الرواية في مخاضها العسير.. "آتيلا آخر العشاق" لسردار عبدالله
كيف يمكن الربط بين كاتب معروف في توجهه السياسي، وسياسي يقرأ الأحداث بلغة الوقائع ويحللها باعتباره سياسياً، وما للسياسة من قدرة معروفة بتناول المجتمع من زاوية معينة فكرياً، وإذا به يعرَف بالكاتب الروائي، وما للرواية من أهليَّة لأن تطرح نفسها تمثيلاً رمزياً لكاتبها، وعبر متخيل يتناسب وقدرته على التحليق بالواقع ونسجه فنياً، نقيضاً للسياسي فيه؟
الرواية فن أدبي، ظهرها هو ما كان، وصدرها ما سيكون، والحاضر برزخيّ بينهما، وللمتخيل أن يطرح نفسه من خلال تمتعه بتلك اللغة التي تحرر كاتبَها مما هو مطروح في الحياة العابرة، تمهيداً لولادة منتظرة، دونها لن يفلح كاتبها في تأكيد هويته فنياً،مخلّفاً السياسي داخلَه وراءه !
في روية الكاتب الكردي سردار عبدالله: آتيلا آخر العشاق " الصادرة عن دار " هاشيت أنطوان " بيروت، 2019،يمكن متابعة السردية الكردية في تاريخها الطويل والمكثف، سردية الأمّة الممزقة/ المشتتة، الشعب الملعوب بمصيره، القومية التي لم تنهض، كما ينبغي في تاريخها الحديث، على وقْع الصراعات الجانبية: ليس مع أعدائها فحسب، وإنما فيما بين مجموع الفرقاء الذين يشكّلون لحمة هذه القومية أيضاً، واللغة المطروحة في حياتها اليومية، وعلى صعيد الكتابة، لائحة من اللهجات التي تترجم واقعهم المجزأ، وصعوبة التواصل فالتفاعل فيما بين الكرد أنفسهم وانعكاس ذلك على مصيرهم، وتصورهم لأنفسهم ولبعضهم بعضاً.
بالطريقة هذه ترتقي الرواية إلى معطى أدبي بانورامي واسع( الرواية تتكون من قرابة 500 صفحة من القطع الكبير)، وثما ما يخيف في بنية النص المكتوب أسلوباً، وما يستوقف القارىء جهة التداخلات بين مستدعى تصوفي" فريد الدين العطار" في كتابه الأم " منطق الطير" الأشهر من أن يعرَّف، وأصل الرواية بعنوانها اللافت، وتمازجه مع المحتوى الذي يمارس ما هو مستدعى تصوفياً تاثيره المؤكد في النسيج الحي للرواية، وصدمة المستقرَأ منها تالياً.
وللعِلْم، فإن هذه الرواية، ومن خلال متابعة متواضعة لها نالت استحساناً وتقريظاً جيداً، من خلال مقالات منشورة انترنتياً، وتكاد تتفق في جملتها" وتبعاً لما قرأتُ " على أن هذه الرواية هي " رواية الوجع الكردي "، وآتيلا المفردة الأولى في العنوان وما يأتي وصفاً وتعريفاً به: آتيلا آخر العشاق، هو المحور في الرواية، وما عدا ذلك يحضر ويغيب تبعاً لمنحنيات السرد وتقاطعاته، كما لو أن الروائي راعى ما يشغله، وقارب ما يهمّه ويقلقه، وأطلق العنان للخيال الذي راهن عليه ليخفف عنه وجع العنَّى كردياً، فثمة " شاسوار " شريك آتيلا في إضاءة الأحداث،وثمة فاطمة شاغلة آتيلا حقيقة ومجازاً، وهو " الروائي " مفلترها بميزان الصرف الصوفي، تلقي بظلالها على الرواية، جهة موقعها، وتنتهي شهيدة كردية، حيث مناخات الحرب العراقية، وما يبقي الكرد في مواجهة آلة حرب النظام، والتوترات الكردية وضحاياها بالمقابل . ولفريد الدين العطار المستدعى بطريقة مركَّبة، كما سنرى، جامعة بين حضور تاريخي موثّق له، ومن خلال مأثرته بخاصيتها الملحمية" منطق الطير " وحضور محوَّل إلى مصهر المتخيل الفني الذي يحمل دمغة كاتبه، تتناوبه فصول الرواية مداخل ومقاطع في بنية السرد، كما لو أن الرواية تعنيه وهي في الواقع تقوم على اسم ومعطى تصوفيين ومأثرة كتابة وأهليتها لأن تسبح في مياه الزمن النهرية، ويُرى فيها ما يمدُّ بها إلى الآن وتالياً، كما هو الوضع الكرد ومأساتهم التاريخية.
أي إن الكاتب يكون خلف الدافع للأحداث مركَّبة، والمقدَّر في الحراك السردي لكل واقعة فيها، والمرمّز لمجموع التفاصيل لتستحق تنسيباً إلى سجل الفن المحفوظ، وما لها من مأثرة اعتبار.
إنما إلى أي مدى، حمل الكاتب تلك الفأس " الكافكاوية " ومارس بها تكسيراً لذلك الجليد في أعماقنا النفسية "؟ إلى أي مدى حرَّر الماء من صلابته النوعية وأرجعه إلى سيلانه النوعي؟
هوذا تحدي الرواية لاسمها، وعبْر كاتبها، وما يمكن النظر فيه انطلاقاً من قراءة تراعي ذلك!
الرواية، أي رواية؟
بدءاً من العنوان، يجنح الكاتب إلى اعتماد أسلوب الرواية الحديثة، حيث لا يعود السرد بتلك الخطاطة التاريخية " من- إلى " إنما ما يكسر الخطاطة في نقاط تباغت القارىء، أي حيث لا يعود القارىء سعيداً بما يقرأ، وبما يمكنه التوقع، من سرد ينتظم بطريقة التوالد، حيث الكسر هو الذي يمنح الكاتب فرصة القيام بمناورات مختلفة، تبقي القارىء شديد اليقظة، ومتنبهاً إلى كل جملة يقرأها، ليتبين فعل القراءة المركَّب: أين كان البدء، وأين توقف، وحدث القطع، وأين جرت العودة.. وهكذا، أي ما تكونه الطيات المتداخلة، والتي من شأنها منح القارىء المأخول بتلك السردية التي تتداخل فيما بينها، وتضع قارئها أمام حقيقة وهي أن الواقع ليس كما هو متوقع منه إنما يجعله حافلاً بالثغرات أو الصدوع، وإملاء الفراغات من شأن القارىء بالذات.
هل أعمد إلى اقتباس ما هو موسيقي لجعل المقروء هنا أكثر احتفاء بالدلالات؟ في الموسيقى، كما في أي آلة موسيقية: الوترية منها، تكون الفراغات القائمة بين الأوتار، هي التي تضفي عليها قيمة أدائية في إرسال الصوت منغماً، وفي منحه إيقاعاً موسيقياً مختلفة، والنص موسيقي نشأة، كما في المسافات القائمة بين الكلمة والأخرى، الجملة والأخرى، وبين السطور، لتسهل عملية القراءة، إنما ما يتمكن القارىء من سماع الموسيقي خلل المقروء، حيث النص مقروء بصرياً، وفي المتخيل مسموع أذنياً، وما في ذلك من حضور الهارموني، أو التناغمي المطلوب.
من يكون آتيلا هذا؟ أي معنى مغاير يعرَف به الاسم، ليكون تالياً: آخر العشاق؟
ذلك هو الفضول المعرفي المتمازج مع الأدبي، لمعاينة حقيقة أمره وموقعه العشقي أيضاً .
الرواية تتكفل بإضاءة هذه الميزة التي تستغرق كاملها لينتهي قارئها إلى استنتاج وما يعنية رمزياً على مستوى القراءة، وما يدفع بالرمز ليتم تناوله من أكثر من زاوية لأن ليس من نفاد معنى له، ودون ذلك تلفظ الرواية أنفاسها الأخيرة قبل الإفصاح عنها رواية فعلية.
يتساءل، أو سيتساءل القارىء منذ لحظة العنوان: لماذا آتيلا آخر العشاق، وكيف له، وأنى له أن يكون آخر العشاق، وأي نوع يكونون هؤلاء ليكون آتيلا آخرهم، وتبعاً لأي منظور قيمي ؟
أسئلة ترفَق بالعنوان، باعتباره، المفردة ذات الاعتبار في التعامل مع الكتاب، كما هو المقروء باسمه عتباتياً، وما يحيل العتبة إلى أكثر من إسناد لمحتوى الكتاب، أي بوصف العنوان منتج معنى، وبوصف المعنى هنا منتج دلالة، وهذه من جهتها توسّع مفهوم النص وتعمقه كذلك.
وأحسب أن كل هذه التصورات أو التخيلات قابلة لأن ينظَر في أمرها، وربطها مع الحراك النصي، وما إذا كان يفتح طريقاً نحو الآتي، وأنه في كل مرة يعمّق أثر عنوانه، وما يصله بكامل النص المكتوب أو المحرر كنص شامل، وأي صورة يجري التقاطها وهي تعني الكتاب عموماً؟
إن ما هو مسطور على الغلاف الخارجي أُخِذ به كثيراً بوصفه خميرة حية تمنح قارئه لذة إقبال على القراءة وهي في مواجهة كم وافر مساحةً، وما يتطلب الوضع هذا من استعداد نفسي( بينما يسيطر عليّ هذا القول المتكرر " وما تدري نفس بأي أرض تموت " ، أنوّه في لغز قطعة الأرض التي يمكن أن يكون أبو سعد دفن فيها. أين تقع ؟) .
إنها علامة فارقة في نسج السرد الروائي، بالنسبة لهذا الـ" أبو سعد " القادم من " داخل العراق " ليصبح مقاتلاً كردياً أو نظيره، وليقتَل في حرب عبثية كردية (لماذا قتلوا أبا سعد؟ لماذا قُتِل في تلك المعركة العبثية التي أودت بحياة العديد من ثوار الطرفين؟ الغريب أن الطرفين يدّعيان الثورية والحقانية في مواقفهما..ص 102).
تلك عبارة مقتطعة من الرواية، لجعلها لافتة بمغزاها في سياق ما هو عام منها . وللمضي بمفهوم النص إلى ما هو أبعد من المتوقَع أو المرتقب بالمقابل، كما هي لعبة الكتابة هنا أساساً ، كما لو أن الروائي، يريد وضْع قارئه المنتظر في صورة ما يريد جهة الرواية وعالمها السردي والعُقدي.
وهذا ما يمكن التعرض له منذ البداية، لحظة الحديث عن صاحب " منطق الطير " الأشهر من أن يعرَّف فريد الدين العطار، والذي رحل عن دنيانا قبل ثمانية قرون " 1145-1221 م "، وهو يحيله إلى شخصية داخل شخصية، دون أن يفقد العطار حضوره الشخصية، بالعكس يكون الإشكال الكبير والذي يستحيل حله، كما هو الواقع المرصود من لدن الكاتب، وكما كان العطار إزاء واقعه وهو يتعرض له تصوفياً، ومن خلال نسج العالم المرصود رمزياً " منطق الطير " كأني بمنطق كهذا، وما فيه من غرائبية وعجائبية، إذ كيف يكون للطير منطق، يستجيب لذائقته الأدبية، وقد استعان بالعطار، وأنى للعطار أن يتجاوب مع منشود الكاتب المعقَّد في التركيب الصعب لواقعه الاجتماعي، وهو السياسي أصلاً، كأني به جرّاء الحمولة السياسية والإيديولوجية الغاية في الصعوبة والمجهِدة بحث عن توازن نفسي، وما يمكن أن يكون مخرجاً بمنطق التصوف وهو في بنيته السردية وتداخل أقوالها وحكاياتها، يمشهد الواقع المطروح سردياً، إشهاراً لحقيقة لها أبعادها المختلفة غير المحاط بها وتشهيراً لها في آن. لنكون إزاء لعبة الدمية الروسية، لنكون إزاء ما سيأتي واقعاً في ضوء المقروء فنياً.
وما يستحق السؤال أن الاستهلال تمظهر في خمسة أقوال تعظيمية لشخصية العطار، وهي تتقاسمه بمقدار ما تعزّز المكانة الفريدة له، وربما كان قول واحد كافياً لإبراز هذه الميزة، سوى أن جانب الجذب النفسي للكاتب جهة لعطار، وما يمكن أن يقال في روايته وسعيه إلى تأكيد تلك الخاصية المركبة ربما يسوّغ هذا الإجراء.
إن ما قالوه عن العطار من تعظيم وتفخيم، يشكل دعوة إلى وجوه تفتح كامل القوى العقلية لقراءة ما هو منسوج عطارياً وسردارياً، إن جاز التوصيف هنا، مع الرواية . وأزعم أنه سعى جاهداً إلى هذا التوازن بين الحالتين، إنما ليكون العطار في المستدعى منه مرآة صقل المعلومات .
الاقتباس بُعدٌ تنويري، ويؤكد صلاحية العمل المتخيل، كما أنه يذوّبه في جسد النص، كما لو أنه ملتحم به أو ينتسب إليه، استناداً إلى تلك الذائقة المتروية في بنائها السردي.
عندما يقتبس من مولانا جلال الدين الرومي قولاً في العطار:
( لقد طاف العطار بمدن العشق السبع، بينما لا نزال نحن في منعطف الجادة الأولى )، وما يرد في نطاق المقتبس الخامس، بخط يد ملك الكلام مجدي كردستاني :
( إن العطار كاشف أسرار الوجود، وإنه كسنائي من فيض الإله...إلخ ).
يشكل الاقتباس وجه عرّافة مستقبلياً، بخصوص الكاتب، فما رآه الآخر في موضوعه، هو ما أراده طرحه وإظهاره جلياً في نصه الروائي، وما في هذا التناظر من حكمة بمعطاها الأدبي.
في وضع كهذا، لا ينبغي أن يمر الاقتباس دون تعليق أو وضعه في سياقه الأدبي، ومن قبل الكاتب بالكاتب، حين أكون على علْم بحقيقة المكلَّف به تقديراً وهو العطار في أن يكون لسان حال روايته الخفي، وهو فارسي، حيث ينتزعه من نطاقه التاريخي والجنسي، واعتماد تلك الأقوال والمقتطفات التي تخص منطق طير:ه، تعزيزاً لعملية المهمة الصوفية وقد جرت معالجتها لتغدو أدبية: روائية، وهذا الاقتطاع من سياقه النصي المختلف زماناً ومكاناً وطبيعة لغة،يمرّر عبْر فتحات تهوية نصية، وتوزيعها على أقسام أو فصول أو مشاهد عامة، أكثر من كونها تطعيماً أو فاعل هجنة، في الجينة الروائية اللافتة بدقتها وعامل اليقظة فيها، وما أن يقرأ المقتبس أو الاقتباس، أي بوصفه استشهاداً، حتى يجري فصل بينه وبين جسمه الأصلي، وحتى العطار لا يعود كما هو العطار، في مستهل كل قسم مرقَّم، إنما ما يكونه النص التالي في رحابه، وما يكون مذوباً في حاضر النص، وليس ماضيه. لنكون إزاء سلسلة من التمزقات التي تضمن تقديم نص روائي متخم بالجراحات أو المكابدات تعبيراً حياً عما تكون عليه شخصيات الرواية بالذات.
الكاتب الروائي لا تنقصه الحنكة في التقابل بين تاريخين، بين واقعتين، بين شخصيتين: العطار وآتيلا، مع مراعاة الأسبقية زمنياً، ومكاشفة سياسة الكتابة الميكروسكوبية، إن جاز التعبير، في الدفع بنصه المكتوب إلى القارىء بوصفه نصه بامتياز مهما ظهر العطار طافياً على سطحه .
في بنية الرواية يكون المقروء كما هو النص الصوفي المعتمد على التأويل، على سر لا ينفد، في مجابهة واقع يستحيل النظر في أمره بسلاح التفسير، ومدى بساطة هذه " الآلة " القرائية ذات التاريخ العريق والمستعمل كثيراً، وليكون التأويل الذي يحذّر جانبه، جرّاء ما يمكن أن يمرَّر باسمه من معان أو أقوال أو إشارات ورموز، وما في ذلك من إقلاق النص وقارئه معاً، هذا العمق السلطوي الرمزي برأسماله الثري والمدفون في المتن، وما يصدم به المتداول اجتماعياً، ومن ثم، ما يكون عنصر تعرية لهذا المأخوذ به وقد انعدمت أو ضعفت صلاحيته، انطلاقاً من الضغوط الممارَسة على الواسع، جهة الموسوم بـ" المحظور" بثالوثه المعروف: الدين، السلطة، الجنس، وحاضر الجسد في ثنائيته: الذكر والأنثى، وتبين مدى رهاب السلطة من كل ذلك. أليس هذا ما ابتغاه الكاتب في روايته، لحظة الشعور بعجز التفسير المحروس سلطوياً، والاستمرار في إنتاج أدواته وإعادة إنتاجها، من خلال متتاليات التمزقات القاهرة ووسم المجتمع بالمهدور في قيمه أو ما فيه من سوية حياة، لتكون آتيلا آخر العشاق، الشهادة الساطعة على خلل أضيئت ساحته، أو كان عليه أن يظهر للعيان، تجنباً للمزيد من الكوارث، قبل قيامة الطوفان؟
ما يفعله العشق، ما يكونه العشق فعلاً
عشق الشخصية المنمذجة روائياً: آتيلا، عشق رؤيوي، عشق داخلي، فالنص مقروء في ظاهره، لكنه مسنود بعلامات من الداخل، دون ذلك " تبطل " صلاة القارىء للنص، حين يكون من نوع " عبادة تركز النظر على النص، ويتفرغ له " قلب " القارىء ليسهل عليه تفهم آتيلا:ه.
الرواية لا تحدد بداية معلومة شأن أي رواية معلومة بسردها التليد. إنها سلسلة متقطعة، ولها حلقاتها المتداخلة، وثمة ضرب من المجهول واستدعاء الفطنة في الحال، حين نقرأ بداية، وبعد مقولة توجيهية من العطار( انظر ماذا يفعل العشق بنا؟!"):
( لن أتردد هذه المرة ولو للحظة، وسأتجرعها دفعة واحدة ..ص7 ).
ماالذي سيتجرعه؟ لا علم لنا مباشرة، بمشروبه، ومن يكون هو نفسه. الشارب والمشروب مجهولان، وثمة فعل يقع في نطاق الآتي: المستقبل. وهناك تحدّ، إنما لمن وكيف؟
تلك صنعة بوليسية وما يقابلها من فضول معرفي للوقوف عند حقيقة الأمر.
ما يلي هذا القول/ التحدي، يكون دالاً على ضعف، على محنة نفسية ومؤطرة بدورها:
( يا إلهي .. يا من تقف في تلك الأعالي ممسكاً ، بقوة، بزمام كل صغيرة وكبيرة، في هذا الكون الواسع المخيف! إنني أقف أمامك الليلة، تفصل بيني وبينك هذه الكأس، التي تشكل الحد الفاصل بين كل ما مضى ، وكل ما هو آت... بين يقين الإيمان ، والكفر المطلق، سأهجر سجادة الصلاة، وأيمم وجهي شطر الحانة، بدلاً من المسجد من جديد. أنا الذي التزمتُ تجاهك، ونفذت كل ما علي من وعود وواجبات، ولم أطلب منك في حياتي كلها، إلا وصْل فاطمة ..ص7 ).
هذا المقتبس الروائي يضيء ما قبله، كما أنه يسهّل قراءة ما سيليه من أحداث، ويبدو أن على القارىء التنبه إلى صلات الوصل أو القربى بين هذه البداية المقررة والتالي عليها.
هناك خلل واقع، علّة من النوع الاجتماعي لم يستطع الاصطبار عليها أو تحمل وطأتها، وهي تصله بمن يحب، أو يعشق، على وجه الدقة: فاطمة! ففي الاسم المأخوذ به، تاريخ طويل مما يمكن أن يقال أو يحكى، حيث تلقي بظلالها على كامل النص أو السرد المتقطع. من تكون فاطمة هذه؟ ما السر في كون المرام لم يتحقق، أو الوصل لم يتم؟ لا بد أن الصدمى كانت كبيرة، على صعيد الفاعل والمفعول به. إن اندفاعه إلى ما جرت تسميته، هو يخاطب إلهه وليس سواه، وبصفته نظير متصوف أو يتجلبب به، يقابل صفة الصدمة، ومأثرة العشق التي أقعدته، وبالتالي دفعت به لأن يغيّر في مسار علاقته بنفسه، وبإلهه نفسه. الرغبة محكومة بالفعل الكارثي: الفشل!
وبما أن للتصوف في مرجعيته الكبرى، وفي الحمولة المقدَّرة واللافتة لما هو تصوفي عمراناً واستبياناً كذلك، فإن الأدق في بنية القراءة هو النظر في الرواية على أنها تمارس تحرياً للجاري واقعاً وعبر المتخيل الروائي، من أرضية التصوف وما من شأنه مكاشفة المقروء بعمق كاف.
ما يظهر جلياً بأكثر من معنى هو صدمة السارد عبر آتيلا بما هو واقع، وما يخص الخيبة بالذات ومن خلال التحسر وربما لوم خالقه لأن الذي جرى ما كان يجب أن يجري، وبيد خالقه مقاليد الأمور، وهو ما يضعنا في مواجهة الواقع وسريان فعل الأحداث فيه، وعنف محتواه كذلك.
خاصة وأنه يتحدث عن الآغا والفشل في النيل منه، ولتكون الكأس هي الحد الفاصل بين ما هو دنيوي وما هو إلهي، أو ما هو ديني. فالكأس بمحتواها تحديداً مصنوع دنيوي ودالة عليه.
وهذه الكأس تستمر بدمغتها من بداية الرواية إلى نهايتها، وتعمقّ الرواية في تضافر مكوناتها.
وهذا التقلب من حال إلى أخرى ترجمة حية لما في الواقع من تقلبات، وما يعيش السارد من جملة صدمات لا تنتهي، وهي التي تشغله كثيراً، كما لو أن الرمز الصوفي أفضل ملتجأ لخياله هنا.
في محيط الكأس، ومن داخل الكأس تتلون الأحداث، ويتشكل السرد بصياغات مختلفة، ، والحديث عن آتيلا مباشرة، لا ينفصل عما يكون عليه الواقع عموماً:
( عجبت أمر هذا الرجل، فلو اصطدمت به في رواية، لجزمت بأن الكاتب يبالغ كثيراً في رسمه بهذا الكم الكبير من الخرافة والغرابة. فمن سكّير لا أبالي، تحول على يد قروية أمّية إلى زاهد لا تفارق سجادة الصلاة كتفه، وها هو يأتي بعد سنوات عدة، لم يقرب فيها الخمور أو المخدرات بتاتاً، ليرتد مرة أخرى على إيمانه القوي، ويلتجىء إلى الخمر مجدداً، حين سألني عن مصر فاطمة، أحسست من نبرة صوته بأنه على وشك اليأس الأقرب إلى الانهيار التام..ص17 ).
سارد يتعقب خطى سارد، وما في هذا الإجراء من حيلة روائية، كما لو أن المتحدث عنه من خارج الرواية، وليس من بنات الروائي نفسه، وأنه في الدور الذي يقوم به، لا يتقدم على آتيلا، بمقدار ما يكون في دور تكليفي، لأن الحياة في مجتمع الرواية لا تأخذ معناها رمزياً، إلا بإضاءة عالم آتيلا داخلاً خارجاً، أي لآتيلا دوراً استقطابياً وهو الذي يفيدنا في تقصي الحقائق .
كما نوَّهت، نحتاج في كل عملية قراءة إلى المضي بالقراءة إلى ما وراء المعنى المتشكل بداية، أي إلى ترجمة ترجمة للمسرد روائياً، كما لو أن شخصيات الرواية في ذاتها محكومة من الخارج جملة وتفصيلاً، وأن آتيلا يأتي في الواجهة.
آتيلا ليس سوياً، إن ربطه بالعطار، وتسميته بالعطار، والتمحور الرواية حوله، لا يعني البتة أن هناك ما ينبغي التنبه إليه وهو في عدم اعتباره الخالي من العيوب، بالمعنى الفني. إنه من جهة شاهد على أحداث سبقت وجوده ككردي، ولاحقة عليه، وهي تترتب على ما يجري منها في محيطه، ولكنه من جهة أخرى شهيد تكوينه لانتمائه إلى أرومة مسجَّل عليها كما يبدو، أم يظهر، في أن تعيش تلك التمزقات الكبرى، والدالة على انقسامات مجتمع يعنيه أمره في مصيره، وهي سياسية، وفي الوقت عينه، لها تاريخها المديد، وليس حديث العهد طبعاً، وأن لعبة التحولات الفالقية في حياته، وفي تصريحاته أو شهاداته، أو ما ينطق به تعرضه لتحليل التاريخ المخبري، أي ما يريه من الداخل في تصدعه أو عدم تماسكه، لأن لعبة الواقع أقوى منه، عدا عن كونه مفتاح سره أيضاً.
حين يقول آتيلا:
( كلا، لن أحتسي هذه الكأس أبداً، فالوعد الذي قطعته على نفسي أمام فاطمة وأمام الله، لن يبقي منه شيء، إن احتسيت هذه الكأس التي ستفتح علي أبواب جحيم الإدمان من جديد.ص21).
لا يجب أن يصدَّق هنا، وليس من علامة تهدي القارىء أو تعلِمه بوجوب التصديق، لأنه وجِد ليقول ما هو متخوَّف منه، وليضيء ما يُسمّيه من متعارضات تنسّبه إلى حراك الواقع .
آتيلا خارج المكان وداخله، وهو في الحالتين يكابد مرارة المتحول في الواقع،في نوع من عبث الأقدار، ولكنه عبث منظَّم، أي يكون له قانونه الأدبي الخاص، وفي سياق تلك المشاهد التي يمكن قراءتها معاً، أو على حدة، ووصلها مع بعضها بعضاً، ومكاشفة شفافيتها .
ليس لوعد آتيلا من قيمة تحذيرية، ليس لإخلاله بالوعد من قيمة مضافة، أو معكوسة، إنما هي صنعة الروائي بالذات، وربما على القارىء أن يكون أكثر إخلاصة لهذه التجاذبات التي تحيل عالم الرواية إلى خرائب من منظور القيمة التاريخية للمترتب على كل جملة الوقائع فيها.
وللمأخوذ بالتصوف أن يكون مخلصاً لهذا الالتجاء والتجسيد الدلالي له. فالصوفي كشخصية في أصل تكونه انشطاري أو مصاب بعٌتْه الواقع، مصدوم بما يستجد فيه، وتصوفه خيار اضطراري وليس عن إرادة واعية وحرة، يكون جرّاءها سوياً، وقادراً على ممارسة حياته دون خلل، بما أنه في حياته المميّزة له احتماء بداخله، وما في ذلك من إدانة للواقع، للمجتمع ومن يسوسه.
يعد ولكنه لا يعد، وهذا التردد، هذا الانتقال من وضعية إلى أخرى، على النقيض، تمثيل لتلك التقطعات التي ينبني عليها السرد، وإبراز تلك التشظيات في نسيج الواقع بكل أبعاده .
آتيلا مسكون ومتحرك بين شاسوار السارد والداخل في لعبة المستجدات، وأحمد ماركس الذي لا يعنيه في آتيلا سوى كونه عبئاً على التاريخ: رجعياً، بمفهومه الماركسي الصراطي.
وفي ربطه بفاطمة إضاءة لبعد آخر من أبعاد شخصيته، وإضاءة لتعقيدات الواقع، ولما يخصه هو بالذات في مجتمعه العراقي والكردي جهة الولادة( ولدت لأم سنّية كردية، من عشيرة الزنكنة، مما لا يدع مجالاً للشك في كرديتها، وأب شيعي ينحدر من عشيرة الهنداوية، تزوج قبل أمي بامرأة تركمانية، لذا كنا نتحدث في البيت كلتا اللغتين الكردية والتركمانية. ص 31 ).
وما حديثه عن الكوارث إلا الدفع بالقارىء لأن يتحرى حقيقة مجتمعه وموقعه البائس فيه.
هذا التشارك في الانتماء، وفي اللغة، يحيلنا إلى حضور اجتماعي وتكوينه الاثني، وتلك العلاقات التي تتشكل في ضوئه بالمقابل، ولعل الراوي حين يتطرق إلى نقاط كهذه، إنما يتوخى ما هو ممكن التوقف عنده، وأخذه بعين الحسبان في سياق التوترات الاجتماعية وكِلفها ومآسيها.
في الحديث الواضح السمات عن المقبرة، ومن خلال آتيلا، ليس من وصف مجاني يخبرنا بطبيعة المقبرة دون النظر في المغزى من ذلك:
( ما أكبر هذه المقبرة التي لا تشبه مقابر البشر، فما يقارب النصف من ساكني قبورها شهداء..فيا لتضحياننا التي لا حدود لها، ويا لاستهانتنا بها! ويا لاستهتارنا المخيف بقداستها ورمزيتها..! يا لهول ما قدَّمنا من تضحيات. ولكننا للأسف لم نحترمها..ص42 ).
المقبرة ليست منظراً طبيعياً، ليست اقتطاعاً مكانياً، إنما علامى فارقة لا تقف عند حدود معينة، بمقدار ما تتسع، وبالتالي فهي تشكل إدانة صارخة لما يقال عن الثورة والحلم المعقود عليها، أو مفهوم الوعد المنتظر، وما يحفّز على مقاربة المقبرة وأي عبثية كامنة في شهادتها، حيث إنها تخرج عن صمتها، وتذكّر بما هو عمودي، جهة الحقيقة التي تعلِم بمن يسمسرون الجاري .
لا يدخر السارد المفجوع بحياته وما هو داخل في تركيبها: آتيلا، جهداً في التذكير بتلك الوقائع الحية التي تنمّ عن ذائقة ساخنة، تمثّل نوعاً من التتويج للحقيقة المضحَّى بها: ما لا يمكن تحقيقه في الواقع المأمول، لحظة العودة إلى الوراء، وما يكونه الوراء هذا إضاءة للأمام: التالي، جهة تثمين الثورة. الثورة وليست سواها، وما يترتب على هذه المركزة الذاكرية من إشهار قويم للمأخوذ به ومآله الكارثي:
( كنا نمتلىء شوقاً لحفظ أشعار الثورة وأناشيدها الحماسية، ونتبارى في حفظها وإلقائها. كنا نحتقر الألعاب الشعبية المعروفة التي كان يلعبها أو يحكي عنها الأكبر منا سناً. في المقابل، كانت لعبتنا المفضَّلة هي لعبة " البيشمركة والجحوش " ، وهي لعبة قريبة إلى لعبة " عسكر وحرامية " ولكنها بالتأكيد أهم وأشد رمزية منها بكثير..ص45 ) .
ما الدافع إلى التذكير بواقعة كهذه؟ أم تراها لا تزال تمارس فعلها الإيلامي والنافذ في قلب الواقع اليومي جهة الخلل الذي لا يقاوَم، وهو الذي يعبّر عن تبلبل المجتمع والمضغوط بماضيه؟
إزاء ذلك، ربما أمكن القول أنه ينبغي على قارىء الرواية أن يكون شديد الحذر، بالغ الفطنة، يقظاً ، لا بل في أعلى درجات اليقظة، وهو ينتقل من فقرة إلى أخرى، من قسم إلى آخر، وهو يتناوب في خياراته، ولا أراها قهرية معبّرة عن سلب جانبي، اعتباطاً، وإنما عن تنوير للمعيش اليومي، وتسليط الضوء هنا على أن الذي ينتقل به من حالة إلى نقيضها، ليس ما يخص التكوين الشخصي: النفسي لآتيلا، إنما جماع واقع يستحيل غض النظر عن تمزقاتها، أي ثمة مجتمع محمول في الداخل، وهذه العودة المستمرة إلى الكأس والإطناب في وصفها، هذا الإكثار من التعبد الكلامي في نشدان الإله، والتعبير بلغة المتصوفة عن المكابدة القائمة،يتطلب كل ذلك ترجمة مباشرة للمفردات التي تتخللها أقوالها. التكرار القائم إشهار بالفجيعة التي تستوقف المجتمع وما يكون عليه، كما لو أن الزمن قد استنقع، وليس من مخرج من ذلك. الساعة واقفة وهي ليست بواقفة بمفهومها الرمزي، إنما هو الزمن الذي يشهد بالبقاء عصياً على التغيير:
( يا إلهي!ماذا يعني ارتباط حياتي كلها بالخمر، سواء أدمنتها أو تبت عنها أو امتنعت عن معاقرتها مؤمناً، أو حتى في حالة الارتداد عن قبلتك والتوجه صوبها في النهاية؟..ص76 ).
كل شخوص الرواية، يسهمون في تعقيد الرواية، وفي توتير قارئها، ليس لأن الروائي لديه رغبة فارضة سلطانها عليه، لأن يمارس المزيد من التعقيد لإرباك قارئه هذا، إنما، هو المشهد العميق الذي ينبري فيه الواقع المرصود، هو تلك السلسلة من الوقائع التي تمثّل جوانب مختلفة من المجتمع ريفاً ومدينة، أهل ديانة وأهل دنيا، وفي مواقع شتى، من أبي سعيد اللذي يتناول الوقائع في حسيتها الكبرى ويزن الأمور بعيداً عما هو زخرفي أو خطابي منمق، وهو دنيوي، والشيخ عثمان وموقعه في المجتمع وشاسوار، وكل من له اسم أو دونه، وفاطمة التي تكون حاضرة وإن كانت في حالة غياب، تجسيداً للصدع القيمي المجتمعي. لنكون في مواجهة لعبة شطرنج اجتماعية على أشد ما تكون توتراً وسخونة مناخ وعداوات، وليس مجرد لعبة عادية.
لنقرأ ما هو متضمن في سرد يخص آتيلا، وقبله الشيخ المعمم، وبعد التذكير بآية تخص التلقين عن وجوب اطمئنان النفس:
( وهكذا! يريد هذا الرجل المعمم الذي يتلفظ الآيات بلغة عربية، بالكاد تكون مفهومة، أن يسدل الستار على حياة آتيلا البائسة الفارغة من الاطمئنان. وها هو يغادرها ، لا راضياً ولا مرضيا. فما كل هذا العبث المتكرر عند دفن كل واحد منا؟ ..ص 83 ).
أن يكون آتيلا حاضراً وموصوفاً بالطريقة هذه، إنما إبقاء المجتمع في الواجهة، حيث إن آتيلا هذا في انشطاره بين إقبال على الكأس وابتعاد عنها، ومعاناة في الوسط، انسداد أفق المجتمع.
لعل الحديث عن العبث وعما يكونه عبثاً، يفيد في إمكان قلب المفردة: العبث، وهل هي عبث كما هي في دلالتها الأولى، إنما شهادة حية ناطقة بما يعيش مجتمع كامل من أوجه خلل، وحيث الموت يكون حاضراً باسترار، وهو إشهار آخر ويظلل عالم الرواية تجسيداً لواقع انحداري، وما يسهم في تعزيز الموقف الرؤيوي من المجتمع هذا وهو يتشرذم باضطراد:
( يا لهذا العبث! لم يكن يهم أبا سعد بأي أرض سيموت. لكنه بالتأكيد كان يهمه كيف سيموت. والمؤكد أنه كان يتمنى الموت مرفوع الرأس في معركة بطولية غير متكافئة ضد الجيش. لكنه اُستشهِد في معركة شرسة متكافئة تماماً، دارت رحاها بين الفصيلين اللذين ينتمي إلى كل منهما أبو سعد وشاسوار..ص 102) .
إنه إعلام، أو جانب إعلامي مدمج بالمشهد الروائي الفاعل في نسج المتن بالذات، وتبقيعه بما هو مستجد وما هو مستمر في المزيد من حلول الكارثي وإعداد المجتمع لما ينذره للخراب.
في الثنائية القيمية والصراعية، ناحية الفصيلين، لا يحتاج، وكما أرى، أي قارىء يمتلك الحد الأدنى من الوعي اليومي، وجدلية العلاقات القائمة بين المنتمين إلى المجتمع الذي كانت رواية " آتيلا آخر العشاق " نبتاً له، إلى تلك الفطنة المطلوبة ليتعرف على الحقيقة المرة الواصفة للمجتمع أو الشاخصة لهوية المجتمع وما أبعدها عن التوحد أو السوية في بنيتها الاجتماعية، وإلى الآن تكون هذه الهوية " القاتلة " منمذجة، معاد إنتاجها، ومعاد النظر فيها، بفعل التكيف معها، وتبعاً لسيرورة الواقع ونسخية وجوهه، بأكثر من معنى، واستساغة المتداول والحرص على بقائه.
نعم، لا شيء يتكرر، وهو نفسه، في الحديث عن النسخية أو المستنسخ، وهو جار على قدم وساق، إنما هو تقريب لمفهوم المجتمع التقليدي الذي اعتاد العيش بالثوابت الطاغية والحائلة دون تجاوزها، كما لو أن المنتمين إليه ارتضوا حياة بائسة، واستجابوا لها، وهم في وضعية استسلام لما يترتب عليها من تضعضع وموت يبعث على الدهشة:
( يا لحديث الموت وحرقته..
يا لحديث الموت وشماتته وعبثيته!..
حقاً لا تدري نفس بأي أرض تموت.. وماذا تخلف وراءها.. حرقة أم شماتة ...ص 111)
لسنا إزاء سؤال وجودي فلسفي، إنما سؤال يستبطن الواقع، ويستفرغه بالمقابل. سؤال الموت الذي لا يكف عن الحضور، كما لو أن الناس منذورون له وفي أكثر الوضعيات استهجاناً، حيث تكون الأرواح في حالة موات أساساً، وليس من إرادة حياة تحفز على مقاومة سلبيات المجتمع. هوذا سؤال الصاعد بمأساة واقع، والداعي إلى تعرية حقيقتها وأي نظام قيمي يبقيها هكذا، ليكون الموت الموسوم إماطة اللثام المستمرة عن الوجه المخطوف بملامح وعلامة الحياة الفعلية فيه.
وبغية تفهّم واقع السرد الساخن والمتقطع والمتناوب عليه، ثمة ضرورة لمعاينة هذا الموت الذي يتلبس الناس أنّى كانوا. حيث يمكن النظر بعمق في حقيقة أمره، وكيف يأتي مصطنعاً وحصيلة سريان فعل النخر الاجتماعي وهو يحوّل أفراد المجتمع بكاملهم إلى ضحايا لفعله الحادث والذي لم يكن له من وجود، وما كان له أن يتم دون وجود مؤثرات قاعدية أوجدته وجعلته تدميرياً.
الحرب وفنونها في جنونها
الحديث عن الحروب وليس الحرب الواحدة في العراق يستغرق تاريخه القديم والحديث والمعاصر. حروب متنوعة، فولكلورية. إلى درجة إمكان التأكيد على أن الحرب هي القاعدة، والسلم هو الاستثناء، إذا راعينا مفهوم الحرب من خلال طبيعة النزاعات القائمة هنا وهناك، وما يجعل المجتمع في وضعية توتر، ويكون كل ذلك سبباً في التعبئة النفسية لأفراده ليكونوا وقود الموت وليس قوى البناء والعمران في الحياة .
في الرواية تكون الحروب بأنواعها حاضرة، أكثر من حروب الحكومات المتوالية بأنظمتها مع الخارج، حيث الحروب الداخلية بين النظام والمعارضية له، وهي تفصح عن أن قاعدة العلاقات الاجتماعية أبعد من أن تكون مؤسساتية، مدنية، وفي ضوء القوانين المعنية بذلك.
ولعبة المكونات الاجتماعية وهي في طابعها العشائرية والمذهبي فعالة هنا بشكل سافر، وبالتالي، فإن قراءة تاريخ العراق في ضوء هذه الحروب وهي مؤرشفة ترينا نوعية الكوارثة فيه.
الحرب فجور La guerre est débauche، كما قالها أحدهم، وهي كذلك لأنها مبداً تعمل على الضد من أي إسهام إخلاقي يحفّز على التفاعل الإيجابي بين قوى النفس، وبين الأفراد، إنها في بنيتها وجِدت أو أوجِدت لتؤهل النفوس لتلك الطرق والوسائل التي تبقيهم في وضعية استعداد لأي واقعة بغيضة تفجّر نزاعاً، أو دخولاً في صراع جانبي، أو حرب تهدد مبدأ الإقامة في الحياة .
الروائي في روايته، لا يجاري الواقع، إنما يحاول استقرء الجاري فيه، وكيف تمارس الحروب المختلفة مهامها التدميرية والاستئصالية لما يجعل أفراد المجتمع سلبيين تجاه بعضهم بعضاً، وحيث إن المجتمع بعيد عن كونه مجتمعاً يقوم على أسس متينة أخلاقاً بطابعها العرفي والقانوني.
وما هذا الحديث المتكرر عن الموت، والعبثية المتدالة إلا شهادة حية على هذه الاستدامة في التوتر وتعبيره اللافت عن الحرب أو ما يمهد لها هنا وهناك، وهي في تنوع مقاماتها .
في حديث للسارد آتيلا عما يكون في مجتمع مأخوذ بهذه العناصر، يشير إلى نسبه في مدينته حيث يشير إلى مطلب له( أطلب وثيقة رسمية يؤكدون فيها أنني كردي، ويطلبون من خلالها إعفائي من العودة إلى لجبهة، لكنهم أصرروا على أنني لست كردياً، بل تركماني، أنتمي إلى عشيرة الهنداوية. للوهلة الأولى، أحسست بأني فقدت الأمل في الخلاص من الجبهة وجحيم الحرب وكوارثها، وأن الموت المحقق في الجبهة، بعيداً عن كأسي وخمري ، بات هو مصيري المحتوم. لكن مع عودتي إلى البيت استشاطت أمي غضباً. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أراها على تلك الدرجة من الغضب... لقد كانت مصرة على أننا كرد ولسنا تركماناً.ص144).
في الحديث عن واقعة كهذه، ثمة ضرورة تاريخية لتعزيز بنية العلاقة هذه، مغزاها أو فحواها في مجتمع عرِف بما هو طائفي، ومذهبي، وعشائري أكثر مما هو مجتمعي مسنود بحس المواطنة.
لا شيء يخفى عن النظر في مجتمع الكاتب حيث تأتي روايته ليست في مقام كاسحة ألغام لمجتمعه الذي يقوم عليها، وهي في تنوعها، وتنفجر هنا هناك، كما يتجدد وضعها بصيغ شتى، وإنما في مقام المؤشر إلى هذه الألغام المموهة، والذي تستأثر باهتمام الناس، بمقدار ما تجد من هم ساعون وفاعلون في تأكيد مشروعيتها، جرّاء التعامل بها واعتبارها خنادق دفاعية داخلية ، حيث يواجه الناس بعضهم بعضاً، طالما أن المجتمع بعيد عن أن يكون مؤسساتياً، مدنياً.
الاسترسال في لعبة السرد، حول هذه الواقعة، يفضي بنا إلى معايشة الوباء المجتمعي، والذي كان بناء الرواية حصيلة هذه المكابدة الاجتماعية، ورد فعل من نوع أدبي عليها.
إن الحديث عن الموت مألوف، ولا بد أن يكون كذلك في مجتمع يسهل الموت كثيراً لأن ذلك يقابل ما تكون عليه الحياة كقيمة، لنكون إزاء علاقة طردية تتمثل في ما يشبه القانون المنفذ ضمنا: بمقدار ما يحضر الموت في أهواله الاجتماعية، تكون الحياة منكفئة على نفسها .
في حديث السارد عما يكون عليه نفسياً وهو يواجه المقبرة تعزيز لما سبق قوله( دهمتني موجة ذعر غريبة. وأنا أتخيل نفسي سأدفن يوماً ما في هذه المقبرة وعلى مقربة من آتيلا وعظماء الرجال الذين استرخصوا أرواحهم وحضنوا الموت كعاشق مجنون..ص 151) .
هذا الشعور الكارثي بالموت، باعتباره نفياً للحياة المطلوبة، وصرخة احتجاج على الجاري، وفي الجانب الآخر تذكير بما يتهدد المجتمع، وليس من حيلة لوقف سريان فعل هذا النخر في مجتمعه.
فوبيا الحرب ليست كابوساً، إنما حقيقة مرة وصادمة ومميتة كذلك، لحظة الحديث عن لعبة كانت تتم ذات يوم تمثيلاً لما كان عليع الواقع" لعبة البيشمركة والجحوش "، يكون الجاري حقيقة( ها نحن من جديد نقف وجهاً لوجه.. أنا وسعيد الحاج علي، وكأن القدر رسم الأدوار في البداية، في لعبة تحاكي الواقع في كل شيء، إلا الدم، ليثبتها في ما بعد كأدواؤ حقيقية نكون محكومين بممارستها حتى النهاية، وعلى أكمل وجه.ص 152) .
ليس من عبث في كل حديث من هذا النوع، إنما هو تنبيه مركز إلى الجاري وما ينبغي عمله لجعله خلاف ما هو عليه، عبر التأثير في بنيانه الذي لا يخدم أياً كان في واقع الأمر.
وفي آتيلا يكون الشاهد الجمعي، أو من نوعه عما يعتمل في الجسد المجتمعي من مشاعر ملتهبة، حيث نشدان الإلهي تثبيت لعجز أو شلل في المجتمع:
( يا إلهي! ما كل هذه القسوة؟ها هو آتيلا يغيب. ها هو يرقد تحت كومة من التراب، وقد أنهى هذا الرجل المعمَّم عمله المعتاد بعباراته وكلماته المتكررة أبداً.ص 167).
التقسيمات الاجتماعية لها قوانينها النافذة أكثر من القوانين الوضعية، وهذا عامل غالب في المكون المجتمعي، وهو ما يمكن تبينه في طلب آتيلا يد فاطمة من أبيها وهو شيخ، واستنكار ذلك من الوسط الاجتماعي، لعدم التكافؤ الاجتماعي، إلى درجة أن طلبه هذا تجاوز نطاق القرية وأبعد تعبيراً عن تلك المحكومية في العلاقات والخنادق المحفورة حولها ( انتشر خبر طلبي الزواج من فاطمة من إذاعة مونت كارلو، كما كان الأهالي يسمّونة..ص214).
إنها حرب أخرى، وهي لحظة تصويرها تؤكد سلطتها الفاعلة في النفوس والرؤوس من خلال المؤثرات الاجتماعية وتلك المحفزات التي تبقي الناس في وضعية اليقظة الدائمة، متنبهين إلى كل ما يمكن أن يقول خارج سياق المؤطر اجتماعياً، فلا عجب أن يلجأ الروائي إلى جعل هذا الجانب ذا اعتبار في أصل من أصول الرواية، وما في ذلك من تكملة لعناصرها الأخرى.
ولعل ذروة هذه الحروب وأكثرها فظاعة، هي تلك التي تخص مأساة الكرد، وكيف تعرضوا لسلسلة من الكوارث مصدرها النظام الطاغية في بغداد، وهي كوارث لا تنفصل عن الذهنية التي تفعلتْ واقعاً وما زال سريان فعلها قائماً في البنية الهشة للمجتمع وتقاليد العنف فيه.
لا غرابة أن يؤخَذ جانب من السرد الذي يصف فيه ما نوّه إليه، من خلل بنيوي أدى إلى ذلك:
( وأخيراً.. هاهو يتجرعها.
ويُعلن ذلك على الملأ ليصبح حديث لعالم كله..
وها هم الناس ينزلون إلى الشوارع وهم يحملون صور الشيطان، الذي كان يحلو لأبي تسميته هكذا، كانت جلها صوره هو، في هيئات وأوضاع مختلفة.
وأخيراً... وبعد ثماني سنوات من الحرب، أعلن الإمام أنه يتجرع كأس السم ويقبل. بوقف الحرب. رافقت صدمة قبول الإمام تجرّع كأس السم الشهيرة تلك، تجمعات ومسيرات حاشدة ملأت الساحات والميادين والشوارع، احتفالاً بما سمّي وقتها يوم النصر العظيم..ص222).
هذا السرد في جانب منه، لا يتأكد بعده الدعائي والتعبوي والمدمر في محتواه، دون الذي يأتي السارد على ذكره، ولآتيلا ذاكرة قوية في التذكير بما هو مؤثر، أي ما يخص الأنفال:
( كانت الجولة الأخيرة من المعارك هي الأشد والأقسى على مر تاريخ ثوراتنا، لا بل وحتى ما شهدته المنطقة، بدأت في أواسط ذلك الشتاء الذي تلى الربيع الساخن الذي كنا فيه على أعتاب النصر النهائي واستمرت لعدة أشهر... وعلى مراحل عدة، كانت كل مرحلة منها تتخذ نفس الاسم" الأنفال "، مضافاً إليها العدد بالتتابع. وتبدأ بنص الآية ذاتها " ويسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول ". وتبدأ بنص الآية ذاتها " ويسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول ". عندما أ‘لن الإمام تجرّعه كأس السم ، كانت أغلب مراحل الحرب الشاملة التي أعلنها الرئيس علينا بغرض الإبادة الكاملة، ليس فقط لقوات الثورة فحسب بل بغرض إبادة الكرد نهائياً، قد انتهت، وكان قد سوّى جميع القرى في تلك المناطق الشاسعة بالأرض.. وأخذ جميع سكانها عنوة في سيارات كبيرة، بعد فصل الرجال عن النساء، إلى المجهول الذي كانت ولا تزال تلفه عشرات الحكايات المرعبة..ص 222) .
ثمة لجوء إلى الأرشيف، إلى واقعة تاريخية موثقة وليس مجرد احتماء بخيال ما، لحظة التذكير بعمليات " الأنفال المتتالية سنة 1988، ومذبحة حلبجة " 16 آذار 1988 أفظعها في ضحاياها كما هو معلوم، وهذا يشير إلى أن الكاتب لم يغادر الواقع، وأن الإشارة إلى حرب الثماني السنوات للعراق مع إيران، ومن ثم الخذلان والهزيمة، رغم أن الدكتاتور الطاغية أعلنها انتصاراً كما هو مذكور في النص، لا تخلو من مرارة ومن تعبير مكثف عن رعب الحاصل في المجتمع.
وإذا كان الروائي يلجأ إلى وصف العملية، مركزاً على السلاح الكيماوي وماذا فعل بالناس " ص 224-226"، فإن ذلك محاولة لتعميق الأثر، رغم أن الحديث عن عمليات الأنفال كاف، لأن الذي يتعلق بالسلاح الكيماوي أوصافاً ونتائج يمكن متابعته في العشرات من المصادر، وإن كان في الذي تطرق إليه السارد محاولة لتعميق الواقعة وترسيخها في ذاكرة القارىء أكثر، إنما إلى أي مدى يمكن للرواية أن تهضم إجراء كهذا، وهي تعتمد على لقطات مكثفة، ولها دلالتها؟
وفي الوقت الذي نتابع ما يجري مما هو خبري وإعلامي في آن:
( قصف حلبجة بالقنابل الكيماوية، عن طريق الطائرات المقاتلة، كان جريمة الخنق الكبير، وكانت حقً سابقة، أصابتنا بالصدمة التي اعتقدت بأننا لن نخرج منها أبداً. لكن الغريب أن تأثيرها العسكري علينا كأفراد، كان على العكس تماماً. فبدلاً من أن تصيبنا بالانهيار، ملأتنا بكمّ كبير من الحقد والشعور بالتحرق إلى الثأر..ص 254).
تأخذ الأمور بالصيغة هذه مجرى آخر، جهة تلقي المؤثر الجمالي للسرد، وقد أصبح أكثر قابلية للنظر فيه دون جهد يُذكر، لأن الذاكرة الجماعية تكون قد أخذت الكثير مما تقدم، جراء التكرار ومن ثم سهولة الوصول إلى مشهد السلاح الكيماوي وتبعاته بالمقابل،وفي وضع كهذا، يمكن للقارىء أن يتساءل عن الطبيعة النفسية لسارده هذا وكيف يصعد بعالمه الداخلي إلى السطح.
وما يهم تالياً، هو أن الكارثة هذه وهي تتقدم سلسلة الكوارث التاريخية التي شهدها تاريخ العراق الحديث، وكان الكرد ضحايا أوَل لها، لا تنفصل عن جملة السياسات التصفية، وهي بعلامتها الفارقة عنصرياً ودكتاتورياً، لا تنفصل عن علاقة آتيلا بفاطمة وكيف جرى حبسها " ص274"، والأزمة تبقى رغم وجود انفراجات ولكنها لا تصل إلى درجة وجود قبس من ضوء في نهاية النفق المجتمعي يسمح بالتحرك صوبه والتحرك من عتمة النفق بتاريخه الثقيل وطأةً.
وما يستحق الذكر بالمقابل، هو وجود تاريخ آخر، يحيل الكرد في مجموعهم إلى ضحايا تلك السياسة التصفوية للنظام العراقي، وتحديداً ما يخص اتفاقية الجزائر المشئومة سنة 1975، ومثلت في بنيتها مقبرة الحلم الكردي المشروع، وما فيها من تآمر إقليمي ودولي كذلك. وما في التاريخ من مفارقات، لحظة التشديد على مشروعية الثورة الفلسطينية وإدانة نظيرتها الكردية:
( في ذات الوقت، كنا نحن لا نطلب سوى الإقرار بجريمة إبادتا بالكامل، لا حقوقنا الأساسية، بينما العالم نفسه يرفض حتى الإقرار بموتنا الجماعي القاسي. ص 323 ).
ليس للكردي من نصير، بالطريقة هذه، ليس للكردي من سند قانوني يسمح له في أن يرفع صوته هنا، في أن يُسمّي نفسه كردياً، وعلى أرض تسمّيه في تاريخ يعنيه وقد تجزأ فيه هنا وهناك.
مشاهد التهجير والترحيل والمقابر الجماعية والنفي إلى المجهول نقاط علام على خريطة الرواية عينها، والتي ، كما يظهر، مارست ضغطها على الروائي، ليكون لسارد أكثر من لقاء مفوح مع تاريخ موثق وهو يمضي في مكاشفة ما كان جهة تعرض الكرد لمآسي سببها النظام، لنكون إزاء سلسلة الكوارث يحفظها التاريخ عن ظهر قلب:
( لم تتوقف الكوارث، كما لم يتوقف حصار الأسئلة وشياطين الجنون. وكلما كنتُ أقترب من إيجاد الأجوبة لبعض أسئلتي، كانت تحل كوارث أخرى لتحكم طوق الحصار وتتركني في عزلة مع شياطيني ولعناتهم. ص 340).
كل حرب مندلعة تمهيد لكارثة أو أكثر، واستعداد لسواها، وانفجار ذاكرة اجتماعية، ولا أكثر من هذه الانفجارات التي شهدها تاريخ العراق، كما لو أن هناك لوثة متجذرة في بنية مجتمعه، لوثة يتبناها سدنة العراق، وفي الواجهة الطغاة التي يتحكمون بمصيره، ولهذا لا يكون هناك تاريخ فاعل بمستجداته، وإنما ما كان معطوفاً على اللحظة المشهود لها بالخراب الكلي: بغداد واجتياح هولاكو والمغول لها، وهو ما أفصح عنه آتيلا لسارده:
( لا تستغرب كثيراً مما سمعت، فحتى أنا سأقضي على أيدي المغول الذين دمروا بلدنا... هل نسيت أن المغول هم الذين قتلوا العطار قبل مئات السين؟ إن التاريخ يعيد نفسه بعبث مريب. ص 370).
في الذاكرة المجتمعية هناك دائماً ما يهددها، لأنها غير متناغمة، إنما منقسمة على نفسها، وهو ما يرتد إلى مقاومات حياتية. نعم، الحياة بنسبها الطبيعي تدافع عن نفسها، عن وجودها بقانونها الخاص، والذي يرينا إياه مسار الرواية هنا وهناك، لكن صدمة المأساة في المجموع طاغية.
مثل ذلك ما يخص الموقف من آوات الشاب العربي البغدادي الذي عيّن من قبل النظام ( في ثكنة تقبع فوق رأس قرية، لكي يقمع سكانها، فتحول في لحظة نادرة إلى ابنهم الذي يحميهم، ومن خلالهم التحق بالثورة حاملاً السلاح ضد النظام..ص 409 ).
الحديث عن الندرة يعني من ضمن ما يعني صعوبة الرهان على المستقبل وتوقع ظهوره الإيجابي، لأن ليس من مؤشرات دالة على ذلك.
ويبقى علينا أن نتابع حيثيات الموضوع من خلال آتيلا واستحالة تحقيق المأمول، وهو مشدود إلى فاطمة ( بحثه المجنون عن فاطمة..ص 455)، وهي تأشيرة دخول إلى العالم المحكوم بانعدام الأمل أو الدال على أن توقع الكوارث هو المرسوم والموسوم في أفق الآتي .
وينتهي آتيلا، ويترك أثره، كما تنتهي فاطمة، ويمضي سارده المأهول بالأحداث، مذكّراً بآتيلا وكتابه الذي تركه أثراً دالاً عليه، وطنبورته المعبّرة عن خلجاته النفسية، والسارد في ذهول وتوتر ملحوظين:
( فأعود لأتمتم وسط ارتفاع صوت الأناشيد التي اختلط بعضها ببعض، بينما الدم ينزل من أصابعي وأنا أعزف بعنف، على أوتار طنبورة آتيلا آتيلا: نم يا صديقي، فما كان لك أن تنام إلا حيث أنت الآن. وكما قال العطار، " فإذا نام العاشق ففي الكفن ".
ولكن.. تُرى.. أين كفني أنا ؟ . ص 486 ).
ما يبقى أثراً دالاً عليه هو الذي يفصح عن أن مأساة الواقع مستمرة تتجاوز إطار الرواية بالذات، وأن الذي يعبّر عنه السارد في العبارة الأخيرة هو ما يُتخوَّف منه، وهو الذي يهدد بقية الحياة. فنغدو محكومين بالإحباط أو بخيبات الأمل !
فيما يجب التنويه
من المؤكد كما هو مخزون الرواية ورصيدها الكلامي، ومرجعياته المختلفة، أن الرواية تنفتح على أكثر من تأويل أكثر من التفسير، وهي لا تخفي جماليات المتخيل وتلك القدرة الملحوظة في السرد والتنقل بين الأمكنة وبألسنة أشخاص مختلفين، والربط فيما بينها بالمقابل.
وفي المتن، ما ينعطف على العطار في أقواله وتلك العبارات والحكايات المقتبسة من منطق طير:ه، وصهْرها في جسم الرواية، وإبرازها لتكون صنيعة الروائي عبر شخصياته، حيث يتم قطع الاتصال بالمصدر لحظة القراءة الكلية للرواية، وهي بالطريقة هذه تسجل فضيلتين للروائي طبعاً: أولاهما، تفهمه التاريخي والدلالي لكتاب متصوفه المنمذج العطار، وقد حاول أن يصيره في شخص آتيلا، وثانيتهما، اقتباس ما يسهم في بناء عمارته الروائية، كما لو أن الوارد بلسان خياله وليس من لدن العطار. وما أكثرها من حكايات تضيء خلفيات الأحداث والوقائع.
جانب مهم في الموضوع كذلك، هو وعي الروائي التاريخي والثقافي لكتاب العطار، ووجود سهم ثقافي وتاريخي كردي نشأة في بنية كتابه، كما هو الدائر في نقاش آتيلا مع " أبو سعد "، حول الشيخ صنعان:
( قصة الشيخ صنعان هي واحدة من الحكايات التي يزخر بها كتاب " منطق الطير " الذي يتحدث عن رحلة الطيور للوصول إلى الإله،أو حضرة العنقاء، أو السيمرغ بالفارسية...ص70)، يضاف إلى ذلك أن ( قصة الشيخ صنعان،..هي أطول القصص التي يتضمنها كتاب " منطق الطير" وأكثرها أهمية..ص 71).
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن الذي اعتمده الروائي في تعامله مع " منطق الطير " ليس تطفلاً، وإنما هو حق من حقوقه التاريخية والرمزية، وهو إذ يصله بالعطار، فإنما بحضور الشيخ صنعان الكردي أصالة، وبذلك نكون إزاء وضع تكافؤي على الأقل.
ذلك يذكّرني في الوضعية هذه، بما لجأ إليه الفردوسي في بناء " الشهنامة " بخاصيتها الفارسية وفيها من المؤثرات الكردية اقتباساً ودون التذكير بها، الكثير الكثير، كما تعرض إلى ذلك الباحث شهاب والي في مقاله العميق الأثر، وبالكردية" نظرة عامة إلى شهنامة الفردوسي والشهنامة الكردية "، ضمن كتاب بالكردية أشرف عليه رمضان بيرتَف، وبعنوان" الأدبيات الكردية الشعبية، ج1، آفستا، ستانبول، ط1، 2015، صص275-296 " .
وفي هذه الإشارة ثمة ما يوسّع دائرة المأساة الكردية تاريخاً واجتماعاً وثقافة وكينونة كذلك.
وبعيداً عن القول القطعي والنهائي، ترتقي رواية سردار عبدالله بالمجمل إلى الرواية ذات الطابع الملحمي، وهي تقرأ من أي نقطة فيها كما هو تقديري لها ونظرتي الفنية إليها، تجسيداً لجمالية التركيب، وقابليتها لأن تتجاوب مع قارئها الفعلي، وتنفتح على عمق يتناسب والمأمول منها، فتكون قد اكتسبت صفة الرواية بامتياز.
0 تعليقات