يبدأ كل شيء في رواية (جمجمة تشرين) من عنوانها باعتباره العتبة النصية التأويلية الاولى التي منحت النص تكثيفا وإيحاءا دلاليا، وكذلك انفتاحا امام المتلقي قارئا او ناقدا، حيث يتنامي النص وتتضح علاقته بالعنوان بدءا من نسغ العنونة ومرورا بدينامية الروي، وقد جاءت دلالة العنوان مباشرة لتحيل الى الشخصية الرئيسية (باهر) شهيد التظاهرات ببغداد في العام 2019 اذ سيتنبه المتلقي بعد ان يقطع شوطا في قراءة الرواية على حيثيات ثيمتها المستترة خلف السرد، وعلى علاقة بنية النص العميقة بهويته (عنوانه). 

 (إلى الاعلى، إلى ذاكرة الفيل. هذا موّال يصدح في عتمات الروح،.....) الرواية ص7

لكن الاحداث في الرواية تبتدأ فعلاً بهذا المفتتح الاختزالي الحواري الذي سيفسر للمتلقي دعوة (القاتل -القناص-الطرف الثالث)  للقنبلة "الطيّعة" لأخذ زمام المبادءة في عملية قتل المتظاهرين التي جنحت بزمن الرواية وهو يوم واحد نحو الفاجعة التي ستتوغل في الفضاء الروائي فيضج بها، في حيز يضيق حينا وآخر يتسع بفعل نسغ السرد وهو يغذيها  تحت وقع اقوى لألمها، بحيث تظهر جلية اثارها على اللغة واسلوب الروي بمفردات دالة عليها  من مثل( الموت، مقضي عليك بالموت، هذا هو نهارك الاخير.... ) وغيرها منذ بداية الفصل الاول للرواية وحتى صفحات فصولها التالية. وتستمر حوارية المقذوفة(القنبلة) متأرجحة بنشوة القتل مع سيدها القاتل، تحت وطأة ذاكرتها حين كانت حبيسة الصناديق والمغلفات في موطنها  -صربيا -عالمها الذي خُلقت فيه، واحاسيس نشوتها بمهمتها في العالم الذي انضمت اليه في هذا الوطن الذي تعيث فيه غيلان الموت، حيث تجد هنا مرتع رغباتها الساديّة ووظيفتها كما تجد صنوها في وظيفة (القتل):(.. هذه دوافع تلذذية ياسيدي، لحظات تثير النشوة وتؤجج مشاعر اللذة ) الرواية ص 10

  وخلتني وانا اتابع حوار القنبلة مع القناص انها تعرفه جيدا بكل صفاته السلوكية وخباياه النفسية،وما ترسب في ذاكرته وما يستجد  فيها من افكار ومشاعر، فهي تعرف حتى دقائق اسرار حياته الشخصية، وتدرك  مناجاته لنفسه قبل الهمس بها،ولهذا كدت اصدق الإيهام بأن الحوار يكاد يكون مونولوجيا لشخصية واحدة :

* اظن انني اعرفك معرفة واضحة، وعلى دراية مسبقة بك، وبخبايا شخصيتك الخفية، اسرارها وخفاياها ونقاط ضعفها...) الرواية ص66

 (... انت وحشٌ، وحشٌ بشريٌ متخف، بحوزته قاذف قنابل ومتأهب للقتل... من المحال ياسيدي ان تنتصر رغبتك الانسانية على رغبتك الحيوانية، لانك ببساطة حيوان ولست بشراً، تحركك نوازع بدائية متوحشة، وتغدو عدوا ماردا لدودا للبشر متى دنوت منهم، يدفعك الى ذلك طغيان الشر الكامن في نفسك...)ص18

(هل مازلت تعاني من الدوار؟أراك مرتبكا مهموماً، وغير قادر على التركيز.. تتسارع انفاسك ودقات قلبك ونوبات متكررة من الشعور  بالقلق...هذه  المناجاة ممطوطة بلا طائل، تتمدد في متتالية تصاعدية باذخة...) الرواية 14

وبمسعى من الكاتب لتجاوز طبيعة العلاقة الواقعية بين الموجودات والظواهر المألوفة بنمطيتها، فقد لجأ  الى توظيف تقنية الانسنة لتخليق علاقات مغايرة بينها، تنحو نحو رؤية الواقع وفق منظور جمالي يعتمد على  مُلكة التخييل باعتباره ستراتيجية ابداعية تصحب المتلقي نحو عوالم متعددة وممكنة التحقيق.

ولقد نفخ الكاتب الحياة في القنبلة M مبتدعا خلقها من خلال (أنسنتها) ناقلا اياها من فضاء الجماد الثابت الضيق الى فضاء الرواية الاوسع الذي يموربالحيوية، ليستلها من خصائصها المادية الميتة وقد صيّرها (شخصا) يمكنها التعبيرعن كينونتها الجديدة، (..أنا"  M" أمَةٌ ممملوكة قبل ان اكون قنبلة فتاكةً، والمهمة المنوطة بي هي ان اخترق رأس الجوكر..) الرواية ص25، حيث ظلت هذه (الشخصية) فاعلة شأنها شأن اية شخصية اخرى ولكن بفاعلية المحورية اذ منحها الكاتب مساحة وافية في النص لتتحرك فيها وبما يناسب دورها المرهون بقدرتها ووظيفتها المصنعة لاجلها، متتبعاً دورة حياتها وهي تخوض غمار محيطها الذي رسمه لها بعناية فائقة. ليتحول اللامعقول هنا حكياً في المعقول ويمهد للحدث الفنتازي- الفجائعي في مسار سردي يتوازى مع مسارات احداث الرواية ككل مقترنا بالدهشة.

وخلتني وانا اتابع حوار القنبلة مع القناص،وبعد كل مقدمات التهيئة واكتمال  واجبات الشخصيتين المنوطة بهما، وتبشيرهما باوان حدوث عملية القتل، خلتني منتظرا وقوع  حدث ما، يقلب الطاولة ليشهد النصُّ برمته حدثا مثيرا يخلخل وشيجة عقدته وينطلق به الى فضاء تراجيدي مدهش.

وذا هو الكاتب يتداركني فيختار تاريخا محددا يفضي الى الحدث الاعظم تاثيرا في خِضَم الرواية، لكن لا يبدو تدوينه التاريخَ هنا عرضيا، وغير مقصود، وإنْ كان قد اخبرنا مستهلا  الرواية:( هذه الرواية من نسج الخيال).  

 تقول القنبلة وهي تعني تاريخ اطلاقها من فوهة القاذفة لتستقر في رأس احد شباب التظاهرات :

 (في التاسع والعشرين من شهر اكتوبر 2019، نلت خُريتي..)

(تذكرني الوحشُ بحنين جارف وضمّ علي اصابعه، ثم رفعني ووضعني في كأس الاطلاق لم يعدثمة شيء يفصلني عن رقصة موتي، اقتربتُ من يوم عرسي،) 

ثم:

( لم أمهله لحظة، هشمتُ جزءا من راسه، واخترقتُ جمجمته، وملأتها بالغاز القاتل، ما اجملها من نهاية..) الرواية ص 26-27

وهنا مكنت تقنيةُ الانسنة الكاتبَ من إعادة هندسة الجمجمة(بما تحويه) لتتسع لمخياله، اذ منحت القنبلة لنفسها حرية التنقيب الموسع في خفايا دماغ (باهر) بل حرية هتك اسراره الشخصية وقرصنتها، إذ ذاك تحول الدماغ من كونه عضوا بشريا مغلقا بقحفة الجمجمة الى مُستَقَرا ومكانا لانطلاق حكاياتِ تنبض بالحياة من (صناديق متعددة  كانت مغلقة) متجاوزا هيئته ووظيفته البايولوجية ليستوعب كل احداث الرواية ويفسرها ضمن فضاءات متعددة تنضدت فيها الذكريات والاحلام المؤجلة، والشِعر ومشاعر العشق غير المعلن، وقد تجلت في حلةِ حبكة فنتازية يتلاشى فيها الحد الفاصل بين العالمين الواقعي والفنتازي المشكلين للرواية: (...هذا الجوكر صنع الفرجة داخل راسه، سردَ عوالم تخييلية مشوقة، مكتظة بالصور والمشاهد والتواريخ والاشخاص، عالم حافل بالدهشة والسحر،..)ص75

وان مشاعرالدهشة التي وسمت سلوك القنبلة قبل حادثة اختراقها الجمجمة, هي ليست نفسها التي سترافقها بعدها، بل اصبحت ممتزجة بالحماسة لتحقيق هدف عملية الاستيلاء على جميع مكنونات باهر النفيسة جدا والغائرة عميقا في تلافيف جمجمته، وبزهو الاحتفال بالانتصار بعد قتله مرتين وهذا هو الهدف الاكبر :

( مرة في تهشيم راسه، ومرة باستباحة كرامته، وتدمير خصوصيته، وتحويلها الى فضائح، هذا هو سبيل النصر والتمكين...) ص78

ومن هنا يبدأ الموتُ سفره في النص، كذاكرة مستفَّزة بالانتهاك، حيث تنفتح التصورات المقترنة به على الاحداث بأوجهها المتغيرة، فتتجدد فضاءات تعبيرية وتخييلية غنية بالايحاءات والدلالات،راحت  تتجذر في بنية النص طافحة بالرعب والالم، وكأن الكاتب عمد على أن يصيّر من "الموت" (شخصية تراجيدية) مضافة الى شخصيات روايته الاخرى،وان يكون للموت وظيفته الرمزية الدالة على رؤيته التي يختزلها (باهر) المثقف والشاعر، العاشق والمسالم، والتي تختزلها بدورها ذاكرته ( جمجمة تشرين) حيث تجاوزت ذاكرته فردانيتها وانويتها لتمثل ذاكرة جماعية تنبعث من رماد الموت. لتؤدي وظيفتها في بناء الهوية الوطنية بكل حمولتها من الزمن المتماضي.  

وسوف تكون ردة فعل القنبلة شديدا وهي ترى مصداقية باهر كذاتٍ  نقية سريرتها وثقافتها وحبها لوطنها، عند مقارنتها مع ذات (القاتل) المتعطنة بالانحلال الاخلاقي، والنذالة، والشعوربالدونية، الماكرة،متبلدة الاحاسيس، والقاتلة:

( احتقرتُ وجودي داخل الجمجمة، شعرت بالعار، بفداحة الجريمة التي ارتكبتها، وازدادت حالتي سوءا، كم كنت نادمة...)ص93

(هذا ماحصل لي، هذا مايسمونه بالانقلاب الذاتي، شكل من اشكال الانقلاب، تمكنت خلاله من فك شراكتي معك، وتحرير نفسي من عبثك وغرورك ومنذ تلك اللحظة، تحولت بوجهتي الى امر اخر، انصرفت عن عفونة عالمك الازرق...) ص94

وبهذا ينفرط عقد صداقتها وعبوديتها مع القاتل الممثل "لسطة الحكم" فتنقلب على سلطته وتمنح نفسها سلطة "مدعي عام" وهي  تقرأ عليه ( لائحة الاتهام) Lمن حقك ان تبقى صامتا، ان تكون اخر من يتكلم، ولكن لابد من محاورتك في امور التهم الموجهة اليك، ومجابهتك بالادلة القائمة ضدك، ومطالبتك بالرد عليها، لن تنتفي براءتك الا بعد اخراجك من مساحة الإباحة الى مساحة التجريم ، وهذا هو ما اسعى اليه) ص66  

وعقب انحياز القنبلة الى جانب باهر وتماهيها معه، كأنسان وقضية، سيضوع عطر (روحه- ذاكرته) الآخاذ: في قصرالطبيب وابنته(يار) التي ألهمها حبُّ، باهرالتضامن مع التشرينيين، فغادرت القصر( قوقعة الاسرة)  لتصبح احد ثوارهم، وفي المستشفى حيث يتعرض الطبيب الى الضرب والتهديد  وهو يعاين بألم جسد باهر المسجى، فقد خرج من قوقعة حياديته محتفظا برصاصة القنبلة التي أخرجها من رأسه، وفي بيت أُم باهرهناك في اشدّ احياء الوطن بؤساً، حيث عالم باهر  (.. الحنون، عالم المنسيين خارج البلاد، المنبوذين في اقاصي المدن...) ص 135 

 تحمل الام المفجوعة سعودة(كالا الهة الشفاء السومرية، الطبيبة العظيمة) القنبلة " أدة الجريمة"، مجرد أداة ،الى ساحة التحرير، مختنقة بعبرة الثكلى، اذ صاح احدهم بصوت عال حين لوّحت بالقنبلة :

 (..سعّوده، ام الشهيد باهر، هذه أمّنا...... أشعلت الحماسة في نفوس المعتصمين،.... وجعلهم يهتفون باسمي، ويذكرون مآثري ويرددون بصوت واحد كلُّنا باهر..( ص139-

وبالرغم من هيمنة الحوارعلى بنية النص، لم يوصد الكاتب الباب بوجه راويه العليم في (-فصل ثانٍ - وفي فصول أُخرى) من الرواية ، بل منحه فرصة التعريف بشخصيات الرواية الاخرين، ( بسعاد ام باهر، والطبيب وابنته  يارا ) حيث تعمل بسعاد خادمة في منزلهم المترف، وقد اخذ الكاتب هنا دور الملقن المتواري خلف كواليس المسرح حيث لا يمكن للمتلقي رؤيته،وفي نفس الوقت، كاننا نراه ونسمع صوته وهو يخاطب (بسعاد) مقاطعا راويه العليم بمعنى انه بقي على علاقة  فعلية بما يُروى.

( ..نعم يحدث ذلك يا بسعاد طالما هذه البلاد تشتعل والاحداث تتلاحق...) ص30

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم