"العنصري في غربته".. سيرة الجمر المدفون.

يعتبر كتاب “العنصري في غربته” سيرة انتقائية اختار فيها كاتبها السوري هيثم حسين حوادث وحكايات حصلت له خلال حياته ليكشف مكامن العنصرية التي لطالما رافقت البشر وتظهر غالبا مهما حاول الناس إخفاءها. من خلال حياته وذكرياته وواقعه لا يسعى حسين إلى التأريخ لنفسه ومسيرته بل يحاول أن يكشف ظاهرة العنصرية من زوايا دقيقة.

يصعب على الناقد، المنشغل بالسرديات، أن يجد مدخلا مناسبا لكتاب “العنصري في غربته” للكاتب والناقد هيثم حسين، بهدف الإحاطة بكل الحيثيات التي تحملها صفحات الكتاب الـ197. فهذا العمل السيري مغر بالقراءة بدءا من عتبته الأولى، إذ يدعو إلى البحث والتنقيب عبر الأدوات القرائية والنقدية، لاستنطاق كل نص من نصوصه التي بلغت العشرين.

 بصراحة، كان علي بعد قراءة الكتاب قراءة أولى أن أتواصل مع المؤلف بشكل مباشر دون واسطة كتابية (وكانت هذه رغبتي الشخصية)، محاولا من خلال ذلك استشعار الروح السردية التي دفعت المؤلف إلى اختياره “السيرة” نوعا أدبيا في تدوين تجربته عوضا عن باقي الأنواع، كي يستعين بها قالبا سرديا يساعده على نقل تجربته الإنسانية، التي بدت لي مثقلة بالكثير من العمق والتفاصيل، رغم أنها لا تخلو من جراح وندوب.

خمس ثيمات

يعرف العنوان عند المختصين بالعتبة الفنية الأولى، وهو أول عنصر لفت انتباهي، كما أنه سيلفت لا شك انتباه القراء؛ ما دفعني إلى السؤال: لم اختار هيثم حسين “العنصري في غربته”؟ أ لأنه استمد من ذاته الشاهدة في غربتها ما يميز العنصري عن غيره؟ أم أنه أدرك بعد احتكاكه بالغرباء -وهم في هذه الحالة ذلك الآخر بالنسبة إلى لاجئ سوري مثله- أنهم يعيشون هم كذلك في غربة؟

العنوان يبدو لأول وهلة مختلفا، ففي العادة يكون اللاجئ هو الغريب، وبذلك فالعنوان الواقعي للسيرة سيكون على الأرجح “اللاجئ في غربته”، لكن يبدو الاختيار كناية عن كثرة الغرباء وهيمنتهم -عدديا- على الأمكنة التي يضطرون إلى تخصيصها مقرا للجوء، مما يجعلهم يتآلفون بشكل لا إرادي مع طبقة من الناس عنصرية، ما تلبث أن تصبح أقلية بين جموع منْ غادروا أوطانهم، فيتواءمون مع بعضهم البعض جريا على مقولة ابن خلدون السوسيولوجية “الإنسان اجتماعي بطبعه”، وهكذا يمسي صاحب “البيت العنصري” غريبا من منظور المكان مع اللاجئ “الوافد إلى البيت”.

ولنبدأ من نهايات العمل لنلج بداياته، مستمدين من الدائرة السردية (التقنية الروائية التي كتب بها الجزائري كاتب ياسين روايته) مخرجا فنيا ندخل عبره النص السيري بطريقتنا، لذا سنستعين بما كتبه المؤلف نفسه في هذه الانطلاقة إذ “المخرج الفني ليس مشكلة للروائي، لأنه يمكن اختراع أو ابتداع مخارج لامتناهية”، ويمكننا أن نستشف دون عناء أن الكتابة أضحت بالنسبة إلى هيثم حسين علاجا استطاع من خلاله أن يهدئ من لوعة الغربة وزخم الاحتقان ولهيب الثورة الداخلية أمام كل ما هو عنصري، لذا فهذه الكتابة ليست علاجا فحسب -على حد تعبير كاتبها- بل هي لغته الجميلة.

وتساءلنا مرة أخرى -مثل المؤلف- لم قرر أن يكتب سيرة وليس رواية؟ وهذا بالضبط مربط الفرس، فالرواية كعمل فني تبني الكثير من الـمبررات الفنية لتسجّل الواقع وتضفي عليه ثوبا من التخييل، لتمسك بتلابيب القراء نحو النهايات، بينما تنقل السيرة (الذاتية أو الغيرية) واقع كاتبها الذي يستعين بالخيال كترجمة لما يشعر به بعد صدماته الواقعية، لكن المؤلف أجابنا عن هذا السؤال بكونه يرغب في أن يبدو عمله أكثر صدقا -وسط عالم قاس- من حيث واقعيته، ليس فقط من حيث الجانب الفني والتخييل، فقد كتب مرة أخرى قاطعا حبل حيرتنا “ظننت أو كنت أرغب توهما وتحايلا على الذات أن إثارة هذا الموضوع ‘العنصرية’ في قالب حكائي عبر شخصيات مختلفة متخيلة (…) قد تساهم في تذكية النيران في الجمر المدفون (…)، العالم أقسى من أن تؤثر به (فيه) أية حكاية. علينا إذن العودة إلى كتابة الفاجعة (…) من دون أن نحاجج أو نناقش” (ص 169 – 174: من أنت أيها الكاتب؟).


الكتاب يجعلنا نقف أمام تناقضات الغربة وتناقضات المكان والزمان ويستوقفنا أمام تناقضات الإنسان مع ذاته ومع أبناء جلدته

أولا ثيمة الألوان: وتضم النصوص التالية (صراع الألوان والأهواء/ بطاقة حمراء/ بحر العتمة/ ذو الصليب المعقوف)، ثانيا اللغة: وتضم النصوص التالية (أمجاد لغوية/ في بحر اللغة/ من أنت أيها الكاتب؟)، ثالثا اللجوء: وتضم النصوص التالية (اللاجئون هم الجحيم/ حين تتحول المنافي/ ملاذات/ جسور تجارية)، رابعا الموت: وتضم النصوص التالية (الجدران العازلة/ حياة أو موت/ وحش فتاك/ معارك يومية/ حصار الموت)، خامسا الإنسان والمكان: وتضم شذرات من النصوص التالية (ابتسامة ألبيرت/ فضاء متجدد/ كائن أونلايني).

 يعرف المطلعون على الدراسات اللغوية الحديثة أن للألوان دلالتها السيميائية، وهو ما استوقفنا هنا، فأول ما يثير الملاحظة هو الصراع بين الألوان والأهواء (وهذا بالمناسبة عنوان السيرة الأولى في الكتابة، في ص 07). كأن المؤلف استخدم العنصري قناعا للتعبير وهو “توصيف ينزع عن الذات والآخر أي قناع”، ولا غرو فهذا إقرار بأن “ذواتنا تخفي عنصريات بأشكال مختلفة والقليل من يمكنه أن يتحرر منها”، فصراع الألوان متعدد ينطلق من البشرة ويصل إلى الأعراف، بينما صراع الأهواء مبعثه المجتمع لأن عنصرية المجتمع كما يراها المؤلف تبدأ “من أصغر دائرة اجتماعية، وتكبر مع المرء في رحلته الحياتية” (ص 07).


الكاتب يمضي بنا على خطى الرحالة الحكاء لنستبطن معه الخطابات الفلسفية التي انسلت إلى تجربته الإنسانية والفكرية

ومن ضمن الألوان الطاغية الأحمر يتبعه الأسود، حينما يطل خلف (جسور تجارية) النمط العنصري المنسل بين الألوان وكأن الدماء الطاغية في ظواهر العنف دافعها اللون الأسمر الذي يشترك مع الأسود المتمثل في الضحية عبر العصور، وهنا تبرز العنصرية للقارئ ككائن خرافي دموي أبدي “إنها عنصرية دائمة لا تموت، تنبعث في أي موقف، تملك بذور الاستعمار في كل تفصيل” (ص 25).

وكرمزية فاقعة أخرى  للعنصرية يظهر العنوان “ذو الصليب المعقوف” (ص 33)، هذا الصليب النازي الذي لا يكاد يختلف اثنان في أنه يتخذ من الأحمر عنوانا لونيا، بما يحمله من دلالة عنفية تترك بالغ الأثر في النفس الهادئة، التي تنفر من القتل ولونه القاني المتعلق بالدم المسفوح، شهادة السارد هنا تنبع من مقته الرمز الديني ومن إحالاته العنصرية من خلال مقولته “عليك -أيها المسيحي المتعصب- أن تدخل بعض التعديلات على صليبك… الصليب المعقوف يناسبك أكثر (ص 39).

 وتتشابك دلالات الألوان مع تشابك الأمثلة العنصرية، التي يستخدمها المؤلف عاضدا حججه، فهو يصطدم بالتمييز الطبقي المسبوق بتمييز عنصري؛ فرغم المكتسبات الحضارية في العالم الغربي، التي تدفع -مثلا- إلى تنظيم حفل يجرم العنصرية، إلا أن الشكل العام يوحي بعنصرية مبطنة، “لا للعنصرية ضد السود…كان شعار ذاك اليوم” (ص 22).

 لكنه يؤكد في إحدى تلك القصص التي عايشها بالقول “لعل الرجل الأسود شعر بالعنصرية من قبل الأشقر حين نبهه بشأن سيارته، ولعله لخص فيه تاريخ العنصرية التي مورست من قبل البيض على أبناء جنسه”، وفي موقف آخر يحضر اللون العنصري بتناقضاته “لعل الأبيض (هذه المرة) شعر بالعنصرية لكن عنصرية الفقير تجاه الغني لا عنصرية الأبيض تجاه الأسود، باعتباره لا يملك سيارة تضاهي سيارته… ويكون محملا بإرث تاريخي يثقل كاهله” (ص 23)، تتجلى وطأة الذنب في حين يمسي الفقر هنا أداة عنصرية فرضها العصر الذي يحكمه الأبيض، شئنا ذلك أم أبينا و”كأن الماضي يجب أن يحكم الحاضر والمستقبل ويرسم مصائر البشر في حلهم وترحالهم” (ص 23).

الكتابة أضحت بالنسبة إلى هيثم حسين علاجا استطاع من خلاله أن يهدئ من لوعة الغربة وزخم الاحتقان ولهيب الثورة الداخلية

اللغة واللجوء

لم تكن الألوان في كونها تعبيرا سيميائيا، هي وحدها ما يوحي بالعنصرية والتمييز الإثني والعرقي من خلال “ما تشكله من لوحات (…) وأهواء وأمزجة يمكن أن تتناغم معا في نسيج حضاري مختلف”، بل هناك أداة أخرى أقرب إلى جوهر التواصل تسمى “اللغة”، هذه الأداة الإنسانية الأزلية التي يتواصل بها البشر منذ نشأة الخليقة، تمثل تعبيرا عن هواجس الإنسان ومشاعره لكنها أضحت عند المؤلف نوعا من العنصرية، “فهناك -مثلا- أمثال شعبية تعبر عن مدى العنصرية بين طيات المجتمعات” (أمجاد لغوية، ص 81)، فهو يشير هنا إلى عنصرية لسانية لمسها من كونه “كرديا” جاء بلد لسانه عربيا، ولكنه يستطرد فيؤكد أن هذا النوع اللساني من العنصرية “لا يقتصر على شخص أو فئة أو دولة، إذ لا يمكن العثور عليها في الشرق وفي الغرب، لدى المثقف والجاهل، لدى الأقليات أو الأكثريات” (ص 84).

هذه الشهادة -التي تعطي الانطباع بالموضوعية- تعيدنا إلى استنباط سردية القهر، المنطلقة من شيء أقرب إلى الغربة بمعنى مختلف، فاللغة بعدما كانت ساحرة وناعمة ومرتبطة بالطفولة الحالمة، وبعدما “دفعه عشق ‘اللغة’ العربية إلى التبحر في عوالمها” (ص 135) أيقن أن سؤال الاغتراب يطارده وذلك من خلال تعرضه لسؤال الكتابة واللغة، وبأي لغة يفكر حين يكتب، وكيف بوسعه في هذا التفكك الداخلي أن ينسج عوالمه الكردية بتلك العربية (ص 133).

لم يكن المؤلف بتعامله مع اللغة بعيدا عن سحب ذلك التأثير الذي عايشه وتعايش معه على علاقات “الآخر العنصري” مع المحيطين به، حينما استعار من هيثم حسين الروائي تقنية الراوي العليم لينسج عبرها في أكثر من نص بطله العنصري بالاستعانة باللغة كأداة. لغته الواضحة والصارمة استعان بها ليقول على لسان السارد شهادته، وكأن الغربة اللغوية هي التي تدفع الآخر إلى إبراز عنصريته، وقد شعر بها ودونها في نص “في بحر اللغة” على لسان “السارد الذي شعر في بواكير الحياة بهذه الازدواجية”، ودفعته إلى السؤال “كيف ينسج عوالمه الكردية بالعربية” قبل أن يصور خيبته قائلا “لكنني انصدمت أنني يجب أن أترك لغتي الكردية خلف أبواب المدرسة” (ص 133).

لم يكن سؤال اللسان وحده ما يطارد المؤلف، بل حتى الكتابة التي وهبته حبها كانت وبالا عليه، ودفعته إلى أسئلة الهوية والتعبير فشهد غير مرة قائلا “كثيرا ما أتعرض لسؤال الكتابة واللغة، وعن كوني كرديا يكتب بالعربية”، لكن التساؤل المرتبط بالتفكير وبالكتابة معا يدفع المؤلف -والقارئ- إلى البحث عن اللغة التي يجب بها التفكير وبواسطتها الكتابة، ولا يتردد السارد في السؤال “كيف أنسج عوالمي الكردية بالعربية؟” (ص 133).

نجد بين طيات كل تلك الأسئلة أجوبة مبطنة -تنحو إلى تأثير السلط وسياساتها- تعين على إزاحة ثقل الشك، لتقترب من بعض اليقين الشافي “لم تكن العربية غريبة بالمطلق علينا، فقد كانت تتردد على أسماعنا… ولم يكن وعينا الطفولي ليفصل بين اللغة التي يتكلم بها عناصر الشرطة والمخابرات، لذا كانت العربية لغة بعيدة وقريبة في الوقت نفسه” (ص 134)، ما يدفعنا حقا إلى استنتاج أن اللغة لم تكن أبدا أداة تفرقة أو تمييز بل كانت شكلا من أشكال التشبث بالهوية عبر التفكير بواسطتها وداخلها كونها محمولا ثقافيا على مدار العصور، هو شهادة السارد في ختام مقالته “حين اخترت دراسة العربية وآدابها كنت مدفوعا بيقين نحو عالمي…كنت أقرأ ومازلت، كثيرا، كانت القراءة تهندس عالمي المتخيل الذي كنت أنشده” (ص 136).

"العنصري في غربته" جعلتنا نقف أمام تناقضات الغربة وتناقضات المكان والزمان، وقبل ذلك استوقفتنا أمام تناقضات الإنسان مع ذاته ومع أبناء جلدته

“ليس هناك مكان ما يخلو من العنصرية” (ص 59) هي في رأينا الجملة المفتاحية، التي لخص بها الكاتب تجربته الشخصية في اللجوء. ورغم ذلك فإن اللاجئ وهو في مساره المهني والإنساني يثبت جدارته في ميادين شتى، بفضل مثابرته وجهده وقبل ذلك لنسيان ما تعرض له من أشكال التمييز، لم يسلم من عنصرية تطارده بأشكال مختلفة وفي أماكن عديدة، تتزايد حدة الغربة بتزايد وخزات العنصرية، ورغم ذلك فإن الغربة الحقيقية وجدت لنفسها تعريفا آخر في دواخل المؤلف حين رأى أنها “تتجلى في وجه من وجوهها لدى المرء حين يكون محروما من أبسط حقوقه في الحياة، في التعبير بحرية، في التمتع بالمواطنة… حتى في التفاصيل الصغيرة” (ص 116).

الكثير من التفاصيل الصغيرة يعيشها المغترب في وسط موبوء بعنصرية متعددة الأوجه، وهنا لم ينس المؤلف استحضار شكل من أشكال تلك العنصرية البغيضة التي اكتوى بنيرانها في بريطانيا، فمن “الحوادث التي ما تزال أصداؤها تتفعل في بريطانيا مثلا، تعرض ثلاثة لاعبين سود للإساءة (…) عقب إهدارهم ركلات الترجيح أمام إيطاليا في نهائي كأس أوربا 2020″، فمثل هذه الإساءة العنصرية تعيد للأذهان إشكالية التعامل مع التفوق وحبسه في دائرة صاحب البشرة البيضاء، والمثال الذي ساقه المؤلف يجعلنا “بمناسبة ذكر المنتخب الايطالي”، نستحضر قصة اللاعب بالوتيلّي (يعتبر ماريو بالوتيلّي أول لاعب أسمر ينضم إلى الآزوري في تاريخ كرة القدم الإيطالية)، الذي لم يتم استدعاؤه في الأصل إلى كأس أوروبا 2020 من طرف روبرتو مانشيني، الذي تعرض لهجوم من بعض الإيطاليين لعدم الاستفادة من خدمات اللاعب، ونظر إلى الأمر من زاوية “عنصرية”.

والسؤال الذي يطرح بمناسبة العنصرية الكروية الإيطالية “هل يمكن أن تتحول المنافي والمغتربات والمهاجر إلى أوطان بديلة؟” (ص 101)، لا يسعنا ونحن نطرح مع المؤلف هذا السؤال إلا الخوض في أعماق تجربته ونحاول أن نتداوى معه في المنافي بقوله “حين تشعر بأن وطنك المفترض يلفظك كشيء غير مرغوب فيه، أو يضيق عليك بحيث يقزمك فإنك لا بد أن تبحث عن وطن بديل” (ص 101)، وفي رحلة البحث عن الحلم تتعدد الوجهات ويصير البحث عن وطن كالبحث عن المجهول والغائب، لذا “تستوطن الغربة نفوس أصحابها، تغدو وطنا بجانب المنفى الذي غدا بدوره وطنا، تتعاظم الغربات وتكثر الأوطان ويبقى البحث الدائم عن ذاك الوطن الحلم” (ص 104).

لكنه يجد في نهاية المطاف في رحلة اللجوء الطويلة أكثر من ملاذ، ويصير القلم الذي أخذ المؤلف وقتا طويلا كي يدرك أنه شفاء مادي ومعنوي للكثير من الخيبات، في لحظات البحث عن فكرة روائية هنا أو مقال نقدي هناك، وكل هذا لا يكون بمنأى عن البحث “عن لقمة العيش التي تحتاج إلى المحاربة من أجل تحصيلها”. فيعود ليدون تفاصيل في يومياته، وحين يعود إليها يشعر أنها عدائية تجاه نفسه قبل غيره.

الموت والإنسان والمكان

العنصرية تطال الجميع (لوحة للفنان غسان العويس)

ليس هناك ثيمة في العالم الحالي أكثر ترديدا بين الناس في الوسائط الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي من “الموت”، والباحث عن لفظ العنف في المعاجم الحديثة لا يجد إلا التعريفات المتكررة من قبيل أنه فناء الروح، فناء الجسد… فللموت أشكال مختلفة، ليس أقلها الغربة والاغتراب. يجد مؤلفنا نفسه محاصرا بالموت ودلالاته، فهو دائم التفكير فيه، إلى درجة أنه أقر بأنه أمام لغز غامض، حينما يرى الناس ممن يعرفهم “يتساقطون من حوله، في الوطن وفي المهجر، في محطات الانتظار وفي مخيمات الضياع. وحين يستوطن التفكير في الموت خيال المرء فإنه يكاد يصبح جثة متحركة”.

 استحضار الموت لا يحيل من مؤلفنا إلى المصير المحتوم فحسب، بل يطل عبره لون العنصرية المغلف بالأعذار والظروف كالعادة، ومن هذه الظروف الطارئة ما حل بالبشرية في نهايات 2019، حينما “اجتاح العالم رعب كورونا، وسادت العالم حالة من الذعر والهلع” (ص 161)، وتراءت للبشرية هشاشة ذلك العالم المتحضر وأنانيته، فمنعت بلدان بلدانا أخرى من اقتناء الكمامات، وحاصرت قوات البحرية لدول الحوض المتوسط ناقلات للبضائع والأدوية وجعلتها تفرغ حمولتها بداعي كثرة الموتى من جراء الوباء. فاستيقظت في أوروبا بين عشية وضحايا الأنانية القطرية على حساب الكرم “الاتحادي”.

 وفي شهادة ذاتية من السارد أشار إلى تبعات العزلة في عالم الغربة الذي يعيشه “فرضت العزلة المستجدة طقوسا جديدة… كم كشف لنا الفايروس المستجد هشاشة عالمنا… وفضح مزاعم البشر بالتفوق والعظمة، وأعاد ترتيب الأولويات” (ص 165)، يبدو فعلا أيها السارد/ القارئ أن البشرية منيت خلال جائحة كورونا بهزائم من هذا النوع، كي تردها إلى بعض رشدها وحجمها الحقيقي، وكي لا تبالغ في تألهها وزعمها العظمة. أحرج الفايروس جبروت العالم الأول، وكشف تلك العنصرية الدفينة المختبئة في عبارات “الغرب البعيد”، البعيد عن باقي الكيانات البشرية.

حينما يعود كاتب إلى الغوص في غربته فإنه يوظفها داخل دوائر القهر واليتم، ويؤكد غير مرة أن حياة اليتم وسط الغربة المميتة، “لأن اليتم غربة بكل المعاني والغربة يتم قاهر، ضاغط مدمر” (ص 93). لا يتشكل اليتم من خلال غيبة الأهل بل أحيانا وسط حضورهم، وهو جدار من جدران العزلة فـ”هناك جدران تفصل بين أفراد الأسرة نفسها أحيانا، جدران تتشاهق وتبعد الجميع عن بعضهم البعض” (ص 72) فتتولد ليس لدى مغترب واحد فحسب تلك العزلة الذاتية رفقة تلك التي يحملها تغير المكان، بل يغيب الشعور المأمول عند الكثير من المغتربين بالأمان وبالحياة الكريمة فيتحول مكان الغربة إلى “بؤرة تهديد متجددة تغربهم عن أنفسهم وواقعهم، وتبقيهم أسرى شكوكهم بأهلهم وذويهم” (ص 72).

من خلال الشذرات التي ذهبت بنا إلى أهم تيمات سيرة العنصري، التي رواها الصحافي والناقد هيثم حسين، نلاحظ أن الجوهر في تلك الحكايات هو الإنسان وأن السبب على ما يبدو هو المكان. تبرز ثنائية الإنسان والمكان كحالة شائكة بين رغبة الإنسان في تحقيق الذات والصعوبات التي تجابهه لتجعل منه باحثا عن المكان الذي يؤمن له تحقيق ذلك ويجعله يمضي مع الزمن ليصل إلى مبتغاه بالشكل الذي يراه مناسبا له ولمن حوله. لكن صدمة تغير المكان بما فيه ومن فيه تجعل هذا الإنسان المرتحل قهرا أو بشكل إرادي يتنازل عن الكثير من تلك الأحلام، التي تراءت له في البدايات محطات واقعية ليس بالعسير الوصول إليها.

"العنصري في غربته" جعلتنا نقف أمام تناقضات الغربة وتناقضات المكان والزمان، وقبل ذلك استوقفتنا أمام تناقضات الإنسان مع ذاته ومع أبناء جلدته. لا تكفي قراءة واحدة لهذه السيرة البديعة، ولكن الأمر يحتاج فعلا إلى دراسة تستوفي الثيمات حقها والمؤلف حقه.

المصدر: صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم