قراءة نقدية في رواية في ديسمبر تنتهي كل الأحلام للسعودية أثير عبد الله النشمي

حيدر عبد الرضا

توطئة :

أن ما يثير اهتمام القارئ الروائي في عوالم روايات الروائية السعودية أثير عبد الله النشمي، هي محاور و وظائف روايتها موضع بحثنا ( في ديسمبر تنتهي كل الأحلام) عبر ذلك الأنموذج المقترن في غياهب المعلن و المصرح من بنية مدار التمكين السردي، فالبعض من المواقع الشخوصية من الرواية، أخذت تقدم لنا ذاتها في صيغة من الحكي المقارب في خطية نمو تصاعدي و استرجاعي، فيما أخذ البعض منها متمسكا بوظيفة الجنوح في خفايا التواصل و الانقطاع من ذروة الكشف و اللاكشف في موثوقيات متخيل النص .

ـ الوحدات السردية و تمظهرات الخلفية الروائية

في مستهل العتبة الأولى من النص، يكشف لنا الضمير السارد عن جملة كيفيات و مبررات و مميزات تلك الشخصية الأكثر نزوعا في ملفوظها الكينوني و الدلالي عن باقي شخوص الرواية. فالشخصية هذام هو أحد شخصيات الرواية المركزية والأكثر إيغالا في محكيات أحوال وأخبار الرواية، لذا نجده غالبا ما يشكل في ذاته، ذلك الفاعل المتكفل بوظيفة الحكي، نقلا عن خطاب موضوعة النص بكافة تعلقاتها التأشيرية و اللاتأشيرية. فيما تبقى وحدات الحكي بادئا في الرواية، كحال يقوم السارد المشارك بتقديمها كمقدمة تمهيدية تتحدث عن تلك المرأة المسماة (ولادة) و كأنها مظهرا مصاغا في مستوى من المهيمن على تفاصيل حياة الشخصية هذام : (تدهشني كثيرا هذه المرأة .. تدهشني فوضويتها في الحياة جنوح مشاعرها.. و اللاشيء الذي يربطها بأي شيء أو أحد .. لست أعرف إن كان هذا هو ما يغريني بها .. ما أعرفه جيدا هو أنها امرأة استثنائية . / ص11 الرواية ) و على هذا النحو من التدقيق في موجهات الفضاء المغلق للمرأة، تتكون لدينا دوافع عن تلك الشخصية ولادة الصابئية، كحالة قريبة من النمو المضمر بالنسبة إلى توالد مواقف الرواية الأخرى في كل مكشوفية و محورية بينة . غير إن حديث السارد عن فضاء هذه الشخصية الأنثى، تنبثق في سيرورة متوترة و متماثلة إلى مظهر و مدلول (الفضاء المغلق ) الذي من شأنه عدم الكشف عن مواقف هذه الشخصية بصورة الحضور الممنوح جهرا في مركب السرد . و عندما نتمعن في كمال هذه الشخصية التي غلبت لب الشخصية الساردة في النص ( هذام ) نجدها شخصية ذات مواضعات حادة في الذكاء و الحنكة الحجاجية، وصولا منها إلى ذلك الأنموذج الذي لا يتاح في متناول اليد و الطلب دائما، بل إنها امرأة زئبقية مشرنقة في كوامن وجودها العصي على اللمس المادي و الزمني من قبل هذام، وهذا الأمر ما جعلها في حدود الكيفية الاستثنائية في أمر مطالب الشخصية هذام نفسه :  ( أعرف أن هناك ما يربطنا ما يبقينا مشدوهين إلى بعضنا بعضا على الرغم من مرور كل هذه المدة .. هناك انقلاب عنيف , جنوح صارخ .. أحلام محرمة، و لغة ثائرة تجمعنا .. أنا و هي الجانحان بشدة، الثائران بغضب، المتمردان بلا حدود .. الباحثان عن شيء لا يدركانه بلا خريطة و لا خريطة و لا أدنى فكرة / كيف أحبها بكل هذا العنفوان من دون أن أعرف عنها شيئا ! .. و كيف لا أعرفها عنها شيئا و أنا أعرف منها و بها كل الأشياء . / ص13 ) و يعتبر الفضاء المغلق في العلاقة السردية ما بين ثنائية ( الأنا / الآخر ) بمثابة الولوج إلى التفاصيل المسكوت عنها في مبئرات هذه الشخصية السرانية، و ينتقل السارد في الحديث عنها طويلا، و بطريقة بادئة للإنكسار و الاحباط و الهزيمة أحيانا في مركب ملء فجوات غياباتها عنه و إلى فترات غير محسومة من زمن الإقرار السردي في الرواية : (كلانا يفضل أن يبقى الآخر شهيا بغموضه، مثيرا بكونه مجهولا .. كلانا أحب هذه اللعبة، و غرق في الآخر حتى النخاع بل هذا الكم من الشغف و الحب و التوق .. بلا ماهية تميزنا .. ولا قانون يحكمنا .. ولا أسماء نعرف بها . / ص13 ) .

1ـ سلطة الآخر و حتمية المتخيل :

و بسبب الجهر بالعوامل السلطوية التي مارسها الآخر الأنثوي في حق أنسانيته المفرطة، غدا الشخصية هذام كعلامة و ظاهرة لإسترجاعات الأفعال و المواقف مجرى في التغييرات الأحداثية التي أولت به إلى أقصى غايات ( حتمية المتخيل ) في مسببات تفكيك واقعه الشخوصي العنيف بحدة ألم التقصي و البحث في خيوط التداعيات الاسترجاعية من زمنه السردي المطروح حاضرا : ( حينما جئت لندن حول قرابة التسعة عشر عاما .. جئتها هاربا من كل شيء .. من أن يشارك عشرات الأشخاص في صنع قراري رغما عني .. غادرت الرياض في قمة الغليان السياسي و العسكري .. أثناء حرب الخليج و قبل تحرير الكويت بقرابة الشهرين شعرت وقت ذاك بأن القومية و القبلية و الدين ما هي إلا أكاذيب، أنا الذي كنت قوميا حتى النخاع ! . ص33 ) على هذا النحو من الأفكار و المواقف و الأداة، تعرفنا على الشخصية هذام و منذ بداية حياته في الحب و الكتابة و نبذ موروث الأفكار الأولية الناتجة عن قيم الاحاسيس الشخصانية المتحررة لديه و حتى حكاية حبه الأول ولقاءه بزميلته ليلى في الصحيفة : ( مرور ليلى لم يكن في حياتي عاديا، أعرف اليوم بأن لقاءنا قد غير مجرى حياتي كليا .. معرفتي بها أدت إلى أن أكون ذلك الشخص الذي أصبحته الآن، الاصطدام الذي حدث بيننا منذ اللحظة الأولى التي إلتقينا فيها في أحدى أروقة الصحيفة . / ص34 ) طبعا الروائية عبدالله النشمي كحال قريناتها من الأديبات في الخليج، تسعى في أحداث هذا الجزء من روايتها، إلى إثبات أحقية حقوق المرأة بالموازاة مع حقوق الرجل، وهذا الأمر كثيرا ما وجدناه راسخا في رواية الأدب النسوي في الخليج و السعودية بخاصة، وهذا الأمر ما قاد الأحداث السردية نحو سلسلة من النزاعات الجسيمة في محاولة المرأة إلى إثبات مساحتها القانونية و الاعتبارية في بنية المجتمع السعودي : (شعرت بأنها بحاجة لمن يساند حقها في المشاركة بالحياة قبل العمل الصحفي .. فدافعت عنها في أجتماعنا الأول حينما أشار أحد زملائنا بصورة غير مباشرة إلى أن المرأة التي تغادر منزلها لتزاحم الرجال في أعمالهم لن تكون إلا امرأة من أثنتين، فأما أن تكون ساقطة، و أما أن تكون مسترجلة و العياذ بالله ! . ص37 ) و تبعا لهذا تخبرنا الأحداث في الرواية، عن كيفية خسران الشخصية هذام كل صداقاته مع أقرانه من الرجال العاملين في الصحيفة، و لكنه تمسك بعلاقة مثالية مع ليلى و كان امتدادها خلق حالة جديدة في شخصية هذام، ما جعلته شخصا متوغلا في عوالم المطالعة للثقافات و المعارف الفلسفية، و إلى حد ما يمكننا الأشارة حول تطورات العلاقة ما بين الأثنين، حيث لم تكن محض دوافع شهوانية بل إنها علاقة منزهة من الانحدار نحو رذائل السلوك و الأخلاق العامة و الخاصة : ( لم تكن كأي علاقة بين رجل و امرأة في مجتمع كمجتمعنا، لم تجمعنا الشهوة و لا الحب في البداية، الحياة هي التي جمعتنا، تساؤلاتنا .. شكوكنا .. أحلامنا .. إلا أنني أحببتها كثيرا .. كنت أشعر بأنني أغرق في بحرها تدريجيا يوما بعد يوم حوارا تلو الآخر . ص42 الرواية ) .

2 ـ بلاغة الفقد و الفقدان في ديسمبر :

توافينا في السياق النصي انطباعات الفقدان نذيرا يمتلك منه الشخصية نهاية المطاف حيوية علاقته المتبادلة مع ليلى، ولكن هناك يبقى ذلك الحائل في إتمام عملية الزواج ما بين الطرفين . يخبرنا السارد المشارك عن قضية إستحالة عقد الزوجية ما بين هذام و ليلى، وذلك يعود إلى اختلاف المفكرة العائلية ما بين الأثنين دليلا على تزايد الحس القبلي على عادات و سلوك العوائل المتخاصمة فيما بينها أو المتفارقة فيما بينها طبقيا، و هذا الأمر ما أحدث كل الاستحالة على حدوث الوصل ما بين الطرفين : ( لم تكن ليلى تناسبني ـ قبائليا ـ و قضية القبائلية هذه هي المأزق العاطفي الأكبر الذي لن يتمكن أحد من الخلاص منه إن وقع فيه .. هذه القضية لا حل لها مهما أمطرت السماء من المعجزات .. لكن الحب يجعلنا نتمسك بسراب الامكانية، بوهم المعجزة . / 34 ) تتداعى الصور بالأحداث مع السفر المستحيل في رسم قناعات كل من الاثنين مع بعضهما البعض في التوحد بصوت المقاومة و بمصارعة رفض و شجب إتمام حلقات هذا الحب من أطراف عائلة هذام و عائلة ليلى، ربما كان أصدق الانسحاب من طرف هذام عن مدار حبه لليلى، بعد وصوله إلى خيار الهزيمة إزاء ذاته و سحقها مرات و مرات، لأجل بدء حياة موفقة لليلى مع حياة أخرى لرجل آخر تتوافر فيه شروط الملاءمة القبلية المزعومة : ( أدرك جيدا بأن تركي لليلى لم يشفع لي كثيرا عند عائلتي، لكنهم حاولوا أن يدعوا ذلك حتى لا يخسرونني، فتعاودني فكرة الزواج السابقة / طلبت مني ليلى أن أتناسى ما حدث، و أن نتعامل مع بعضنا كصديقين . / ص46 ) و بعد هذا الفاصل الموحش من دوافع خيبة تحقق الزواج بين الأثنين، توافينا الأحداث اللاحقة من الحكاية الروائية، عن فكرة ليلى و صديقاتها في إقامة انتفاضة نسوية، تطالب بحقوق المرأة السعودية في قيادة السيارة، و قد تجر هذه المظاهرة حالات أكثر تعقيدية على مصيري هذام و ليلى و باقي صديقاتها في التظاهرة، لدرجة وصول الأمر إلى حجز كل من كان في المظاهرة في مخفر الشرطة : ( لم يفعلوا شيئا يا هذام، اتصلوا بأولياء أمورنا .. و جاءوا لاستلامنا و كأننا طفلات أو سفيهات . / ص59) و آخر ما يصلنا من نهاية مطاف العلاقة بين ليلى و هذام، ذلك الحوار الصادر من جهة ليلى، جاء بعد خيبة هذام من عدم استطاعته تصوير المظاهرة على شريط فيديو الكاميرا خوفا من سيارة الشرطة التي داهمت سيارتهم التي كانت تقودها ليلى حينذاك في التظاهرة : ( متى تتحرر من حالة الجبن هذه يا هذام .. صدقني لا معنى لحياتك إن كنت ستعيشها مكبلا بالخوف و الضعف و التقليدية ! . / ص61) .

ـ المبنى الروائي و تداعيات السياق النصي .

إن عملية القراءة إلى مسار السرد في رواية أثير عبد النشمي موضع بحثنا، لعله يعاين حجم التداعيات في مبنى و متن السياق النصي في مستوى التخييل و مبذولات العلاقة التبئيرية في وحدات النمو السردي، لذا فإننا وجدنا أغلب اللحظات الفاعلة في مشاهد الرواية، تتركز في أتون مرحلة مواقف الشخصية هذام في لندن، إلى جانب علاقته الهالكة و المتلخصة في سر و أسرار الشخصية ولادة، كما أن مجمل علاقات الشخصية هذام بصديقه جهاد و زوجته مادلين، كانت بمثابة حلقات من التأثيث و التشكل في مسرى المبنى من حكاية الرواية، ولذلك فهي تبقى في مجمل خلاصتها كحالة إطارية من مؤطرات الصورة السردية من فضاء النص الروائي : ( مادلين وجهاد لم يكونا بالنسبة لي مجرد صديقين، كانا بالنسبة لي العائلة بالغربة و الانتماء و المرجع الوحيد الذي أود إليه .. في بيتهما أشعر أنني في بيتي، أعرف مكان كل شيء . . و كل شيء في بيتهما يعرفني . / ص87 ) و على هذا الأساس تبقى علاقة هذام بجهاد و مادلين، كوظيفة تعويضية في حلقات الغربة عن أجواء الوطن و التفاعل مع مدارات فقدان حميمية الدفء الأسري .

1 ـ تمويه فضاءات الآخر الشخوصي و الغور في تفاصيل الأسترجاع :

هكذا علمنا من خلال مشاهد الأحداث بقرار هذام بالسفر إلى لندن مقيما بعد أن حاز على عقد عمل في صحيفة لندنية، فيما أصبحت تفاصيل الشخصية ليلى تراوده كتداعيات من أحلام تلاقي مراتع التذكر و الذاكرة، تحفظ صورها و مثيلاتها من أحداث الماضي، لإثبات أفق من الزمن التقاسمي، المتنامى بين محصلة التكوين الفاصل الزمني و تواتر غايات المسرود العرضي من التشخيص الوصفي لأحداث الرواية . كما لا يخفى على القارىء تفاصيل لقاء هذام بمعشوقته ولادة، التي كنا تطرقنا إليها بادىء ذي بدء في العتبة الأولى من دراسة مقالنا، والآن هو دورها في سياق معاينتنا الحالة، خصوصا و أنها ذلك المكمن الذي غدا ينجذب إليه هذام و بكل محمولات و خلفيات عاطفته و هواجسه المقبلة عليها و بأكثر من علامات الهوس و الجنون في الحب : ( لا تزال الخيبة تملأ نفسي على الرغم من مضي عقدين مررت أثناءهما بمئات الخيبات ! .. وقد تكون ليلى امرأتي الأولى التي لن أنساها يوما .. لكن حبيبتي المجهولة التي جاءتني فبراير 2009 حب عمري بلا جدال ! .. و لا أعرف أن كان مجيئها في فبراير هو استحضار لقناعاتي السابقة، أم أن العشق فعلا لا يولد إلا في فبراير الملتهب .. شهر العشاق .. لكن الكآبة بدأت تتسرب إلى نفسي مبكرا .. أشعر بالخوف يخنقني أكثر كلما أقتربنا من نهاية العام، شيء ما ينبئني بأنها ستختفي في ديسمبر . / ص63 ) لا شك أن التفاصيل المثيرة في مسار الأحداث المتعلقة على صعيد تلك المرأة الخارقة تذكرنا بأجواء قصص و روايات العملاق الروسي إيفان توروغنيف، ولكن الاختلاف ما بين العالمين، هو إن دلالات الحبيبة في قصص الروسي توروغنيف كانت غير محددة و غير خاضعة لمجالات من التقاويم الزمنية، أما الحال في شخصية هذام و حبيبته كانت محددة ضمن التجهيز الزمني الذي من شأنه خلق حالة تبدد لموقعية موضوعة الحب تماما . على أية حال نعود إلى هذام و إشكالية افتتانه بتلك الجميلة على حد تعبير الرواية، و لا يخفى على القارىء بأن الكاتبة عبد الله النشمي، قد أجادت في تصوير مظاهر العشق و الحيرة و القلق و التيه جراء انقطاعات تلك الأنثى الأخاذة في مجيئها إليه في المكان المخصص للمواعد بينهما . و قد لا يتعلق الأمر هنا بخصوص حالة رغبوية ملحة من لدن هذام أو ولادة عندما يجمعهما ذلك النزل و الله أعلم، بل أن الحب بينهما أضحى علاقة نادرة و منزهة عن منظومة الافراغ و التحميل و تفاصيله العقيمة : ( من يصدق بأن رجلا مثلي، رجل قدري .. بات يقضي لياليه باكيا على أريكة مشربة بعطر امرأة لا يعرف حتى أسمها .. الأريكة التي أصبحت كهفي منذ إن نامت عليها هي، منذ أن تلطخت بأحمر شفاهها و تشعبت برائحتها / من قال بأن الحب يمنحنا الحياة ؟! الحب يجتث الاستقرار منا / و أنا احتاج لأن أطمسها من حياتي كليا، أحتاج لأن أنتزعها من تأريخي / لكنني أدرك جيدا بأنني لن أقدر يوما على أن أفعل هذا .. هذه المرأة عندما جاءت .. جاءت و هي تدرك بأنها ستخلد في داخلي، جاءت و هي واثقة بأن مثيلاتها لم يوجدان يوما . / ص103 ص104 ) و لنتأمل قليلا في علاقة عناصر ( المؤلف الواقعي ـ المؤلف الضمني ـ السارد المشارك ) لنواجه أولا وضعية المؤلف الضمني في النص السردي و بموقعه في الاستباقات التي من شأنها تأويل المستقبل الخطي للنص، و حقيقة الأمر أن الاستباقات السالفة للمؤلف الضمني عالجت نمو الحكاية و أشرفت على تأويل النص و إعادة أكتشافه من قبل السارد العليم، و من هذا المنطلق صار السارد المشارك يترك للقارىء حرية اسقاط الدلالات التي يراها ملائمة في مساحة موضوعة الرواية، و لا شك أن استرجاعات بعض الأحداث تعود إلى المؤلف الضمني، حتى أنه ليكشف لنا عن جوانب خفية من شخصية ولادة، ضمن زمن صوت السارد المشارك الآخذ بزمام السرد إلى الوراء حيث موقف اللقاء الأول بينهما : ( ضننت بأني نسيت هاتفي المحمول في مكتبي .. فخرجت منها مسرعا .. كان الجو ماطرا و لم أكن أحمل مظلة معي فركضت تحت المطر، و عندما ظهرت لي فجأة من شارع جانبي صغير . فاصطدمت بها بقوة .. تناثرت أشياؤها على الأرض و كاد كل منا أن يقع لولا أننا تمسكنا و ساعدنا بعضنا بعضا على الثبات . / ص114 ) و قد تعددت مهام المؤلف الضمني برسم مبررات حالة التصرف الشخوصي من قبل الشخصية هذام و بما يلاءم حالة المكان و الطقس، كمعادلان في موضوعة صدفة اللقاء الأول بين هذام المرأة . و هذا النوع من البعد العاطفي و النفسي في طقوس الاصطدام الأول، هو بمثابة القدرة التي قام بها المؤلف الضمني / السارد المشارك على تفعيل آلية الانجذاب و التكيف ما بين الطرفين، بخاصة و أن قابلية المكان و الطقس باتا شكلان مغايران في تحقيق سرانية الولوج من كلتا الطرفين في أتون الغالب من المؤثر و التأثير .

ـ أبعاد مشكل المكان و تضاعيف حالات المتخيل .

المكان الفني يحتل في ذاته أهمية خاصة في تشكيل أواصر و علاقات الأطراف الشخوصية في المواقف و جملة أرتباطات المساهمة التفعيلية لإغراض خلق حالات التثوير العاطفي : ( لملمة أغراضها و أنا أعتذر و هي تجيبني بالانجليزية لا بأس لا عليك ! أنا أيضا لم أنتبه إليك .. استوقفتني الكتب التي كانت تحملها بالانجليزية لنيتشه .. و ملحمة جلجامش بالعربية .. عندها رفعت عيني إليها، و التقت عيوننا فشعرت بالحياة تجتاحني .. خيل إلي أنني أشعر بروحها تغادر جسدها و تتلبس جسدي .. ظللنا قرابة الدقيقتين نتأمل بعضنا بعضا على الأرض و تحت المطر من دون أن يرمش لنا جفن .. سألتها بدهشة و بالعربية : ـ أألتقينا قبلا ؟ أجابتني بعينين لامعتين : ـ أظن بأننا فعلنا ؟ : ـ متى ؟ ـ في عصر ما : ـ أتؤمن بالكراما ؟! : أظن بأنني بت أؤمن بها . / ص114ص115 ) و ينحو البعد العاطفي و النفسي في الأحداث الروائية، منحى مغايرا و متطورا، خصوصا بعد تبادل أحاسيس الحب من طرف هذام إلى هذه المرأة التي لا تحسب مشاعرها الغامضة في الحب، و شيئا فشيئا تبدأ مسرات اللوعة باللوعة، و اللهفة و اللهفة مقابل فعل لهبة مغتصبة من طرف الشخصية الصابئية ولادة : ( أخذت أتأملها تحت عامود الإنارة الذي كنا نقف بجواره .. بشعرها الأسود المبلل .. و عينيها السوداوين اللتين كانتا تجاهدان للبقاء مفتوحتين تحت إنهمار المطر / و خلف ظهرها حقيبة جلدية سوداء خاصة بحمل آلة الكمان . / ص115 ) في الواقع أن الرواية حافلة و محفوفة بالحوار و المشاهد الخاصة بتوطين حلقات التتابع في علاقة محاور الرواية، كما أنها وفرت إلى مساحة مؤول التلقي ذلك التنوع المتقن من أسلوبية فضاءات العبور و الانقطاع من محور العنونة المركزية الدالة في ديسمبر تنتهي كل الأحلام .

ـ تعليق القراءة :

تتبين في رواية ( في ديسمبر تنتهي كل الأحلام ) تلك الخلاصة الزمنية النذيرة بانتهاء حكاية كل حب و كل عشق في مكونات السياق التقويمي لهذا الزمن من نهاية كل عام ولماذا كان هذا الزمن مخصوصا لإيقاف و قتل هذه المعادلة الحلمية للحب أساسا ؟ نستدل في نهاية الرواية عن رحيل العازفة محبوبة هذام المموهة بعد نهاية حفلة موسيقية إلى رحيلها خارج لندن مع الفرقة، وهذا التوقيت الزمني سيظل بمثابة الإقرار بأن في ديسمبر تنتهي كل حكايا العشق : ( حاولت في الكتابة، حاولت أن أبتدىء مقالي أو أن أنتهي من روايتي لكنني لم أتمكن من كتابة أي شيء ،وعندما أمسكت المنشور المخصص للحفلة الموسيقية صدمتني صور أندريه ريو و صورة ولادة بفستان أسود يملأ الأعلاان بصورة تراجيدية مثيرة كتب في الأعلان : الفنان الهولندي أندريه ريو ترافقه الفنانة الهولندية ولادة رافد يودعان لندن بحفلة موسيقية يحييانها في آخر أيام الأعياد . / ص147 ) و على هذا النحو من المفارقة الفنية و العضوية تنتهي حكاية الرواية بعد نهاية أعماق قصة الحب في ذاكرة الصوت الوجداني الداخلي و الخارجي للشخصية هذام : ( و في طريقي  شاهدت امرأة تعزف الكمان على ناصية الشارع، وقفت أستمع إلى ألحانها و أنا أفكر في التي عزفت أحزانها و غابت . / ص181 ) و في هذا السياق من النص الروائي الختامي، تكون قد حققت الكاتبة أثير عبد الله النشمي ذلك الأنموذج الذروي في أقصى درجات خطوطه الامتدادية في قلب الدراما الحاكية، و لعل رواية ( في ديسمبر تنتهي كل الأحلام ) أكثر ما تنفرد به أعمال هذه الروائية العربية في سمات الأفق الروائي المتفرد في الصلات المتواترة و المتقاطعة، وهذا بدوره ما جعلنا نلمس أمتزاج صوتي المؤلف الضمني و السارد العليم معا و لا يتراجع منا ذلك الوعي و الاحساس بالجدوى النأي و الانفصال و الإحباط من الشخصية الروائية، إلا و ينصب في تفاصيل معنى سحرية المخيلة و بكافة هواجسها المستقرئة لإبعاد مواطن حسية رهانات الكتابة الروائية المحدثة في تجليات الفاعل السارد وهو ما بين متواليات المضمر من غياهب الأنموذج الآخر و متعلقات الكيان الزمني المأزوم من النص الروائي .

13250-7.jpg

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم