"عندما استعدت رشدي، وجدت نفسي عند ذاك الرجل، في غرفة النوم. وقفت في إحدى زوايا الغرفة، أشدّ الحجاب الأبيض الذي زيّنوني به قبل أن يقودوني لهذا المنزل. جهدت ألا أصدر أي ضجة حتى لا يلحظ وجودي. سالت دموعي على صدري، في هذا الصمت. يا إلهي كيف أفهم هذه العادات؟ يوماً ما، كادت عائلتي تقتلني لأنني تبادلت بضع كلمات مع رجلٍ أعرفه منذ عامين وأعرف عنه كثيراً من الأمور، رجلاً كنت أحبه ومستعدة لأتبعه لآخر العالم. وفي اليوم التالي، يرغمونني أن أنام بنفس السرير مع رجلٍ غريبٍ أجهل عنه كل شيء ويوحي لي بالرعب".

نجحت هذه الرواية، التي كتبت باللغة الفارسية عام 2004 ونقلت إلى الإنكليزية عام 2013 ومنها إلى الفرنسية عام 2015، بشقّ طريقها لتتصدر قائمة الروايات الأكثر مبيعاً وهي نتاج إبداع الكاتبة الإيرانية بارينوش صنيعي التي نسجت بشفافيةٍ متناهية وصدقٍ بارعٍ عالماً تسحبنا إليه بكل شغف. الوصف الدقيق لشخصيات الرواية والأماكن التي تدور فيها الأحداث ينقلنا بخفة لنرافقهم طيلة قراءتنا لصفحاتها التي تتجاوز الأربعمئة صفحة. لا بد أن نهاب خوض قراءة بهذا العدد من الصفحات لكن مع آخر صفحة نتمنى لو أن الكاتبة استمرّت بسكب حبرها في روح الأبطال.

الرواية تتحدث عن قصة حياة شابة اسمها "معصومة" منذ أن كانت تلميذة في المدرسة إلى أن تصبح جدة.

بسخاء شاركتنا لحظات حياتها ونقلت لنا الأحداث بأمانة بل عشنا تفاصيل شخصيات وأحداث على مدار حقبة زمنية برعت فيها الكاتبة بسرد تاريخ إيران ببعده الإنساني. والمثير للانتباه أنّها بكل هذا السرد الدقيق والعميق تمكنت من أن تقف على الحياد وما فرضت علينا أحاسيسها أو أفكارها مما عبّد طريقاً سالكا للحوار وللتفكير.

دراسة الشخصيات كانت بنّاءً محكماً منذ أن ضفرت أولى جدائل الرواية، وتطور هذه الشخصيات كان حقيقياً ومنطقياً. فنحقد على البعض ونميل لآخر ونتعاطف مع البقية، لم تبق أي شخصية في الظل، كل منها أخذت حقها من التحليل والتمحيص والمشاعر.

تزوجت معصومة من حميد، شيوعي متحمس للقضية، بطريقةٍ تقليدية. لم يبدِ أي اهتمام بزوجته الشابة لكنه كان يشجعها لتأخذ استقلاليتها وتتابع دراستها وشرطه كان ألا تطرح عليه الأسئلة مهما جرى وهي احترمت وعدها حتى جاء يوم وغاب طويلاً فأثار القلق حفيظتها ووالديه أيضاً، يعود فتكتشف حقيقة عمله السياسي الذي يجر عليه السجن في عهد الشاه لسنوات، لتجد نفسها مضطرة لتحمل مسؤوليات أبنائها وحدها فتنخرط بالعمل حيث تتعرض لمواقف محرجة لأنها زوجة سجين سياسي.

بعد الإفراج عن حميد الزوج، تلقي الكاتبة الضوء على الوضع النفسي للسجين بموضوعية وشفافية، تشرح معاناته باستعادة حريته حقيقةً.

تعيش هذه العائلة أوقات سعيدة بعد خروج الشاه ونشهد ولادة طفلتهما الأخيرة، لكن سرعان ما تنقلب الأمور مجدداً ويتم إعدام الزوج وسجن ابنها وتسريحها من العمل.

شخصية شهرزاد، زميلة حميد زوج معصومة في الحزب الشيوعي، قضت بعض الوقت في دارهم وربطتها علاقة رقيقة مع ابنه الطفل الصغير. شخصيةٌ تحلت بتأثيرٍ قوي حيث قضت حتفها نصراً لأيديولوجياتها وأعطت بعداً هاماً للمرأة في المجتمع بعيداً عن الزوجة والأم ومدبرة المنزل ولكن مع هذا بقيت حاجتها للأمومة دفينة الايديولوجيات والأحزاب وكانت مثالاً واضحاً لصدق وقوة الصداقة بين الرجل والمرأة.

الصداقة تأخذ حيزاً قيماً في مجرى الرواية، بل وتسلط الضوء على دور الأصدقاء، وأن بزار الصداقة قد تثمر لاحقاً، من خلال شخصية بارافانا التي كانت الداعم الأول والأخير لمعصومة، منذ أن بزغ الحب في حياتها مع سعيد، كانت المرسال بينهما حين حرمها إخوتها من الخروج من المنزل لرؤيتهم حميد، الصيدلاني، يعالج قدمها. قطعت علاقتهما بعد رحيل عائلة بارافانا وكم كانت صدفة رائعة تلك التي جمعتهما بعد عدة سنوات لتعود المياه لمجاريها. ساعدت بارفانا سمياك ابن معصومة في الهروب إلى المانيا بعد تورطه سياسياً بسبب خاله الذي ينتمي لحزبٍ إسلامي، وهناك تجمع بينه وبين ابنتها علاقة حب فتأبى بارافانا علاقة خارج إطار الزواج، فتثير بذلك جدل الهجرة الذي لا يعني تغيير الاعراف والتقاليد، الغربة ليست غطاءً لتعرينا من أخلاق تربينا عليها بل التمسك بالأصول يحافظ على الهوية من التهاوي بوجه الاختلافات.

لم تعان علاقتها مع اخوتها من الشعارات والأقوال التي تدفعها للرضوخ لهم بحكم ذكورتهم وربما هذا ما رسم خط حياتها، فأجبرها ع مفارقة حبها الأول النقي والقبول بالارتباط بصديق أخيها لولا تدخل يد القدر لترسم زواجها بحميد ذي التوجه السياسي الذي نطل من خلاله على الحركة السياسية في حقبة الثورة الإيرانية.

"تاريخ، عاطفة، تربية، تحرر، استقلال" كلها كانت ألحاناً عزفتها الكاتبة الإيرانية بارينوش صنيعي المولودة عام 1949 في طهران وليس أمراً غريباً فهي طبيبة نفسية وعالمة اجتماع.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم