على الرغم من أنّ ظهور الرواية النِسويّة في ليبيا قد تأخّر حتّى فترة السبعينيّات من القرن الماضي، فإنّ الساحة الروائيّة الليبيّة شهدت نتاجًا نِسويًّا متميّزًا على المستويين المحلِّي والعربي، وليس أدلّ على ذلك من ترشيح رواية (زرايب العبيد) للروائيّة نجوى بن شتوان، لجائزة بوكر العالميّة للرواية العربيّة، وحصول رواية (قوارير خاوية) للروائيّة غالية الذرعاني على المرتبة الثانية، ضمن فعاليّات جائزة الطيّب صالح العالميّة للإبداع الكتابي، في دورتها العاشرة، عن فرع الرواية العربيّة.

تعدّ الكاتبة غالية الذرعاني من الروائيّات اللاتي برعن في فنِّ الرواية، مستفيدة من خبرتها في مجال القصّة القصيرة، والعمل الصحفي، ومن تخصّصها العلميِّ في مجال التاريخ وبحوث التراث، إضافة إلى نشاطها على المواقع الثقافيّة، ضمن الشبكة العالميّة (الإنترنت)، ولا تكاد تخرج كتابات غالية الذرعاني الروائيّة عن النمط السائد في الرواية النِسويّة العربيّة عمومًا، حيث يغلب على كتاباتها الروائيّة الطابع الرومانسي، الذي يمتلئ بقضايا الحبّ، والخوف، والخيانة، والأوجاع العاطفيّة، والألم، والعنف، من خلال لغة وصفيّة مزيّنة بأحاديث الذكريات، التي تنطلق من شخصنة المعاناة، والالتباس بشخصيّة المرأة التي تطرح قضاياها، خاصّة تلك القضايا التي ترتبط بمشاعرها، وجسدها، وأنوثتها، وما تكابده من تطرّفٍ اجتماعيٍّ، وظلمٍ ذكوريٍّ، وقيودٍ أخلاقيّةٍ ، وفهمٍ خاطئٍ لكثير من القضايا الدينيّة التي تخصّ المرأة. 

 تتناول هذه الدراسة رواية (قوارير خاوية)- التي تعدّ أشهر روايات غالية الذرعاني؛ لنيلها عنها جائزة الطّيب صالح العالميّة للإبداع الكتابي- من زاوية عرضها لقضيّة العنف ضدّ المرأة؛ وذلك لخطورة هذه القضيّة على الفرد والمجتمع، حيث سعت هذه الدراسة إلى تناول القضيّة من وجهة نظر المرأة ذاتها، من خلال القلم النِسويّ، بوصفها خير من يعبّر عن معاناة بنات جلدتها، ويحمل همومهن، وقد سعى الباحث أولاً إلى تحديد الفرق بين مفهومي الرواية النسائيّة، والرواية النِسويّة، باعتبارهما مفهومين ملتبسين في كثير من الدراسات العربيّة ذات الصلة، وذلك عبر تحديد دقيق للمصطلحين، ومن ثمّ تبيين أهمّ خصائص الرواية النِسويّة، كذلك تعريف العنف، وبيان أهمّ مظاهره، وأشكاله، وأسبابه، ثمّ التعرّف على طريقة تناول الكاتبة لموضوع العنف في روايتها موضوع الدراسة، للوصول إلى خاتمة ضمّنها الباحث أهمّ النتائج التي استطاع الوصول إليها.

 لقد واجهت الباحث- رغم حماسه لموضوع الدراسة، واندفاعه لها- عدّة عراقيل، لعلّ من أبرزها كون الموضوع ذا طبيعةٍ واقعيّةٍ شائكةٍ، وملتبسٍ بالعادات، والثقافة المجتمعيّة السائدة، أكثر من كونه قضيّة أدبيّة فنّيّة، ما يجعل الموضوعيّة في تناوله عزيزة المنال، إضافة إلى قلّة المصادر والمراجع المحليّة، والعربيّة، التي تعنى بالأدب النِسوي الليبي، وصعوبة الحصول على القليل الموجود منها، مع ضيق الوقت الذي أنجزت فيه الدراسة. 

     وفي سبيل الوصول إلى أفضل النتائج، اعتمدت الدراسة منهجًا وصفيًّا تحليليًّا، يقوم على دراسة الظاهرة، من خلال وصفها وصفًا دقيقًا، وصولاً إلى التفسير والتحليل، الذي يقود إلى استجلاء حقائق الظروف القائمة، بما يوفّر للدراسة العمق والشمول.           

مفهومي الرواية النِسائيّة، والرواية الِنسويّة:

لا شكّ أنّ الساحة النقديّة العربيّة تشهد التباسًا مصطلحيًّا، ينبع من فوضى التحديدات، لا سيّما أنّ كثيراً من المصطلحات تُمررّ بطريقة تعسّفيّة، تعبّر عن تصوّرات أصحابها ، ما يجعل من المهمّ ضبط مصطلحي النِسائية والنِسويّة في هذه الدراسة.

 جاء في لسان العرب: النِّسوةُ، والنُّسوةُ، بالكسر والضمِّ، والنِّساء، والنِسوانُ جمع المرأة من غير لفظه... قال ابن سيده: والنِّساء جمع نِسوة إذا كثرن؛ لذلك قال سيبويّه في الإضافة إلى نِساءٍ، نِسْويٌّ، فردّه إلى واحده .

لقد وقع الخلاف في الإضافة إلى الاسم الجمع، فعلى قول من ردّه إلى الواحد عند النسبة، فإنّه يجب أن يقال: (نِسْوي) عند النسب إلى نساء، ولا يجوز (نِسائي)، وهذا هو قول سيبويه، وأهل البصرة ، أمّا على قول من يجيزون النسب إلى الجمع عند الحاجة، فيجوز أن يقال: (نِسْوي)، و (نِسَائِي) ، ولعلّه قول الكوفيين، أو بعضهم . 

ولعلَّ الخلاف في الاستخدام الاصطلاحي للفظ يرجع إضافة إلى الالتباس اللغوي، إلى الانبهار العربي المعتاد بالفكر الغربي، واختلاف السياق الثقافي الذي أدّى إلى الخلل في ترجمة الأصل الغربي للمصطلح (feminist literature) إضافة إلى رغبة بعض النقّاد العرب في إعطاء صبغة خاصّة للأدب الذي تكتبه المرأة عن غيره من الأدب الذي يُكتب عنها، وهو ما نتج عنه تداخل المفهومين عند كثيرٍ من الباحثين؛ لتشابههما؛ لذلك وجب ضبط حدود المصطلحين، والذي يميل إليه الباحث أنّ مصطلح (أدب نِسوي) ينبغي أن يكون خاصًّا بذلك النتاج الذي تكتبه المرأة، ويتناول قضاياها، وتجاربها، وما يعبّر عن نظرتها للمواضيع الإنسانيّة عامّةً؛ أمّا مصطلح (أدب نِسائي) فَيُعنى به تلك الكتابات التي تعالج قضايا نِسويّة، سواء كانت هذه الكتابات إبداع امرأة، أو من إبداع رجل . 

وبالرجوع إلى آراء الأديبات أنفسهن في الأدب النِسوي، وباستقراء ما أمكن للباحث الاطلاع عليه من دراسات وكتب تهتمّ بالموضوع، يمكن إجمال أهمّ الخصائص التي تشكّل ما نسمّيه أدبًا نِسويًّا، في النقاط الآتية:

1- الكتابة الأدبيّة النِسويّة وثيقة الصلة بقضايا المرأة، فالكتابة النسويّة براح للتعبير عن قضايا المرأة وهمومها، ومرآة تعكس أحلامها، وتطلّعاتها.

2- لاستخدام الواسع لضمير المتكلّم، وأسلوب الحوار الداخلي، الذي يعبّر عن تصوّر المرأة لوجودها، ورؤيتها الخاصّة للعالم.

3- الاستغراق في استخدام جمل، وتعبيرات شفّافة، وصور رمزيّة مزخرفة، وأساليب ذات إيقاع وأثر موسيقيّ.

4- يمكن أن نسمّي الأدب النِسويَّ، أدب الفضفضة، الذي تُفَرِّغُ من خلاله الكاتبات مشاعر القهر الذي تعيشه المرأة؛ لأسبابٍ تتعلّق بوضعها في المجتمع من ناحية، وبجسدها من ناحية أخرى؛ ولذلك يكثر في الأدب النِسوي حديث الذكريات.  

تعريف العنف:

العُنْفُ في اللغة: الخُرْقُ بالأمرِ، وقِلّة الرِفقِ بِهِ، وهو ضِدُّ الرِفْقِ... وفي الحديث: "إنّ الله تعالى يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" 

 يمكن تعريف العنف اصطلاحًا بأنّه: "الاستخدام المتعمّد للقوّة، أو السُلطة؛ بالتهديد، أو بالفعل، ضدّ الذات، أو ضدّ شخص آخر، أو ضدّ مجموعة من الأشخاص، أو ضدّ المجتمع ككلٍّ، ممّا يسفر، أو قد يسفر بنسبة كبيرة، عن إصابةٍ، أو وفاةٍ، أو أذىً نفسيٍّ، أو سوءِ نموٍّ، أو حرمان" .

إذن العنف عمومًا هو استعمال القوّة، أو التهديد باستعمالها ضدّ شخصٍ، أو مجموعةٍ، ما قد يؤدّي إلى الموت، أو إلحاق الأذى.

لقد دعا الإسلام إلى نبذ العنف، وبيّن سوء عاقبة مرتكبيه، حيث نصّ القرآن الكريم صراحة على عدم الإكراه، وتحريم الاعتداء، وتجريم العدوان ، كما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم أرفق الناس بأمّته عامّة، وبالنساء خاصّةً؛ لضعفهن، فلم يكن صلّى الله عليه وسلّم يرضى بأذيتهن، ومن الأحاديث الكثيرة الدالّة على نهيه عليه الصلاة والسلام عن استخدام العنف ضد النّساء خصوصًا، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: "أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا" .

أنواع العنف:

يأخذ العنف أنواعًا مختلفة تبعًا للوسيلة المستخدمة لفرض نظام، أو لفرض تصوّر محدّدٍ، عمّن يملك زمام الأمور، بحيث تتراوح أنواع العنف بين العنف الجسدي، والعنف الاجتماعي، والعنف الاقتصادي، والعنف الجنسي، والعنف العاطفي . 

أشكال العنف:

ويقصد بأشكال العنف الحالة التي قد يحدث ضمنها العنف، ومن أمثلتها :

1. العنف الأسري: وهو العنف الذي يمكن أن يحدث في إطار الأسرة.

2.  العنف المجتمعي: وهو العنف الذي يحدث في إطار المجتمع بشكل عام.

3. العنف السياسي: وهو العنف الذي يحدث في إطار الدولة.

 ومن المهمّ التنبّه إلى التداخل عند الاستخدام بين مصطلحي العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي (الجندر) ، والعنف ضد المرأة؛ ولكنّ الحقيقة هي أنّ العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي لا ينحصر في المرأة فقط، مع كونها الأكثر تعرّضًا له، وبالتالي يمكن تحديد مصطلح العنف ضد المرأة إجرائيًّا بأنّه: "انتهاك لحقوق الإنسان، وشكل من أشكال التمييز ضد المرأة، وهو يشمل كلَّ عنف مبنيٍّ على أساس النوع الاجتماعي، يتمُّ توجيهه ضدّ المرأة، ويؤدِّي، أو يمكن أن يؤدِّي إلى إلحاق معاناة، أو أذىً جسديٍّ، أو جنسيٍّ، أو نفسيٍّ، أو اقتصاديٍّ بها، ويشمل ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل، أو الإكراه، أو الحرمان التعسفّيِّ من الحريّات، سواءً حدث ذلك في الحياة العامّة، أم الخاصّة" .

أسباب العنف ضدّ المرأة:

 لا يمكن حصر أسباب العنف ضدّ المرأة؛ وذلك لتعدّدها، ولكن يمكن إجمالاً إرجاع أهمّ أسباب العنف ضدّ المرأة إلى الأسباب الآتية :  

1. الأسباب التربويّة: وتتمثّل في النماذج السلوكيّة التي تقدّمها الأسرة لأفرادها، من خلال أنماط السلوك التي تدور داخل المحيط الأسري.

2. الأسباب التراثيّة: وهي تلك التي تتعلّق بالموروثات الاجتماعيّة والثقافيّة، ومنها العادات الاجتماعيّة، والأعراف القبليّة، التي تقوم مقام القانون في بعض المجتمعات.

3.  الأسباب الاقتصاديّة: التي تتمثّل في البطالة، وغلاء الأسعار، والتضخّم السكّاني، والفقر، وهي مرتبطة بالإحباط، والغضب، بسبب عدم قدرة المعيل على تحمّل مرتبة الصدارة.

4. الأسباب النفسيّة: وهي مرتبطة بالحالة النفسيّة للمعنِّفِ، والمعنَّفِ، من حيث علاقتها بالأمراض النفسيّة، والمشكلات الشخصيّة، والشك، والتوتّر، والضيق.

5.  الأسباب الإعلاميّة: وتتمثّل في استغلال المرأة في الإعلانات، ما رسّخ القناعة السلبيّة تجاهها، وعمّق النظرة الدونيّة لها، كمخلوق ناقص، وأداة رخيصة، وبضاعة منخفضة التكلفة.

7. الرغبة في الهيمنة والتحكُّم (النظام الأبوي): حيث يقع العنف على الزوجات؛ بسبب رغبة الأزواج في فرض نظام قهريٍّ استبداديٍّ، يحسب أنّه الأنسب لسعادة أسرته، واستمرار بقائها.

8. السلوك الاستفزازي من الزوجة: فقد تكون الزوجة ذات طبيعة استفزازيّة، تثير غضب الرجل، من خلال إهانته، أو التقليل من شأنه، أو من خلال المعاندة، والامتناع، والعصيان، ما يكوّن لديه ردّ فعل عنيف تجاهها. 

      وتأسيسًا على ما سبق بيانه من أشكال العنف، وأسبابه، يسعى الباحث إلى رصد أهمّ المواقف التي عبّرت فيها الكاتبة عن هموم المرأة، وأوجاعها، وآلامها، عبر رصد أنواع العنف التي مورست ضدّها، من خلال استقراء النصّ الروائيِّ موضوع البحث.

أشكال العنف ضدّ المرأة في رواية قوارير خاوية:

تنطلق غالية الذرعاني في روايتها، في شكلِ عملٍ نصّيٍّ يستجيب للأحداث، معتمدة تسلسلاً زمنيًّا مقصودًا لعرض تلك الأحداث، التي تدور حول موضوع واحد، هو المرأة، في شخص البطلة (كريمة) ومَنْ حولها من نساء، ورصد أهمّ المحطّات في حياتها، وحياتهن، وما مررن به منذ طفولتهن من علاقات أسريّة، وعاطفيّة، واجتماعيّة، غيّرت نمط حياتهن، وشكّلت مزاجهن العام، محاولة صناعة عملٍ روائيٍّ يتجاوز حدود الفنتازيا الروائيّة؛ ليقتحم مناطق المغيّب، ويكسر حاجز الصمت، ويظهر كثيرًا من المساحات التي ظلّت بيضاء بفعل ممحاة الخوف، عملٍ يكون قادراً على رصد حياة المرأة الليبيّة، والتعبير عنها في سعيها للتحرّر من قيود الفهم الخاطئ، والدونيّة، وفي سبيل ذلك اعتمدت الكاتبة عرض نماذج زمنيّة، تشكّلت فيها هويّة بطلتها؛ من أجل أنْ تطلع القارئ على الواقع المتأزّم الذي عاشته، وتعيشه البلاد، وانعكاسه سلباً على المرأة بصفة خاصّة؛ لتضعنا في نهاية الرواية أمام احتمالات لا تخلو من السوداويّة.

 لم تخرج غالية الذرعاني في رواية (قوارير خاوية) عن النمط السائد لأغلب الروايات النِسويّة العربيّة، من خلال غلبة استعمال ضمير المتكلّم ( أنا )، أين تكون الكاتبة نفسُها جزءًا من عملها الإبداعي، تتقمّص شخصيّة من الشخصيّات، تَذْرَعُ بها إلى الحديث عن المغفول عنه في الرواية العربيّة، محاولة ملء تلك الفجوات التي خلّفتها ممحاة الصمت والسكوت، وفي سبيل ذلك عمدت الكاتبة إلى معالجة القضيّة من خلال أسلوب سيرذاتي مشحون بعواطفها، وذاتها، وزخم أحاسيسها، ما جعلها مرآة تعكس واقعاً نِسويًّا ماديًّا، وتاريخيًّا، واجتماعيًّا متّسمًا بالاضطهاد، والعنف، من هذا المنطلق نرنو فيما يأتي إلى تقديم قراءة تأويليّة، تكشف أشكال العنف ضدّ المرأة التي رصدتها الكاتبة في هذه الرواية، واستجلاء الطريقة التي قدّمتها بها. 

ملخّص الرواية:

صدرت رواية قوارير خاوية في طبعتها الأولى سنة 2020م، عن دار مدارك للطباعة والنشر، وبرعاية الشركة السودانيّة للهاتف النقّال (زين)، وتقع الرواية في ثلاث وستين ومائة صفحة من القطع الوسط، غير مقسّمة إلى عناوين، بل مرقّمة بأرقام، بلغ عددها عشرة أرقام، يرتبط كلّ رقم منها بأحداثٍ تقع في زمان ومكان معيّنين.

 تحكي رواية قوارير خاوية قصّة (كريمة)- أو (كريمان) كما تحب أن يناديها الناس- الساردة، وهي امرأة تعيش مع شخصيّات نِسويّة ترتبط معهن برباط أسري واحد، وهنَّ أمّها مرزوقة، وأختها الكبرى خديجة، وهذه الشخصيّات يمكن وصفها بالشخصيّات المحوريّة في الرواية، إذ عليها وحولها يقع مدار الأحداث، وإلى جانب هذه الشخصيّات تتحرّك شخصيّات أخرى ثانوية تحمل أدوارًا متناثرة في الرواية، وتساهم في اكتمال الأحداث.

 تبدأ الحكاية من حيث كانت تسكن البطلة مع أمّها وأختها، في حيٍّ شعبيٍّ من أحياء مدينة بنغازي اسمه (شارع الحشر)، ولعلّ الكاتبة اختارت الاسم عن قصد؛ لما يحمله من معاني التضييق والإكراه، تتغيّر حياة هذه الأسرة تبعًا للظروف التي تمرُّ بها، وهي في مجملها ظروف قهريّة وظالمة، حيث تطلّق الأمّ (مرزوقة) بلا سبب، إلاّ نزوات زوجها، وإدمانه للخمر، لتبدأ رحلتها مع زيجات متعدّدة، يدفعها الخوف على سمعتها، وسمعة بناتها من ألسنة سكّان الحيّ الحداد، ورغبتها غير المخفيّة في أن تعيش في ظل رجل يوفّر لها ولهن الأمان، وتتغيّر حياة ابنتيها تبعًا لتقدّمهنّ في السنّ، حيث تتزوّج (خديجة) من (خليل)، الرجل النافذ في الحكومة، وتنتقل للعيش معه في العاصمة طرابلس، وتتزوّج (كريمة) من عشيق الصبا (مراد)، لكنّ زواجها انتهى بطلاق مبكّر، قبل أن تنجب (كريمة) مولودها الأوّل منه، لتنتقل مع والدتها للعيش عند (خديجة) في ملحق ببيت (خليل) المنيف، وفي هذا البيت تدور أحداث الرواية الأكثر بؤسًا، وعنفًا، وفي طرابلس تنتهي أحداث الرواية الأكثر سوداوية، ويأسًا.

      لقد توسّلت الكاتبة بهذه الرواية إلى طرح قضيّة العنف ضدّ المرأة، بوصفها الكائن الأضعف، الذي تمارس في حقّه كلُّ أشكال الاضطهاد النفسي والجسدي، بيد أنَّ الكاتبة- وعلى غير العادة- لا تلقي باللائمة في هذا العنف على الرجال فقط، حيث لا يظهر الرجل في روايتها بوصفه الممارس الأوحد للعنف ضد المرأة، والسبب الأوّل في معاناتها.

لقد تعدّدت مستويات العنف في رواية قوارير خاوية، كما تنوّعت أشكاله، فمنها ما يعود للأسرة التي تحكمها عادات، وتقاليد، وقيم ظالمة وقاسية، تضع المرأة في خانة الدونيّة، والقهر، وتعطي الرجل أبًا، أو زوجا، أو وليًّا حقّ ممارسة سلطة تعسّفية باسم القيّم والوليّ؛ ومنها ما يعود إلى أساس مجتمعي، يزدري المرأة، ويراها مخلوقًا نجسًا، وسببًا لكلّ شؤم، وفضيحة، وغواية.

في ضوء ذلك يمكن إجمال أهمّ أشكال العنف التي طرحتها غالية الذرعاني في روايتها إلى شكلين اثنين، لكلّ واحد منهما وظيفة دلاليّة خاصّة، ولكنّها تتضافر؛ لتصل بالقارئ إلى تلك النهاية المأساويّة لأولئك النسوة الثلاث، ويمكن تلخيص تلك الأشكال من العنف التي قدّمتها الرواية فيما يأتي:

أولاً: العنف الأسري:

  الأسرة بناء يقوم على أساس الوظائف العاطفيّة، المتمثّلة في الحنان المتبادل بين الزوجين، وبينهم وبين أبنائهم، ثمّ بينهم وبين بقيّة النسق القرابي ، والأسرة الليبيّة شأنها شأن الأسر العربيّة عامّة، تقوم على نظام أبويٍّ للأسرة، وهو نظام يعتمد آليّات السيطرة الإيديولوجيّة في المعايير، والمفاهيم، كما أنّه نظام يعتمد في الأساس لغة دفاعيّة، تخشى الحوار، وتحتمي وراء الفهم الديني الخاطئ، حيث يكون الأب هو محور الأسرة، وصاحب سلطة مطلقة، تقوم على فرض الرأي، وغياب الحوار، ورفض النقد، وبالمقابل تسود المرأة قيم الخنوع والذلِّ .

 في ظل هذا الفهم الذي يجعل المرأة أداة لإشباع غرائز الذكورة، ووسيلة لإنجاب الأطفال، من ناحية، ومصدرًا للغواية، ومجلبة للعار من ناحية أخرى، ما يحتّم على الوليِّ دائمًا تقويم اعوجاجها، وتأديبها، ترصد غالية الذرعاني العنف الذي مورس على النساء في روايتها، بداية من عنف والد مرزوقة الذي كسّر على ظهر ابنته أربع عصي، ما أدى إلى فقدانها الوعي لمدّة ثلاثة أيّام؛ لأنّه رآها تتنصّت على فقيه النجع وهو يعلّم الصبيان، ففسّر الوالد فعلها بأنّه محاولة لإغواء الفقيه، أو أحد الصبيان ، هذا العنف الجسدي الذي قاد فيما بعد إلى نوع آخر من العنف الأبوي، تمثّل في إكراه القاصرة مرزوقة على الزواج من تاجر أغنام يكبرها بخمسة وعشرين عامًا، فيما لم تتجاوز هي سنّ الثالثة عشر ، بدافع التخلّص من فورة جسدها التي كانت تقلق الأب.

 هذا العنف الأبوي الجسدي يتسرّب إلى الأمّ مرزوقة، حيث تستعمل الأسلوب ذاته مع ابنتيها كريمة وخديجة، فنراها مرّة تضرب الطفلة كريمة بالسوط؛ لأنّ جارهم اتهمها بكسر زجاج بيته وهي تلعب الكرة ، ومرّة أخرى تضرب كلتا الفتاتين؛ لأنّ زوجها مفتاح الحلواني اتهمهما بسرقة الدرج الذي يضع فيه أمواله ، كذلك نجده يتكرّر مرّة ثالثة من مرزوقة تجاه ابنتها كريمة، حين ضربتها بسبب قراءتها للرسالة التي أرسلها والدها إلى أمّها دون إذنها ، والممارسة العنيفة عينها تمارسها كريمة ضد ابنتها شيرا، حين تضربها بسبب عنادها، وتهوّرها، وسذاجتها ، يضاف إلى هذا العنف الأبوي الجسدي العنف الأبوي النفسي، الذي يتمثّل في الشعور بالإهانة والإذلال، الذي كانت تشعر به خديجة؛ بسبب تحيّز والدها لأختها كريمة، وإغداقه الحبّ عليها، وحرمان خديجة منه، حين كان يمنح قبلاته وابتساماته لكريمة دونها، وحين كان يذكر كريمة في رسائله، ويوصي بها خيراً، ويهمل خديجة .

نوع آخر من أنواع العنف الأسري، مورس على مرزوقة وابنتيها، وهو العنف العائلي الذي يقع من الأقارب، وأفراد العائلة، وهو عنف متعدّد الصور، فقد يقع في صورة عنف نفسي، يأخذ شكل التحرّش اللفظي، أو الحركي، أو الإهانة وعدم الاحترام، وفي كثير من المقاطع تظهر لنا الساردة مواقف عائليّة، تتعرّض فيها هؤلاء النسوة إلى العنف العائلي النفسي بصوره المتعدّدة، ففي المقطع التالي تصف الساردة كيف يتحرّش بها نجيب زوج عاتكة ابنة خديجة، وهو تحرّش يصل إليها عبر تحذير عاتكة لها بأنّها قد تكون سببًا في غواية زوجها، حيث تقول: "نجيب شاب طيّب ومتديّن يا (خالة)، ولن ترضي له السقوط في جهنّم بسبب بعض الإهمال منك" ، هذا العنف الذي تطوّر فيما بعد، ليأخذ شكلاً أكثر حدّة وتطرّفًا، يتمثّل في الإيذاء اللفظي، حين تستعمل عاتكة، وزوجها نجيب ألفاظًا مسمومة، وأسلوبًا متعالٍ ممزوج بخطاب دينيٍّ متشدّدٍ، يجعل من أفعال خالتها كريمة محرّمات، تقود زوجها إلى الجحيم .

      ومن صور العنف العائلي النفسي إيذاء خليل زوج خديجة لأختها كريمة، وعدم احترامها، ومحاولة ترهيبها، فقد كان دائم الانتقاد لكلّ حركة تقوم بها، حيث كان يصل به الأمر إلى ملاحقتها بمرارة لسانه، بل ويتعدّاه إلى ضربها، وسبّها وشتمها .

      ومن مظاهر العنف العائلي النفسي ما تعيشه خديجة من قلق وخوف دائمين، من أنّ زوجها خليل سيتزوّج امرأة أخرى تنجب له ولدًا ذكرًا، وسيرميها وبناتها إلى الشارع، دون أن يعطيهن قرشًا واحدًا؛ ما جعلها تقبل بمؤامرة والدتها مرزوقة، التي استبدلت وليد أختها بوليدتها، عندما أنجبتا في اليوم ذاته، وبالمثل وافقت كريمة على التخلّي عن وليدها بسبب العنف العائلي، الذي مثّله تهديد أمّ طليقها مراد لها بأنّها إنّ أنجبت ولدًا ذكرًا سوف تأخذه منها، أمّا إنْ كان المولود أنثى فلا حاجة لها بها ، وإنّ المقطع التالي ليوضح مدى العنف العائلي الذي مورس على كريمة مّمن يفترض أنّه أكثر أفراد العائلة تحرّراً وانفتاحًا، وهو زوجها مراد، صاحب المجلة التي تدافع عن حقوق المرأة! تقول الساردة: "والدتك المتعجرفة لم تكن تحبّ البنات، ولا أحببتهن أنت، كنت تردّد أنّك تريد أن تكون كلُّ ذرّيتك ذكوراً، فـ(البنات همهن إلى الممات) و (عقرب على الحيط ولا بنت في البيت)... وماذا إذا أنجبت أنثى، هل ستئدها؟ هل ستتبرّأ منها؟ هل سترميها للكلاب؟... كنتُ أسألك بغضب، وكنت تردُّ ببرود: لا... لن أقترب منها على الإطلاق، وربّما لن أعترف بها" ، إنّه العنف الذي يفسّر خوفهنّ جميعًا على (عاصم) الولد المدّعى لغير أبيه أن يصيبه أيّ مكروه .

صورة أخرى للعنف العائلي، وهو العنف العائلي الجسدي الناتج عن غيرة ضرائر مرزوقة منها؛ بسبب براعتها في صناعة الحلويّات، ما جعلها المقرّبة إلى قلب زوجها مفتاح الحلواني، فقرّرن الهجوم عليها، وضربها، ما كان سببًا في هروبها ممزّقة الثياب، متّهمة بالغواية . 

 يبدو أنّ القول الشهير: "بكوا في أوّل الأمر، ثمّ ألفوا وتعوّدوا، إنّ الإنسان يعتاد كلّ شيء، يا له من حقير" ، ينطبق تماما على مرزوقة وبناتها، تترجمه مفاخرة مرزوقة بذلك الألم الذي لم تجرِّبه بناتها، فهنَّ لم يتعرّضنَ للضرب من والدهن كما حصل معها، كما يصرّح به تصرّف الطفلة كريمة، التي غمرها شعور بالنصر على الجميع، رغم لهيب السوط الجلدي على ظهرها، ويؤكّده استمرار كريمة في العيش في ذلك الملحق الضيّق ببيت خليل على الرغم من كلّ الإهانات التي يوجهها لها على الدوام.

 والخلاصة أنّ الساردة تقدّم لنا شخصيّات نسائيّة يمكن وصفها بالشخصيّات الدونيّة ، قابلات بهذا العنف الأسري، ولعلّه قبول يرجع أساسًا إلى التنشئة، حيث تعتاد النساء منذ الصغر ذلّ الطاعة، وانكسارة الانصياع.

 لقد جاءت الرواية مشبّعة بصور العنف العائلي النفسيّ والجسدي، الذي تظهر فيه النّساء معنّفاتٍ على الدوام، يعانين الإهمال، والاحتقار من طرف أفراد عائلاتهن، نساءٍ مقهوراتٍ يعشنَ على هامش الحياة، يتجرّعنَ مرارة الحزن والإذلال بشكلٍ يوميٍّ، محطّماتٍ نفسيًّا، يتفنّنُ كلُّ من حولهنَّ من الأقارب في إلحاق الأذى بهن، نساءٍ ضحايا لعلاقات عائليّة مشوّهة. 

ثانيًا: العنف المجتمعي:

 يعرّف العنف المجتمعي بأنّه: "ظاهرة سلوكيّة إيذائيّة تقوم على إنكار الآخر... وتلعب العوامل النفسيّة دوراً كبيراً فيها... ويتمّ من خلالها استعمال العنف اللفظي، أو الجسدي، والاعتداء على الآخرين، والتطاول على القانون؛ من أجل تحقيق مصالح شخصيّة غير مشروعة" ، وقد سبقت الإشارة إلى أنّ هذا النوع من العنف غير مختصٍّ بالمرأة فقط، وإن كانت أكثر تعرّضًا له.

جسّدت الرواية في مقاطع متعدّدة صورًا شتّى لهذا العنف الذي طال الشخصيّات النسائيّة منها خاصّة، حيث كان العنف ممارسة اجتماعيّة يوميّة يقابل بها سكّان شارع الحشر مرزوقة وبناتها، فجريمة مرزوقة التي جعلت مجتمع الشارع يمارس ضدّها هذا العنف هو كونها مطلّقة، وهذا جعلها تخضع لأحكام مجتمعيّة نمطيّة مقولبة عن المرأة المطلّقة، بأنّها مخطئة، وفاشلة، ومثارٌ للريبة، وهو ما يفسّر تلك الفرمانات التي كان يصدرها السيّد (إبراهيم) كبير الشارع، والمتحدّث باسم سكّانه، التي كان يطلب فيها من مرزوقة مغادرة الشارع؛ تصف الساردة في المقطع التالي ما حدث بعد أن حطّمت الكرة زجاج بيت أحد الجيران، وادّعت مسؤوليتها عن ذلك حماية لحبيبها مراد: "وادعيت بكلّ شجاعة وتحدٍّ بأنّني أنا من رمى الكرة... وبالرغم من أنّ موقفي ذاك قد أزّم موقف مرزوقة، فانهالت عليها فرمانات الرحيل من الشارع، بل من الحيّ كلّه، تلك الفرمانات التي كان يحضرها شفهيًا إلينا السيّد إبراهيم كبير الشارع، والمتحدّث باسم سكّانه" .

 لقد عاشت مرزوقة وبناتها في شارع الحشر محاصرات بالعنف الذي يمارسه سكّان الحي نحوهن، فما فتئوا يلوكون سمعتها، وسمعة بناتها، وهو ما جعل مرزوقة- الخائفة من أفواههم المشرعة بالسبِّ، والشتم، والتشهير- تقبل الزواج أربع مرّات، وفي كلّ مرّة تردّد الخاطبة الحاجّة عائشة على مسامعها بأنّها امرأةٌ عزبةٌ، وجميلةٌ، وشابّةٌ، وأنّ أفواه الناس في الشارع، وفي الحيّ لا تكفّ عن لوك اسمها، مستشهدة بحادثة وقعت لها في الشارع، حين خرجت للبحث عن بناتها، فألّف نسوة الشارع عنها أحاديث لا تصدّق، كادت تكون سببًا في طرد مختار الحيّ لها .   

هذا الممارسة المجتمعيّة العنيفة ضدّ مرزوقة وبناتها لم تتغيّر حتّى عندما غادرن إلى مدينة طرابلس، فالمجتمع هو المجتمع نفسه، والنظرة للمرأة عمومًا، وللمطلّقة خصوصًا ذات النظرة، فهنَّ في طرابلس، وفي غيرها مجرّد نساء في العزلة، لا سند لهن، ولا حامي، فلا ينظر الناس إليهن في أحسن الأحوال إلاّ بعين الشفقة، أو الاستهانة، ولذلك كان وجود عاصم إلى جانبهن بمثابة السند، وجواز السفر الذي تمرّ به هؤلاء النسوة إلى الحياة بشيء من الكرامة، ويكفي المقطع التالي لبيان ما كانت تشعر به الساردة ومرزوقة وخديجة من رعبٍ جرّاء آثار ذلك العنف المجتمعي: "عاصم بالنسبة لي ولمرزوقة وخديجة أيضًا جواز السفر الذي لا يمكن أن نسافر بدونه إلى الحياة والناس، هويّتنا التي نؤكّد بها وجودنا الاجتماعي، رقمنا الوطني الذي بدونه نصبح غريبات، لولا وجود عاصم لكانت مرزوقة، وأنا وخديجة وأيضًا بناتها الأربع وشيرا مجرّد نساءٍ في العزلة، لا سند ولا حامي، نساءٍ لا ينظر إليهن إلاّ بأحد منظارين: الشفقة أو الاستهانة، وكلا المنظارين مرعب ومخيف" . 

 لقد حاولت رواية قوارير خاوية أن تنقل لنا صورًا للعنف الذي يمارس ضدّ المرأة في مجتمعنا الليبي، إلاّ أنّ الكاتبة تجنّبت أن يكون لها موقف إزاء ما جرى من أحداث الرواية، وتحاشت أن تقدّم للقارئ رأيها في القضيّة، بل ركّزت جلّ اهتمامها على عرض القضية، مع إشارات متناثرة إلى جذورها، وأسبابها، مقدّمة تفسيرات لبعض مظاهر العنف، وتبريرات لقبول المعنّفات به.

وقد استطاعت الكاتبة أنْ تلامس عين الواقع، من خلال الحوار الذي جسّد الصراع القائم بين الشخصيّات، والذي كشف مواقف كلَّ الأطراف، متوسّلة بلغة أدبيّة تمزج بين فصحى غالبة على النصّ السردي، وألفاظٍ دارجة تستعملها بشكلٍ واعٍ ومقصود؛ لخدمة أهداف معيّنة، كاستعمال الأمثال الشعبيّة، وبعض مفردات السبّ والشتم العاميّة، التي أضفت الواقعيّة على الشخصيّات الواقعيّة. 

 خاتمة ونتائج:

لا أحد ينكر ما تعرّضت، وتتعرّض له المرأة العربيّة من عنف وإيذاء جسدي ونفسي، وأنّ المرأة العربيّة ضحيّة للعنف النابع من الإيمان بأحقيّة الرجل في السلطة والهيمنة، ولقد سعت غالية الذرعاني على غرار صُنْوانِها من الروائيّات العربيّات إلى جعل العنف موضوعًا لعمل سرديّ يلفت النظر إلى ما تتعرّض له المرأة العربيّة من عنف أسري ومجتمعي، عبر خطاب إبداعيٍّ موجّه في الأساس إلى المجتمع، ينتقد ذلك الموروث القهري، ويقدّم عبر شخصيّات نسائيّة معنّفة شهادة ووثيقة تاريخيّة عن راهن المرأة في ليبيا، عبر مزيج إبداعي تتحاور فيه السيرة الذاتيّة مع الشخصيّات الروائيّة، حيث تظهر ذات الكاتبة المؤنّثة داخل نصّها الإبداعي، مستخدمة ضمير الأنا في طرح قضاياها، وأنّ البحث في هذا الموضوع قد قاد الباحث إلى استنتاج جملة من النتائج منها:

1. يطرح الأدب النسوي العربيّ عمومًا إشكالاً مصطلحيًّا يتعلّق بعدم الاتفاق على المصطلح، وهو إشكال يتصّل أساسًا ببنية الفكر العربي، فيما يخصّ ترجمة المصطلحات من لغاتها الأصليّة، حيث تتداخل الإيديولوجيات المختلفة مع اختلاف السياقات الثقافيّة، في ظل غياب مؤسّسات علميّة عربيّة متخصّصة في البحث المصطلحي ، والذي اقترحه الباحث في هذه الدراسة أنّ مصطلح الأدب النسوي ينبغي أن يكون خاصًّا بالنتاج الإبداعي الذي تكتبه المرأة، ويتناول قضاياها وتجاربها، ويعبّر عن نظرتها للمواضيع الإنسانيّة عامّة، وأنّ مصطلح الأدب النسائي مصطلح عام، يشمل الكتابات التي تعالج القضايا النسويّة، سواءً كانت من إبداع امرأة، أم من إبداع رجل. 

2.  أنّ الكتابة النسويّة في ليبيا ممثّلة في رواية قوارير خاوية، لغالية الذرعاني، وغيرها من الروايات النسويّة الليبيّة الأخرى، استطاعت أن تخطو خطوات جبّارة، وأنّها بدأت تعرف النضج، حتّى صارت تزاحم محيطها الإبداعي، بدليل حصول بعضها على تراتيب وجوائز عربيّة.

3.  أنّ العنف يشير في مفهومه اللغوي، والإسلامي، والغربي إلى استخدام القوّة استخدامًا غير مشروع، وغير مبرّرٍ، وأنّه يأخذ أشكالاً، وصورًا متعدّدة، منها العنف الأسري الجسدي والنفسي، والعنف المجتمعي، وأنّ لهذا العنف أسبابًا ودوافع، منها ما يرجع إلى التربية، ومنها ما يرجع إلى العادات والتقاليد، ومنها ما يرجع إلى المعنَّفِ والمُعنِّفِ نفسيهما.

4.  تظهر في رواية قوارير خاوية عدد من المظاهر الفنيّة المتكررة عادة في الرواية النسويّة العربيّة عامة، ومنها تمركز السرد حول شخصيّة الأنثى، وما يتعلّق بجسدها، وأنوثتها، واختلاط شخصيّات النصّ السردي مع شخصيّة الكاتبة نفسها، وهو ما يفسّر شيوع استخدام ضمير المتكلّم الذي يوحي بالحديث عن تجربة شخصيّة.

5. استلهمت الكاتبة تيمة العنف ضدّ المرأة، إذ صوّرت في روايتها مجتمعًا يسود فيه الظلم، ويعمّه الاضطهاد للمرأة، مجتمعًا تنعدم فيه الثقة بالمرأة، كما ينعدم فيه شعورها بالأمن والطمأنينة، وقد تعدّدت صور العنف ضدّ المرأة في الرواية، ما بين عنف أسري يطال المرأة بوصفها زوجة، أو ابنة، أو أختًا، أو قريبة، وعنف اجتماعي يطالها بوصفها فردًا منبوذًا من المجتمع، ما جعل المدينة كما الحيِّ، وكما البيت سجنًا للمرأة، وقد أخذ هذا العنف أشكالا وصورًا متعدّدة، فتارة يكون عنفًا جسديًّا، وتارة يكون عنفًا نفسيّا معنويًّا.

6. استطاعت لغة النصّ الروائي أن تتماشى مع الأحداث، وقد تنوّعت الأساليب وفقًا لمجريات الرواية، حيث استعملت الكاتبة ألفاظًا عنيفة، وأساليب مؤثّرة، توحي بالألم والاضطهاد، إلى جانب تعابير استعلائيّة، وأساليب توحي بالعنف والتسلّط، مازجة بين اللغة الفصحى، التي استلزمها النصّ الإبداعي، وبعض التراكيب من البيئة المحليّة التي تشي بواقعيّة الأحداث.

7. يظهر من خلال تتبّع مظاهر العنف في رواية قوارير خاوية أنّ المجتمع الليبيّ سواء في القرية، أم في المدينة، يعطي الأولويّة للذكر بحيث لا يعير المرأة أيّ اهتمام، فهو مجتمع ذكوريّ تحكمه أعراف وتقاليد تقدّس السلطة الأبويّة التي تهمّش المرأة، ولا ترى فيها إلاّ آلة لإنجاب الأطفال، وإشباع الغرائز الذكوريّة.

8. إنّ قضيّة العنف الأسريّ والمجتمعي التي تعالجها هذه الرواية، قد أخذت مظاهر متطرّفة تصل إلى حدّ الضرب المبرّح، الذي يسبّب الجروح والإغماء، ما كان له آثار نفسيّة على النساء المعنفّات في الرواية، وأنّ هذا العنف ولّد الرهبة والخوف التي دفعت هؤلاء النسوة إلى الطاعة والخنوع، سواء كان المعنّفُ مصيبًا، أم مخطئاً، وأنّ هذا العنف يمارس ضدّ المرأة باعتبارها سبب الفساد، ورأس كلّ شرّ يمكن أن يحدث للأسرة والمجتمع؛ ولذلك لم نجد عبر أحداث الرواية أيّ مظهر من مظاهر التمرّد ضد هذا العنف، أو محاولة للتخلّص منه.

9. أنّ الأعمال السرديّة النسويّة أقدر على الغوص في خبايا الوضع الاجتماعي للمرأة باعتبار أنّ المرأة هي الأقدر على تصوير واقعها، وهي الأصدق في نقل آلام وجراحات بنات جنسها، وقد نجحت رواية قوارير خاوية إلى حدّ بعيد في التنبيه إلى كثير من المغفول عنه في الأدب العربي، فقد استطاعت الكاتبة أن تجسّد صورة الواقع المعيش الذي تتعرّض له المرأة في مجتمعنا العربي، من عنف وقهر واضطهاد، على المستوى الأسري، وعلى المستوى الاجتماعي، وهي بتناولها لهذه القضيّة اقتربت من الواقع بدرجة تجعل القارئ يشعر بأحاسيس الكاتبة المبنيّة على نظرة عميقة إلى الروح الإنسانيّة.  



0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم