حين يقفل كاتب روايته بخبر يريده أن يوحي بأن أحداثه حدثت حقا، ويتعلق بمصائر الأشخاص الذين كانت الرواية تدور حول حيواتهم، فإنه يريد أن يقول إن كل ما تقدم لا يجب أن يؤخذ على محمل التأريخ. إنه مجرد أضغاث، تثقل على كاتبها، ويريد أن يبثها في الهواء على نحو ما، لكنها لا تلزمه ولا تلزم القارئ في أي حال من الأحوال.
نزار أغري ينهي روايته "جسر النحاس" بخبر يفيد بالعثور على جثتين في شقة في ركن الدين بدمشق، يرجح أن تكونا لأب وابنته. وهو إذ يورد هذا الخبر، الذي قد يكون حدث حقًا لأشخاص لم يتسن لنا أن نعرفهم، شأنهم شأن كل ضحايا الحياة في هذه البلاد، فإنه يحشر قارئه في زاوية من صدق أن الحياة قد تحمل كل هذه المعاني التي ننسبها لها، لكنه في حقيقة أمره لم يعش من هذه الحياة سوى صمته وموته في عتمة هذا الصمت.
لكن الخذلان الذي يباغتنا لدى قراءة الخبر المبثوث في نهاية الرواية، ليس كل الخذلان. هذه رواية يتحرك بطلها في عالم لم يسمح له أن يكون كائنًا. أحب امرأة وأحبته. لكن سلطات القمع حالت دون أن يستكمل هذا الحب على النحو الذي يفترض به أن يكون. فصول الرواية تلمّح، والقارئ يدرك، أن حبيبة الراوي اضطرت لممارسة الجنس مع ضباط المخابرات من أجل حماية حبيبها الملاحق، وعدم تعريضه للسجن والتعذيب والموت، وحملت من أحدهم. لكن الراوي الذي يعرف أنه لا ينجب، يدرك أن الجنين ليس من صلبه، ويقرر أن يترك كل شيء خلفه، وما يتركه لن يكون أقل من حياته.
راوي أغري مات في دمشق حقًا. لم تتعفن جثته في أقبية السجون، ولم تقتله بنادق الجنود الذين يقمعون التظاهرات. مات في دمشق، وما الخبر المبثوث في نهاية الرواية إلا التأكيد على هذا الموت. كل ما حدث بعد خروجه من دمشق لم يكن شيئًا. كان سياحة خيالية يقوم بها كل الذين خسروا أرواحهم ولم ينجحوا في إيجادها في المكان الذي نفوا أنفسهم إليه.

"رواية أغري لا تكف تسائلنا: هل كان يجدر بمن مات دفاعًا عن أفكاره وانتصارًا لها أن يندفع إلى الموت بهذا الطيش؟ هل كان القاتل أيضًا مدركًا أن لجوءه إلى القتل لم يكن ضروريًا أصلًا؟
لقد انتظر الراوي عقدين من الزمن، أو نحوهما، ليتسنى له أن يعلن موته الذي حدث سابقًا. فالرواية لا تقول إلا هذا الموت المؤجل. ولم يؤجل إلا ليتسنى للميت محاسبة نفسه على أوهامه ومواقفه وأفكاره التي كان يجدر به ألا يأخذها على محمل الجد المودي إلى الكراهية والتنكر والقسوة والخيانة. كل أحداث الرواية تحاول القول إن الحاضر طاغية. كل المواقف التي نتبناها في الراهن هي مواقف مبالغ في اعتبارها، ويجدر بنا أن نؤجل اتخاذها إلى ما بعد. إلى زمن نتبين فيه إن كان ذاك الوفاء وفاء أم خيانة، وإن كان ذاك الحب حبًا أم إثبات نفس، وإن كانت تلك الأفكار التي نحملها كانت تستحق أن تعلن وترتب تبعات على إعلانها، أم كان يجدر بنا ألا نصدق أفكارنا، وأن ندرك مبكرًا أننا قاصرون عن إدراك دوافعنا ودوافع الآخرين.
رواية أغري لا تكف تسائلنا: هل كان يجدر بمن مات دفاعًا عن أفكاره وانتصارًا لها أن يندفع إلى الموت بهذا الطيش؟ هل كان القاتل أيضًا مدركًا أن لجوءه إلى القتل لم يكن ضروريًا أصلًا؟ هل الروابط التي نشأنا عليها وحددت مصائرنا هي من صنعنا أم من صنع خصومنا؟ أن تكون كرديًا في سورية، أو في أي مكان آخر من العالم العربي، يعني أن تقسر قسرًا على أن تكون كرديًا. ذلك أن من يحدد هويتك هو خصمك الذي يدعي هوية مغايرة. هو الطرف الآخر الذي حين يملك السلطة يمنعك أن تكون نفسك، ويجبرك أن تكون عدوًا وخصمًا. المعادلة لا تصح على الجانب الآخر. ربما كانت لتصح لو تسنى للأكراد أن يتحكموا بمصائر العرب، لكن ظروفًا لا تحصى حالت دون ارتكابهم هذه الجريمة. لكن نزار أغري لا يتوقف عند هذا الحد. يحرض نفسه ويحرض قارئه على التفكير بالسؤال التالي: هل يكفي أن تُضطهد إلى هذا الحد لأنك تتحدر من أصول معينة، لأن تتبنى هوية الجماعة التي تُنسب إليها؟ ألم تكن دمشق قادرة على أن تكون رحبة ومتسعة لكل من فيها؟ وهو إذ يسائل هويته التي فرضت عليه، لا يبرئ من فرض عليه الخصومة والعداوة من جريمته. لكنه لا يدعي أنه ضحية كاملة. إنه بمعنى من المعاني أحد قتلة نفسه. لهذا يؤجل انعتاق روحه من جسده، ليتسنى له أن ينصف من ظلمهم. وهذا الإنصاف يبدأ باستعادة حب حبيبته التي خانها، ولم تخنه، من خلال عشقه لابنتها التي حملت بها من أجل أن تحميه. وينصف سجانيه لأنهم هم أيضًا أزهقوا أرواحهم في اللحظة التي قرروا فيها أنهم ينتسبون للجماعة المهيمنة. وينصف قتلته لأنهم حين قتلوا من قتلوه لم يخسروا إلا أنفسهم.
رواية أغري تذهب بعيدًا في مساءلة نفوسنا وتواريخها. وكان يجدر بها أن تصدر قبل عقود. لكن الولادة تحدث أحيانًا بعد أن يموت الجميع.
"جسر النحاس" رواية صدرت في طبعتها الأولى عن دار نوفل 2023، ونزار أغري روائي وناقد ومترجم كردي سوري يقيم في أوسلو.

المصدر: ضفة ثالثة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم