پـيتر ڤايل/ ترجمة هَـڤال يوسف

حين أُعلن عنه بوصفه "هوميروس روسيا" وجد غوغول نفسه أمام حتمية أن يصبح هوميروس. وكما يحدث غالبًا، أشار النقّاد والرأي العام للفنان إلى الموقع الذي عليه التماهي معه.

أثارت رواية "النفوس الميتة"، الصادرة عام 1842، الهرج والمرج في أوساط القرّاء الروس. فمن جهة لم يكن هناك شك في جودة النصّ وأهمية موضوع الرواية، ومن جهة أخرى أثارت بشاعة بنيان الرواية المسطّح والمثقوب الاهتياج. النخبة الأدبية، العارفة جيدًا بكتاب غوغول قبل أمدٍ طويل من صدوره من خلال قراءته مسبقًا، كانت تعدّ نفسها لخروج العمل الرئيس لأفضل كتّاب روسيا إلى النور، وخطرت لقسطنطين أكساكوف الفكرة السعيدة التالية: غوغول هو هوميروس.

لقد بُدِّدت التناقضات كلها بضربة واحدة: كان كمال الشخصيات من الناحية الفنّية من العلوّ بحيث أنّ سماتها الأخلاقية لم تكن ذات أهمية تُذكر، تمامًا كما أنّ الجانب الأخلاقي لأفعال هيكتور وأخيل ليس محلّ نقاش. بدا التصوّر الهوميرسي لُقية موفّقة، وانحصر النقاش، بصورة رئيسة، بين "الجيد" و"الأفضل": هل غوغول هو هوميروس بشكل مطلق أم أنه مجرّد هوميروس في نطاق روسيا فقط، كما عَدَّه بيلينسكي. كان تنوّع وجهات النظر هذه من الشيوع إلى درجة أنّ كاتكوف كتب في مطلع الأربعينيات: "لا يسمع المرء سوى أنّ غوغول هو هيغل، أو أنه هوميروس..." وكان غوغول موافقًا كليًّا على هذه التشبيهات، بل لم يكن يخفي أنّه قد باشر بكتابة "الأوديسّة" الروسية، وأنّ المجلد الأول للرواية ليس سوى محاولة متواضعة للوصول إلى الملحمة الأصل. هو نفسه أزعجه مدى شناعة شخصيات "النفوس الميتة"، فهي لم تكن تبدو أبطالًا ملحميين ينبغي لروسيا الاقتداء بهم. لذا تدوّي في نصّ المجلد وعود "العملاق الروسي" و"الفتاة الحسناء"، وقبل اختتام المجلّد الأول أقسم غوغول أنّ القارئ سوف يرى "كيف ستظهر شخصيات جبّارة، وكيف ستتحرّك العتلات الخفيّة للمسرحية المترامية الأطراف، ويدوّي صداها أبعد من الأفق، وتكتسي كلها بالنزعة الملحمية العظيمة". بقول آخر، لا ينبغي الاعتقاد بأنّ المستكلبين وحدهم سيدوسون الأرض الروسية بأقدامهم الغليظة.

إلّا أنّ غوغول المحترف والمحنّك كان يدرك أنّ أحلامه عن الإنسان الروسي الراقي ما زالت بعيدة المنال. بالفعل، بالكاد يُلاحَظ إنسان كهذا (شخصية الأمير) في المجلد الثاني، في حين لم يواتِ غوغول الإلهام لكتابة مجلّد ثالث. غير أنّ غوغول كان قد سبق وسُمّي هوميروس، وكان لا بدّ من تعزيز هذا المنحى بالوسائل المتوافرة. وقد تضمّنت رسالته إلى "يَزيكوف" ملاحظات متعددة المعاني: "الأوديسة" هي العمل الأكمل على الإطلاق عبر العصور كلها. إنها هائلة الحجم، و"الألياذة"، مقارنةً بها، ليست سوى مشهد روائي.

وقد كتب غوغول "أوديسته" الروسية الأكمل الهائلة الحجم: "النفوس الميتة". كتبها وكان في وسعه أن يطرح على نفسه السؤال المعقول التالي: وأين "الألياذة"؟ هناك مشهد ناقص، ملحمة صغيرة.

لهذا السبب أعاد غوغول كتابة "تاراس بولبا".

إنّ رواية "تاراس بولبا" تلك، التي لم يقرأها عمليًا سوى أهل الاختصاص، كانت قد صدرت قبل سبع سنوات (عام 1835)، حيث نُشرت ضمن أنطولوجيا "ميرغورَد". وحتى يومنا هذا لا تزال رواية "تاراس بولبا" الجديدة تُنشر ضمن هذه الأنطولوجيا. لكن هذا غير معقول، إذ لا شيء يجمع بين الرواية المنسوخة وبين أعماله الأخرى المنشورة في "ميرغورَد"، مثل "المُلّاك النبلاء القدامى" و"ڤي" و"قصة الخصومة بين إيفان إيفانوفيتش وإيفان نيكيفيروفيتش".

لم تكن الحال هكذا دائمًا. لقد أبرزت النسخة الأولى من "تاراس بولبا"، بحذقها الفضفاض، رخاء حياة "الملّاكين" الرغيدة، ومشاجرات "الرواية" المضحكة، وهلع "ڤي" غير المفهوم. من الواضح أنّ العامل الهزلي في روايات "ميرغورَد" الأخرى، نظرًا إلى تجاورها مع "بولبا"، مقصود، ولنأخذ، على سبيل المثال، هذا الحوار العجيب:

  • أنا نفسي أفكّر في الذهاب إلى الحرب؛ فلِمَ لا يمكنني الذهاب إلى الحرب؟
  • أنّى لهذا العجوز أن يذهب إلى الحرب! سيطلق عليه النار أول جندي يواجهه! والله سيطلق عليه النار! سوف يسدّد عليه ويطلق النار.

فقال أفاناسي إيفانوفيتش:

  • وماذا في ذلك؟ أنا أيضًا سأطلق عليه النار.

إلى جانب الحرب الحقيقية في "تاراس بولبا"، كانت لقتال القوى الشريرة في "ڤي" أهمية خاصة، وكذلك الجدال في "الرواية" حول الأسلحة الصدئة التي يمكن إطلاق النار منها "في يوم القيامة يا تُرى!".

لقد فكّر غوغول في مجموعة "ميرغورَد" كعمل متكامل وكتبها على هذا الأساس، وظهرت إلى العلن على هذا النحو، فقصصها الأربع تمثّل الجوانب الكونية الأربعة للوجود البشري: السّلم، الحرب، الحياة، الموت. لكنّ شعوره بالمسؤولية تجاه القارئ الذي سمّاه "هوميروس" حرّضه على إعادة كتابة "تاراس بولبا"، كما أجبرت المسؤولية تجاه الحزب فادييف لاحقًا على إعادة كتابة "الحرس الأبيض". وعلى الرغم من مجمل الاختلافات بين هذين الكتابين، إلّا أنّهما يتمتعان بالجدارة نفسها: هنا وهناك حصلت البطولة على أساس إيديولوجي.

ينبغي التذكير بأنّ حضور الإيديولوجيا (الأرثوذكسية والوطنية) بالنسبة إلى غوغول لم يكن غاية في حدّ ذاتها، بل وسيلة. أما الغاية فكانت: الملحمة. كان على "الألياذة" أنّ تمهّد "للأوديسّة" التي لم يكتبها غوغول مع ذلك، لكنه، في المقابل، حلّ مشكلة "الألياذة" بصورة رائعة. والحقيقة أنه، لتحقيق ذلك، توجّب عليه هدم بنيان "ميرغورَد" القديم. لكنّ القارئ الروسي، في المقابل، تلقّى قصيدة "تاراس بولبا" الملحمية، وهي القصيدة الوحيدة من نوعها في الأدب الروسي.

بعد انتزاعها من محيط "ميرغورَد" الهابط، نُسيت "تاراس بولبا" بنجاح في عصر تسلية الإنسان الصغير، العصر الذي ما زال مستمرًا حتى الآن. حتى في مرحلة الرومنسية الثورية القصيرة كان الأبطال، رغم ذلك، أشخاصًا يتّسمون بجملة من النقائص التافهة، الواقعية تقريبًا، مثل شخصيات "الهزيمة" لفادييف و"الدون الهادئ" لشولوخوف.

أمّا أبطال "بولبا" فيُرفعون عاليًا بعظمة في الأدب الروسي باعتبارهم فرسان النجاح والقوة والجمال والبسالة. وإذا كانت تنقصهم فكرة إعادة بناء البلاد والعالم، ففقط لأنهم ليسوا سوى روّاد تلك الشخصيات المثالية التي يجب أن تستوطن المجلّد الثالث لرواية "النفوس الميتة" الذي لم يكتبه غوغول.

يمكن بناء البطل الإيجابي الكامل الذي يفكّر فيه غوغول انطلاقًا من شخصيات "بولبا" الغنية والكاملة، وكذلك من شخصيات "الألياذة". لكنّ غوغول لم ينهِ كتابة "أوديسّته"، وبالتالي لم يظهر هذا البطل الإيجابي الكامل في الأدب الروسي.

من الطبيعي أنّ غوغول لم يكن في وسعه التنبؤ بذلك، فقد وضع نصب عينيه مهمة خلق الإنسان الروسي الكامل، وفي بحثه عن تناغم كهذا بين العقل والعاطفة راح يعمل خطوةً خطوة، وقدّم في "ألياذته" أبطالًا كاملين عاطفيًا.

إنّ مشاعر شخصيات "بولبا" قوية وصافية وصادقة، وطاقتها الروحية لا تعرف حدودًا على الإطلاق. وهنا يتجلّى غوغول بصفته معلّمًا ملحميًّا حقيقيًّا. فكما أنّ العدوين اللدودين هيكتور وأخيل في منتهى الروعة عند هوميروس، كذلك هو عظيم ورائع الخائن أندريه الذي "باع دينه وروحه"، وفق رأي والده. لكنّ هذا الرأي رأي تاراس، لا رأي الكاتب.

إنّ خيانة أندريه محبوكة بروعة بالغة، والأكثر روعةً شخصية البولندية الحسناء التي هي ليست مغوية تافهة على الإطلاق، فهي لن تبادل أندريه بالبلد كله، وهي تحبّه بحقّ. وعمومًا، تتصرّف البولندية كإنسان جيد لا يخشى على نفسه الموت جوعًا، لكنها تخاف على والديها. وأندريه أيضًا إنسان جيد جدًا، فهو صريح وجريء، ومن الواضح أنه – مثله مثل الكاتب – يعشق مظهره الرجولي وسلوكه المتحرّر وملابسه الجميلة، بل إنّه يموت واقفًا وراسخًا، دون أن يذلّ نفسه. هذا الزوج – أندريه والبولندية – جيد إلى درجة أنّ الصواب الذي لا ريب فيه يدوّي في كلمات أندريه التالية: "الوطن هو ما تتوق إليه أرواحنا، هو أعزّ شيء بالنسبة إليها. وطني هو أنتِ". هذا ليس شعورًا مبتذلًا بل هو شعورٌ سامٍ من حيث صدقه.

ليس ممتعًا لغوغول على الإطلاق تقديم أندريه كخائن شنيع، فهو يجب أن يكون مساويًا لتاراس وأوستاب. في هذا المعنى للملحمة: أهواء أخيل لا تنفي خلوّه من العيوب.

على النحو ذاته تمامًا لا تقلق غوغول مناقب شخصياته الثانوية المشكوك فيها. فالمجرم بَلَبان واللص موسى شيلو يجترحان المعجزات ببسالتهما، مكفّرين بذلك عن خطاياهما السابقة. في عالم غوغول، كما في عالم هوميروس، لا وجود إلا للشجاعة. إن وُجدت الشجاعة، الباقي كله لا أهمية له، وإن انعدمت، فلا وجود للبطل أيضًا.

هناك شجاعة كافية في "تاراس بولبا". في النسخة الأولى للرواية شغل وصف المعركة حول المدينة البولندية 12 سطرًا، لكنّ غوغول، عند إعادة كتابة "تاراس بولبا"، ضاعف الوصف 50 مرة، فشمل 14 صفحة.

المشاهد الحربية التي تجمّد القلب لا مثيل لها في الأدب الروسي. وبالفعل، فمصادرها في زمان ومكان مختلفين تمامًا. تكفي المقارنة بين مشاهد من أعمال هوميروس وغوغول ليتيقّن المرء من التأثير، إن لم يكن الاقتباس، الجليّ (ولا عيب في الإقرار بذلك ما دام الحديث يتعلّق بهوميروس نفسه)، ولنتذكّر، في هذه الأثناء، أنّ غوغول قد قرأ "الألياذة" باللغة الروسية، بترجمة غنيديتش ذاتها التي قرأناها نحن أيضًا.

"انحنى لينتزع عنه الدرع والخوذة الثمينين. ولم يسمع بَرَداتي انقضاض الضابط الأحمر الأنف عليه" – "نزع عنه المنتصر الدرع والخوذة... وفجأةً باغت دولوبس لاميديت، الضابط الإليوني الجسور، فيليد".

"كباشقٍ يحوِّم في السماء، فيرسم دوائر عدّة بجناحيه، ثمّ ينقضّ على فريسته فجأةً كسهم... كذلك أوستاب، ابن تاراس..." – "كانقضاض نسرٍ سريع الجناحين على فريسته، يختطف كائنًا ضعيفًا ويفتك به، كذلك لديك مينلاؤس..."

"حطّم السيف سنَّيه السكريتين، وشقّ لسانه نصفين" – "حطّم السيف النحاسيّ الحادّ أسنانه، وقطع لسانه قطعتين".

يتضمّن فصل "قصة زَبَروجية" قائمة بأسماء الثكنات، وهي القائمة الوحيدة التي قرأها مَندلشتام "حتى منتصفها": "راحت تزحف الواحدة تلو الأخرى: العُمانية، البولندية، الكانيفية، الستيبليكيفية، النيزامايكوفية، كورغوزيف، التيتاريفية، التيموشيفية".

كما أنّ هناك جبابرة لهم الاسم نفسه: "بيسارينكو، ثم بيسارينكو آخر، وأيضًا بيسارينكو".

وهنا نسخة حرفية (تعود لغوغول، لا لغنيديتش) عن وداع هيكتور وأندروماك: "ألكي أغدو ربَّ منزلٍ، فأرعى الأغنام والخنازير وأرتدي تنانير زوجتي؟ ليأخذها الطاعون! أنا قوزاقي، ولن يكون شيء من هذا القبيل".

لقد أدرج غوغول مجموعة الأشقياء في "تاراس بولبا" منذ البداية، فعبر إعادة كتابة روايته، محوِّلاً إياها إلى ملحمة، عزّز غوغول السمات الملحمية، وهنا وجد نفسه يواجه تناقضًا لا مفرّ منه، والمسألة هي أنّ البطل الملحمي ليس بطلاً على الإطلاق في تصوّرات العصر الجديد، ناهيكم عن أن يكون بطلاً إيجابيًا. لكنّ غوغول خلق بالتحديد أبطالاً خارقي الإيجابية، وهم الأبطال الذين كان في مقدورهم تسليم المهمّة إلى شخصيات مجلّد "النفوس الميتة" الثالث المستقبلية المتألقة.

لا يصعب إدراك أنّ في تصوّرات المعاصرين (الديمقراطيين بالدرجة الأولى) كان في مقدور الجمال الروحي لتاراس ورفاقه منع حدوث مذبحة اليهود الموصوفة في "بولبا" ببهجةٍ لا مثيل لها: "فأمسكوا باليهود وبدؤوا يرمونهم إلى الأمواج. ورجّعت الصرخات المسترحمة الصدى من كلّ الأنحاء، لكنّ الزَبَروجيين كانوا يضحكون وحسب وهم يرون أرجل اليهود وأحذيتهم وجواربهم تتأرجح في الهواء". إنّ إيقاع السرد هنا من الخفّة بحيث يمرّ الأكثر أهميةً مرور الكرام: فقد قُتل "أبناء إسرائيل المساكين الذين فقدوا ما لديهم من شجاعة، الضئيلة حتى من دون ذلك".

وقد لا تعجب معاصري غوغول المستنيرين حتى أعمال بطله الرئيس الأخرى: لم تستجب الفتيات ذوات الصدور البيض والعيون الملونة للقوزاق ذوي الحواجب السود، ولم يستطعن اللجوء إلى المحاريب، فقد أحرقهنّ تاراس مع المحاريب... القوزاق، إذ يرفعون حرابهم عن وجوه الفتيان الشجعان، كانوا يلقون بهم في النار".

لكنّ الشخصيات الملحمية لا يمكنها التصرّف على نحو مغاير، فالأبطال في الأساطير والملاحم يأكلون لحم أبنائهم ويقطّعون بعضهم بعضًا إلى نصفين. غير أنّ غوغول وقرّاءه كانوا أناس القرن التاسع عشر، وكانت أخلاقهم تطلب تبريرًا لانفلات تاراس من القيود.

للمساعدة على تبرير هذا التناقض حضرت الإيديولوجيا: كلّ ما اقترفه الزَبَروجيّون إنما فعلوه من أجل العقيدة الرفاقية والوطن.

لقد اتّخذت بيئة البسالة وجهةً إيديولوجية، وحلّت مكان أخلاق الماعز صيغة أخرى، "إذ لا يليق برجل شريف أن يعيش دون قتال". وهذه الصيغة لا تلغي الصيغة السابقة على الإطلاق، وإنما توسِّعها وحسب: "أينبغي، إذن، للقوة القوزاقية أن تُهدَر سدى؟ ألكي يفنى الإنسان من دون قيامه بأي عمل فاضل، ككلب، بحيث لا يكون فيه نفع، لا لأرض آبائه ولا للمسيحية؟.. ما جدوى حياتنا الملعونة هذه إذن؟"

لقد أصبح الأمر مختلفاً الآن. الآن كلّ شيء مبرّر: "سيقول له المسيح: اجلس عن يميني يا كوكوبنكو". فلنلاحظ أنّ المسيح سوف يقول هذا الكلام لكوكوبنكو ذاك، الذي قبل ثلاث صفحات من مقتله "هَرَمَ أول شخص صادفه كالملفوف"، والقتيل أيضًا مسيحي، لكنه كاثوليكي. والأتامان بَلَبان أيضًا واثق من أفعاله: "أعتقد، يا إخواني، أنني سأموت ميتة جميلة؛ فقد حززتُ أعناق سبعة منهم، وطعنت تسعة بالرمح، ودهست كثيرين بحصاني، ولا أذكر عدد الذين أطلقت عليهم النار".

يمكننا اعتبار هذا كله محاكاة هجائية لولا روعة نصّ غوغول الذي التجديف فيه متناغم وطبيعي تماماً. لعلها المرة الأولى التي ينجح فيها كاتب روسي في إبداع عمل إيديولوجي صارم بهذا المستوى الرفيع.

أبطال ملحمة غوغول وثنيون، وهو ما يجب أن يكون عليه أبطال الملاحم، وهم يبقون وثنيين في فضائهم الذي هو ليس المسيحية، ولا الأرثوذكسية، بل الوطنية. ذلك أنّ حبّ الوطن لا يشترط قطعًا محبة الإنسان، فقوزاق تاراس أصيلون إلى درجة أنهم يُسمَّون مسيحيين بمحض الصدفة. فوفقًا لغوغول: الإيمان بروسيا هو الإيمان الحقّ بالله.

الفهم الأبوي الصوفي التقليدي لا يواجهه تصوّر أندريه الرومنسي "الحبيبة هي الوطن" فقط، بل كذلك المنظور العقلاني للمتغربن يانكل اليهودي الذي يردّ على سؤال تاراس بشكل واضح متجنّباً تأويل الجوانب الحماسية: "ينتج مما تقول أنه قد باع وطنه ودينه؟ - لم أقل إنه قد باع أيّ شيء. قلت فقط إنه قد انتقل إلى جانبهم".

يانكل لا يثير اشمئزاز الكاتب لأنه يهودي، بل لأنه عقلاني يدحض بمنطقه الروحانية الطبيعية، أي الروحانية الحقيقية الوحيدة. اليهودي، بالنسبة إلى تاراس، ليس عدواً بل هو غريب إلى درجة أنّ تاراس يشعر أنه يكاد يكون غريباً حتى من حيث مظهره. فاليهودي لا يتكلم بلغة أجنبية، بل بلغة غير بشرية: "حتى الشيطان لا يفهم لغتهم"، وهو لا يعيش كالبشر: "طرح قفطانه القصير جانباً، وحين أصبح بالخفّ والجوربين بات شبيهاً بفرخ الدجاج، ثم أودع قفطانه شيئاً يشبه الخزانة".

كل من لا يشاطر كاتب "تاراس بولبا" إيمانه بروسيا غريبٌ عنه. بالنسبة إليه، ما هو روسي ليس متميّزاً وحسب، بل هو الأفضل: "لا يا إخوتي، لا يمكن لأحد أن يحبّ كما تحبّ النفس الروسية!" وهذا بالطبع هو توتشِف المستقبلي: "لا يمكن فهم روسيا عن طريق العقل"، ويكاد ألكسندر بلوك المستقبلي يقول هذا الكلام حرفياً: "لم يعشق أيٌّ منكم منذ أمدٍ بعيد كما كان أسلافنا يعشقون!" وعموماً "سيكيثيا" بلوك عبارة عن تفسير لرواية "تاراس بولبا": "لقد رفع الزَّبَروجيّون تروسهم بين عرقين عدوّين: المغول وأوروبا".

إنّ كتاب غوغول الوطني العظيم، الذي عُدَّ كتاباً للأطفال وكان منسيّاً من قِبل دارسي الأدب الكلاسيكي القديم، كانت له قيمة هائلة، وبالتحديد نظراً لفرادته. لقد تبيّن أنّ "تاراس بولبا" ملحمة لغوية روسية لم يكن الأدب الروسي المكتوب كافياً لها، وتمكّنت من تلافي النقص الرئيسي في المفردات اللغوية الروسية: أبطال أقوياء لا يجادلون، وسيمون بكل المقاييس، مثل أبطال القصائد الملحمية الاسكندينافية.

إنّ صيغ غوغول المتقنة متجذّرة في الحياة الروسية ذاتها، أكثر منها في الأدب: "أنا أنجبتك، وأنا سأقتلك!" أو: "كم يجيدون القتال على الأرض الروسية، وأفضل من ذلك، كم يجيدون الموت في سبيل العقيدة المقدّسة". هنا كونية المقاربة تصعق!.. فمن المعروف أنّ الآخرين أيضًا يجيدون القتال والعيش، لكنّ الإنسان الروسي وحده يعرف كيف يموت، لأنّ لديه ما يموت من أجله: روسيا. هذه العقيدة المقدّسة تشتمل على كافة أشكال الوجود المعقولة، بل وحتى ما بعد موت الجسد.

من السهولة بمكان تأليف كتاب عن الوطنية، لكنّ هناك صعوبة بالغة في تأليف كتاب "جيد" عن الوطنية.

غوغول تمكّن من ذلك.

لكنّ غوغول نفسه لم يستثمر نصره العظيم، فهو، بإعادة كتابة "بولبا"، إنما كتب "إلياذته" التي هي مدخل إلى كتابة "أويسّته"، إلا أنه بالكاد شيّد بهو مبنى "النفوس الميتة" الفخم. لقد رأى غوغول الخطوط العظيمة لذلك المبنى وارتفاعه الشاهق، وشعر بذلك. لقد عاش مع انطباع مفهوم بالنصر، بل وسارع إلى تسجيل اسمه في ملحمته الشعرية المصغّرة، كشاهدٍ وراوٍ وضابط إيقاع في الفصل الأخير من "تاراس بولبا": "تتلألأ المرآة النهرية التي يصدح فوقها صياح طيور البجع الرنّان، وغوغول الفخور يمخر عبابه سريعاً..."

على هذا النحو يمخر غوغول الفخور نحو ذرا الأدب الملحمي الروسي، إلى حيث مجلّد "النفوس الميتة" الثالث، إلى الفجر المشرق الذي ارتقى إليه نوزدريف النقّاش، وبلوشكين الشبيه بقصف الرعد، والعصبة المتألّهة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم