي يحيل إلى إمكان إعادة اللّحمة مع الحياة التي تلبَّسها الجنون؛ ذلك الذي يُحفِّزه الإنسانُ نفسُه ويثيره بأثَرته وكِبْره وظلمه وجهله. لذلك، تجسِّد حكاية الـ (لا أحد) حياة الإنسان المقهور الذي يعيش على الهامش؛ هامش المجتمع، وهامش المكان، وهامش الزّمن، وهامش الوجود، وهامش التّاريخ. ومن ثمّ، فإنّ تلك الحكاية النّواة ومثيلاتها من الحكايات الهامشيّة الأخرى (حكاية رفيق ناصري، وحكاية سليمان بن نوي، وحكاية مبارك طهراوي، وحكاية عثمان لاقوش، وحكاية حسان دفّاف، وحكاية قادة بن صافية، وحكاية جلال بن حميدة، وحكاية عاشور،...) ليست ذات شأن، ما لم تدأب الكتابة / السّرد على زحزحتها من حيِّز الهامش وما يُلازِمه من نسيان وإعراض وإهمال إلى حيِّز المركز وما يُصاحِبه من اعتراف واهتمام وانتباه، من هامش الصّمت والخرَس والكتمان إلى مركز الصّوت والكلام والبوْح.

من أجل ذلك، حاول أحمد طيباوي، وهو الشّغوف بالكتابة مِن وعَن وللهامش، أن ينقل للقارئ صورة الإنسان في صراعه اليومي الأليم مع العالَم، وهي صورة تتّسم بالانهزام والابتذال والاحتقار، وأن يكون أمينًا في نقل تلك الصّورة، من خلال إجراء السّرد على لسان الـ (لا أحد) نفسِه في الجزء الأوّل من الرّواية تارةً، وإسناده إلى الرّاوي العليم الذي يتولّى تقديم أصوات نظائر الـ (لا أحد) ورؤاهم للعالَم في الجزء الثّاني من الرّواية تارةً أخرى، وإنْ كان السّرد الذّاتي أدنى إلى التّعبير عن الوفاء لصوت الهامش، لأنّه الحقيقُ بتقديم أوجاعه وعذاباته. يقول الكاتب أحمد طيباوي: "أنا مهمومٌ بالهوامش، وأكتب على التّخوم، ما وراء الحدود وبعيدًا عن دوائر الضّوء. بالنّسبة إليَّ، ليس إشكالًا أن تقول ما هو معروف، أو – على الأقلّ – أن يكون جزءٌ ممّا تقوله معروفًا، ولكن كيف تقول ذلك؛ ففي النّهاية، الكاتب يُفترَض به أن يتمتَّع برؤية للبشر والحياة، وله مشروع كتابة، وما يصدُر عنه متجانس، ويصبّ في الاتّجاه الذي اختاره، دون أن يسقط في تكرارِ نفسِه"([8]).


([1]أحمد طيباوي: "اختفاء السّيد لا أحد"، منشورات ضفاف، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط. 1، 2019، ص 64.

([2]) Lucien Goldmann: «Le Dieu caché; étude sur la vision tragique dans les pensées de Pascal et dans le théâtre de Racine», Gallimard, Paris, 1959, p 51.

([3]) الرّواية، ص 88.

([4]دافيد لوبروطون: "تجربة الألم بيْن التّحطيم والانبعاث"، ترجمة: فريد الزّاهي، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، ط. 1، 2017، ص 78.

([5]الرّواية، ص 83.

([6]الرّواية، ص 101.

([7]الرّواية، ص 117.

([8]أحمد طيباوي: "الجائزة ليست تأشيرة نجاحٍ أبديٍّ"، "الدّوحة"، العدد 165، يوليو 2021، ص 61.


المركز الجامعي مغنيَّة – الجزائر


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم