ثلاثة أسباب على الأقل جعلت من هذه الرواية مفاجأة جميلة بالنسبة لي، ولعل أول وأبسط هذه الأسباب هي كونها الرواية الأولى لكاتبها الشاب "شكري سلامة" الذي أتعرف على قلمه لأول مرة في هذه الرواية، ويهدينا عالمه الروائي الخاص، الذي نشأ وتربى فيه، وهو ما يقودنا إلى السبب الثاني، وهو كون هذه الرواية تأتي من عالم طالما بنيت عليه الروايات ونسجت حوله الحكايات، عالم القرية الذي يبدو أن لدى كتابه الكثير ليضيفوه في عالم الرواية، ولا يزال هناك من يقدر على اكتشاف مواطن جديدة للجمال وسحر الحكاية فيه، وهو إذ يقدم ذلك لا يلجأ لحكاية تقليدية عابرة، وهو ما سنأتي إليه تفصيلاً، بل يقودنا إلى حكاية طويلة ومتشابكة تمزج الواقع بالأسطوري، وتدور بين الماضي والحاضر، وتمسك بالقارئ من السطر الأول إلى السطر الأخير ببساطة وذكاء، ولعل هذا هو السبب الثالث الذي يجعل من هذه الرواية مفاجأة استثنائية، وإليكم بيان ما فعله شكري سلامة بالتفصيل:

تبدأ الرواية بتحديد زمنين للحكاية، الزمن الأول والآخر، ويكتشف القارئ أن الرواية تدور كلها في ذلك "الزمن الآخر" مقسمة إلى فصول، تحكي حكاية أبطالها "زين الدين إبراهيم" و"زين الدين إسماعيل" و"مصطفى/درش" وغيرهم من سكان الحارة وأهلها الذين يتغيّر عليهم الزمان، ويتركون بيوتهم فجأة بعد حادثة محددة لا نتعرف عليها إلا في الفصل الأخير من الرواية، وبين الآباء وما تركوه من إرث ثقيل  ومصير والأبناء ومحاولاتهم البحث عن الأصل والجذور تدور أحداث الرواية.

 الماضي يطارد الحاضر ويقوضه

إلى أي مدى يفرض الماضي وجوده وسطوته على الحاضر وأفراده، وهل يمكن بالفعل التخلص من الذكريات غير المرغوب فيها؟! هل يمر الزمن وننسى ونتناسى، أم أن الماضي ـ كما يحدث كثيرًا ــ يعود، ربما بسطوة أكبر، ينتظر"زين الدين إبراهيم" عودة ابنه الغائب "سلامة" بعد أن أصبح شيخًا كبيرًا يحتاج إلى من يعتمد عليه في حركته، ونستعيد معه حكايته منذ طفولته وعلاقته بوالده حتى يتغير الزمن به ويكبر في السن ويتزوج من الفتاة "فاطمة" التي هي في عمر أولاده، وفي المقابل يبحث "زين الدين إسماعيل" عن معنى لحياته، بينما هو غارق في قراءة الكتب والحكايات، تأسره حكايات جدته "هانم"، ولكنها تتركه يواجه العالم بعد وفاتها بمفرده، يبحث عن علاقة حب مستحيلة عبر صديقته "هاجر" التي يتعرف عليها من خلال الإنترنت ويبادلها الحب، ولكنه يخشى مواجهتها، فيذهب في رحلة غريبة للبحث عن أصوله هناك في حارة "النعناعية"    

((في غمرة التذكر والنسيان، والحزن والأسى فرد قدميه على السجاد، مستذكرًا كل اليوم الطويل، من أوديسيوس إلى زين الدين إبراهيم، وفي زحمة الصور والذكريات، سمع خبط المطر على الأرض، شعر به كأنه يطرق وترًا أخيرًا في قلبه كان لا يزال متماسكًا، رأى أوديسيوس يحمل مدينته بين يديه لكنها تذوب وتتساقط من بين أصابعه مثل الرمال، وشعر مع صورته بحرارة خفيفة في عينيه، حرارة متماسكة ودافئة كأنها متدفقة من قلبه، تخرج في بساطة، تنطلق في سهولة هذه المرة، أسهل من أي مرة، أسهل وأسرع من ترنيم المطر، أسهل ألف مرة من كل ذلك المطر))

من الأسطورة الإغريقية إلى الواقع الملتبس!

لا تقتصر الحكاية عند شكري سلامة على حكايات أبطاله عز الدين إسماعيل ومصطفى وغيرهم، بل يضفي مسحة فلسفية خاصة على لسان بطل روايته "عز الدين إسماعيل" الذي تشغله قراءته للأوديسة، ويوازي بين رحلته الخاصة وما يجده فيها وبين رحلة "أوديسيوس" للبحث عن أرضه وحبيبته، بل وذهب به تفكيره إلى أن "الحنين للمكان هو بقايا حنين آدم القديم للجنة .. للنعناعية"، وهكذا تتحول رحلة البطل من رحلة البحث عن أبيه وأصوله إلى رحلة أوديبيوس وما يواجه فيها من صعاب ومعوقات، وتبدو فيها حبيبته وجهًا آخر من وجوه "كاليبسو" التي يجب أن يهجرها ويهجر الخلود من أجل إيثاكا وبنلوبي، ورغم معرفته أن "أوديسيوس" سيعود حتمًا إلى إيثاكا في النهاية، فإنه يجهل بالطبع هل يتكون عودته إلى حارة النعناعية هي نهاية المطاف ووصوله إلى الحقيقة هناك؟!

تتزاحم أسئلة الوجود والمصير في أذهان أبطال الرواية، وهم على الرغم مما يبدون فيه من بساطة الهيئة، إلا أنهم مثقلين بهمٍ وجودي لا خلاص لهم منه، فهاهو "مصطفى" يبحث عن مكانٍ آخر له، رغم حصوله على زوجته التي ليست كبقية النساء، ولكن ما إن يصبح أبًا حتى تثقل المسؤولية كاهله، ويسعى هو الآخر وراء حلمٍ يتجلى فيه أبوه شخصًا آخر، بإمكانه أن ينقل حياته ويمحو عنه أيام الشقاء والتعاسة ويغيرها كلية!

 ((كان يحلم دومًا ببيت له وحده أو عُشٍّ صغير، وكان ذلك حلمًا قديمًا متعلقًا بالعُش الذي وجده فوق شجرةٍ جوار بيت المعلم منصور، فحين رأى آثار القش على تقاطع غصنين فيها، أخذ يتأمله يومًا بعد يوم، وكان بعد أن ينتهي  من اللعب أو من تجهيز صندوق المعلم منصور، يجلس أسفل الشجرة على الأرض المبتلة دومًا، ليستسلم لأحلام يقظته عن عُشه فوق تلك الشجرة كان يرى نفسه عصفورًا صغيرًا بلا زغب، في انتظار الطعام، متدفئًا بالقش وأوراق الشجر الجافة وذات يوم أغراه أحدُ الصبيان بقوله: «العش فوق، احدفه بطوبة وخُده» ‫ تحمَّس للفكرة، وأخذه الفضول، وأمضى النهار كله يقذف العش الصغير بالطوب، حتى سقط أغلب القش على الأرض ولما اقترب منه، لمح شيئًا مكومًا على الأرض، كان عصفورًا صغيرًا لكن حين  دقَّق النظرَ تيقَّن أن له وجهه هو، وجهه الخمري وشَعره الأسود المصبوغ))

هكذا تنتقل الرواية وأبطالها بين مساحات الواقع والخيال، وبين عوالم الأسطورة الإغريقية إلى دنيا الأحلام التي تحضر في الواقع، بل ويتداخل الماضي بالحاضر في مشاهد عديدة، حتى إذا ما وصل القارئ للفصل الأخير في الرواية تكشفت له كل خيوط الرواية، وأدرك تلك اللعنة التي ألمت بالحارة منذ البداية، وذلك المصير الغريب الذي طارد كل أبطالها حتى النهاية!

 استطاع شكري سلامة في روايته الأولى أن يصور عالم القرية، على ثرائه وتعدد شخصياته، بين الكبير المسن الذي يطارده الماضي والشاب المعاصر الذي يقرأ الكتب ويسعى للخروج من بوتقة الجهل التي تحيط به وتطارده، وبالسطاء الذين يسعون لتمضية أيامهم على الكفاف، كل ذلك بالإضافة إلى شخصيات الرواية الثانوية التي لاشك ستترك أثرًا كبيرًا في نفس القراء سواء الجدة "هانم" أو الحبيبة "هاجر" أو"أسماء"، وغيرهم الكثير، كما ظهرت بلدة "أشمون" وتفاصيل حياة البسطاء فيها وفي"حارة النعناعية"والكوبري المعدني فيها والمحلات والبيوت التي تتجاور سويًا فيها، جاء كل ذلك بلغة سردية شيقة، وإيقاع قوي متماسك.

 تجدر الإشارة إلى أن الرواية صادرة عن دار المرايا في مصر، ومتاحة الكترونيًا حصريًا على تطبيق أبجد

https://www.abjjad.com/book/2798551048

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم