ناصر السيد النور

صدرت رواية الروائية التونسية المقيمة في فرنسا فتحية دبش (ميلانين) عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع – مصر - بورسعيد 2019 وحازت على جائزة كتارا في فئة الروايات العربية المنشورة في دورتها السادسة للرواية لهذا العام. وهي من الروايات التي تتقدم في رؤيتها السردية عما سادّ من سرديات عربية في الآونة الأخيرة، وتعد هذه الرواية ذات رؤية هجين على الرغم من توحد ثيمتها المركزية في سؤال الهوية، ومن ثَّم تندرج ضمن التصنيف النقدي الحديث ما يمكن أن يطلق عليه صعود رواية الهجرة والمنفى في ظاهرة جديدة تصور فضاءات مختلفة مشكلة لنصّ روائي بعيداً عن المجالات المطروقة والمستقرة بأنماطها الشكلية في التصور النقدي التقليدي. قدمت الرواية فئات وشعوب مصورة حيواتها في المدن الكوسموبوليتية وساقت من خلال فلسفة سردية غاصت في التجربة الإنسانية الأشمل في الفقد والحب والعنصرية، والصراع في إثبات الذّات والطموح الذي لا يغض الطرف عن وقائع التأريخ ونقائصه بقدر ما يسعى إلى كشفها ومعالجتها بإثارة الأسئلة القلقة. لقد واجهت الرواية عالمين بين منفى يفرض شروطه القاسية ووطن أصل له قيوده تشتد قسوتها ولو شدنا إليه نداؤه العميق. إنها الرواية التي كتبت بشيء من التجريب والتمرد وفي الوقت نفسه تأسست على تقاليد الخطاب الروائي. فكانت الرواية التي حين نقارب منطقها السردي نستدرك القوة الكامنة في كتابة الرواية كخطاب وحيد أو أوحد في مجابهة العالم برؤية شاملة وتفسير ظواهره كهويات متقاتلة أو حضارات غارقة كما كتب أمين معلوف. 

الهوية السردية: (المدخل والعنوان).

أن تتحول الهوية إلى شخصية روائية محللِّة عبر أحداث مخلقة من عوالم الرواية، فإن ذلك يضعها على مستوى نقدي تفسيري آخر؛ بمعنى أن الرواية نفسها ليس حصراً على التعريف تتعامل مع شخصية أو شخصيات تركيزاً على أبعادها التي تمنحها صفة الهوية والشخصية معا في النسق السردي. وفي رواية ميلانين التي تتخذ من عنوانها من أحد مكونات الهوية الكيميائية وعنصراً هاماً له انعكاساته في رسم أو التعريف بملامح الهوية. ومثلما يشير العنوان عبر إشاراته الموحية بالغة الدلاَّلة إلى مضمونه محتوياً على تكثيف جوهر مضمون الخطاب السردي يفصح أيضاً عن اتجاه المعنى المتوقع. فالعنوان دليل مادي خارجي يحيط بالنصِّ Paratext وفي الوقت نفسه يكون جزءً أصيلاً منه بتعريف جنيت جيرار كمقدمة إيضاحية. استطاع الروائي نقل واستخدام الحساسية التي تنبعث من ثيمة بيولوجية (مادة الميلانين، اللون) وما تثيره في ذهن المتلقي للوهلة الأولى، فليس هناك أدعى من تحديد الإطار التصويري بجلاء واضَّح، وهو قد لا يثيرنا أو يدعونا إلى التملي والتفكير لفَّك رمزية العنوان! فالعنوان قد اختزن واختزل من ورائه علامة رمزية بينما بقيت التفاصيل مخبأة في ثنايا النص. إن الهوية لا تعرف نفسها إلا من خلال هويات أخرى. فالهوية في النص الروائي لا تفارق حالتها الوجودية في تفسيرها لدى النسق الهويوي للآخرين وتصوراتهم القائمة بفعل الوجود نفسه الذي يقهر الشخصية في الهوية دون اختيار لأن النسق الوجودي يتقوم على الاختلاف في تحليل الهوية لدى النسق الآخر.

ثمة روايات حاولت أو اصطدمت بالبحث عن هويتها في مواجهتها للأنساق الاجتماعية الثقافية المغايرة كما أجلتها الكلاسيكيات السردية في رواية (عصفور من الشرق) لتوفيق الحيكم أو رواية الطيب صالح الأشهر (موسم الهجرة إلى الشمال) في القرن العشرين، إلا أن رواية (ميلانين) تستعيد من مدخل آخر صورة سرَّدية موثَّقة بأحداثها التجريبية ترَّسم عالماً يترآى منعكساً على هوية مكتشفة. وتعدُّ رواية ميلانين من روايات المنفى وسرده-؛ الاغتراب والإحالة إلى حالة إنسانية متخَّيلة ومفترضة في فضاء المكان والذَّات، والتحُّول إلى فضاءات إنسانية مشتركة لكنها متضَّادة في الوقت عينه. تقرأ الرواية في تجاوز لنقد رواية الآخر إلى رواية الهجرة والنزوح واللجوء، موجة سردية تبحث في مطلق الانطلاق عبوراً لقارات ومجتمعات إلى هويات مركبة. وتأخذ الرواية بأقصى -ربما- تعريف للهوية في عالم لا ثوابت فيه إلا بمقدار ما يمنحك من هوية منتزعة من خصائص الذَّات ونقائضها، وموروثات جينية تتضح صورها عندما تتكشف أمام هويات أخرى. وهنا برزت هوية ذَّاتية (خلفية الراوي) تثير كوامن موجعة في الذاكرة وتؤثر خلالها تكونها الجدلي التمركز حول الذات.

يوميات سردية:

كًتبتْ الرواية اختياراً منجمة كدفاتر يوميات عبر أيامٍ خمس تسجل وقائع الحياة اليومية في باريس حيث لجأت الروائية بصوت راوٍ عليم بصيغة السرد الذاتي Self-narrative، ومثلما تتباعد مسافات السرد تقترب بدلالات المكان ووحدة الصوت المتداخل والمتسلسل مع الأحداث المتواترة التي أبرز ما استطاع النص الروائي التحكم به في خضم الأحداث، أي البنية السردية. وما رسمته الهوية سردياً بالتطابق بمفهوم الهوية الفلسفي والهويات مقترنة بالوجود اقترانها بالشخصية الروائية. ويشير المدخل الافتتاحي في الرواية كشهادة توثق وتصف إلى ما يقودنا إليه النص والذي كما تؤكد الروائية بأنه نص لا يصنف كسيرة ذاتية، ولكنها سيرتنا، أي هؤلاء بقول الراوي: القادمون والمتحولون في الهوية: " هي سيرة كلّ الذين دحرجهم التّاريخ من ذات شموس إلى ذات ثلوج أو العكس، وللآخرين الذين تغويهم الإقامة فيعتقدون أنّ المتحوّلين في الهويّة وحدهم القادمون من هناك". فالسرد لا يستقل عن شخصية الروائي، ولكن قد يكون عاملاً موضوعياً في رؤيته وتأويله للأحداث وإن لم يستطع الروائي بالتالي نزَّع شخصيته عن النص؛ ومن هنا نواجه نصاً بما يفترضه الخيال السردي والصور المركبة عن وقائع تقرب من التأريخ وتبعد عن حرفيته لكنها اتسعت له رؤية النص السردي في تصوير ما حدث. فخاطبت الرواية الهويات المتعددة وذَّوبتها ضمن سياقاتها السردية تلك الهويات الغائبة منها في التاريخ أو الحاضرة والمستعادة في النص والمتجسدة في بنية الرواية. غالباً ما تبادر الشخصية بالظهور في مداخل النص الروائي بالوجود المنطقي، وإن لم تدل – بالضرورة – على ثنائية الفكر والوعي، كمتلازمة لتعريف الشخصية في واقعها الطبيعي وحاجتها إلى الوجود كخلفية تاريخية لتطور الشخصية في واقع الحياة، أو في النصوص، ولا يعني بحال تقديم شخصية روائية غير مدركة أو مسطحة بالمفهوم النقدي لنموذج Character الشخصية الروائية، ولكن هناك دائما حالة شخصية Persona متكاملة وهوية ذاتية Identity تتخذ من فضاء السرد واجهة للتجلي ذات معاني مترادفة للشخصية أو علامات لفظية تدُلّ على طور الشخصية في الذاكرة وظهور متعدد الأوجه كفرد في التاريخ أو شخصية ذات ملامح لا معيارية. فالشخصية الروائية هي ما يمنح النصّ بنيته، ويوسع من دائرة حضوره كنص ناطق بالأصالة عن إبداع الكاتب. ولم تتجه هوية الشخصيات في الرواية إلى الاختباء من وراء المجاز بديلاً عن واقعها فعمد الراوي إلى التمركز على مسافة تطابقت مع هوية الشخصيات حتى تلك التي احتلت وضعاً هامشياً في تفاصيل الأحداث. ومن خلال موقعه تمكن الراوي من النفاذ إلى طبقات هوية الشخصيات ولكن دون مباشرة أو تأطير ضمن بلاغة المقموعين في الوصف السردي.

وإذا المكان في الحدث الرواية كما الوصف وما يحدثه من مفارقة بين المكان (القرية) والمدنية المهولة (باريس)، وتمُعَن الرواية في الوصف، وهنا بصوت الراوي ترتسم خرائط المكان وتمدداته في الجغرافيا والوصف الأنثروبولوجي ما بين ثقافة تمثل هوية حقيقية وأخرى متوغلة في منفى بديل يصطدم بسؤال اللغة أبرز أسئلة الهوية وتناقضها بين عربية لا تبين ملامحها بينما ينطق به لسانها. ففي حوار الراوي صديقها نيكولا تتواجه الهويتان تلك المتنحية تبحث عن أصالة انتماء، وأقليات هويات مندمجة وأخرى تأبى على الدَمَج على أسس عقدية وما تحمله معها موجات الهجرة من مفاهيم وعادات متباينة. هذا الزخم (الهويوي) احتل حيزاً مقدراً من مساحة النص حتى كاد أن يكون ثيمة مجردة عما يعلق بها من أحداث تضيف إلى بينة النص الروائي. ولكن تعدد مستويات الهوية عندما تقرأ سردياً، حيث تماسك النص متسانداً بالسياقات المحايثة، بمعنى أن هوية المكان لها تفاصيلها وشخصيتها غير تلك التي للشخوص؛ أو كما أشرنا إلى الهوية بوصفها سؤال الرواية. فالمكان بغير وصفه النقدي التقليدي السيموطيقي (علامة)Semiotic كفضاء تجري عليه وقائع الأحداث، يدهشنا المكان هنا بصراع من نوعٍ آخر له محدداته وملامحه التي تشكلها هويته ويتخذ هويته الشاخصة. وتفسر الرواية كيف أن لكل هوية مكان ودين وتاريخ فمن خلال شخصية نيكولا دوران الطرف الآخر للهوية التي تحلم بنقاء عرقها ودينها وبلدها تتجسد هويات الرواية مفضوحة في ميولها ورؤاها تجاه الآخر الغريب.

وإذا عدنا إلى سياق تسلسل الأحداث التي وقعت ضمن تسلسلي كرونولوجي لأحداث متواقتة في أحداثها اليومية التي تسجل منذ اليوم الأول وتمتد إلى اليوم الخامس في تلك المدينة (باريس) حيث موطن الراوي وما يؤرخ له من أحداثٍ بعينها في الزمن الطبيعي، كأحداث ثورات الربيع العربي واضطرابات باريس بتاريخها واحداثها المعلومة. إنها الانطباعات التي تداخلت مع كل ما جرى في العالم الجديد الذي يشكل نصاً داخل النص في ملف شخصية (رقية) التي سيكون لها دورٌ في أحداث الرواية، تلك الشخصية المسحوقة المهاجرة التي تنتهي حياتها بحادث مأساوي ولكنها تحمل الكثير في طبقات حياتها وتفاصليها. وكيف تتحول الكتابة داخل الكتابة إلى مبرر لإنقاذ كما تقول الراوية: "إنصاف نفسها وانتزاع هويتها من ثُّم إنصاف رقية المنكوبة". عبر جدل نقدي كثيف تمارس الراوي وتسقط مفاهيم الكاتبة بإضاءة نقدية متكاملة وهي تحاور نصها بين مفهوم رولان بارت في موت المؤلف وقتل بطل رقية وقتل القارئ! وتصدر الراوي ما يمكن أن يكون أبلغ تجربة في الواقع الحقيقي للكتابة حين تدرك أن الكتابة: "لا تلين أبدا للعقلاء، فهي تحتاج ملح الجنون وسكّر الدّهشة ودقّة الهدّاف واتّساع الفكرة، وقرّرت أخيرا قتل قارئي واستفرادي بالكتابة قبل أن يبعث من مرقده ويقتلني". وتتناص الرواية في زحفها نحو مقارنة الهويات التشكل الكتابي مع نصوص سردية أخرى برعت الرواية في توظيفها بخبرة كتابية كبيرة تقَّوت لغة الرواية بإشارات واقتباسات تداخلت مع نصوص سردية كرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) وغيرها من خطابات تتفاعل وفق سياق التناص.

ويستمر سرد وقائع الأيام في الرواية راصدة مأزق الراوي في مواجهة أشكال أخرى من الهويات في الدين والأقليات والمأزق الوجودي في سؤال الهوية حيث تداخل الهوية والدين والبطالة والعرق في مجتمع الضواحي Les banlieuesوكيف أن تنميط الهويات في المنفى يُفجِّر أسئلة في الذات لها بعد ميتافزيقي لا يقتصر على الواقع الأرضي حيث صراع الوجود الفعلي. وجسدت الرواية هذا المعني الكلي للهوية حين تقول: " الهويّة لا تتحوّل، هي ما توارثناه وحفظناه، هي ديننا ولغتنا وأرضنا... وكلّ منغرس في هويّة جديدة لا يعدو أن يكون منبتّا انبتات البعير المعبّد!" ويتنقل سؤال الوجود المستبد حين يسائل الراوي ذاته عن الحكمة من فعل الابتلاء الإلهي! إنها الهوية المنسية حين تظل في ثباتها الهامشي، فها هي في فرنسا توصف بالأقلية وفي تونس بلد المنشأ غير مرئية، وذلك مبلغ قسوة الوصف، ودقته من مقاربة الظاهرة إلى تعيينها. هوية شخصية لورانس الفرنسية من صنف آخر من الهويات الممنوحة عن علاقات تبذر إلى وجود أشخاصاً ربما يحملون هوياتهم الخاصة في ذاكرتهم.

لغة الهوية:

تقترن رواية ميلانين بأحداثها المتداعية مواصلة حكايتها من تسلسل الأيام إلى ملفات وقصاصات، بتلك الطريقة اجترحت الرواية أسلوباً في تركيب كتابة الرواية باختيار يراهن على قدرة الكاتب في نظم سرد متحكم به مستعيناً بلغةٍ متجذرة في صياغتها البيانية؛ ولها تعبيرات منبثقة عن هويات لغوية بمفرداتها التي تحيل إلى هويات محددة. ولابد أن يتوافق – هكذا يبدو- اللغة ومجالها الوظيفي مطابقة للشخصية وموقعها في النص، وبما أن الرواية قد تعددت بؤر أحداثها وبالتالي اللغات المستخدمة بأصوات شخصياتها وبقدر ما حافظت اللغة على مستواها البياني اشتملت أيضاً على مفردات وعبارات محلية لضرورة السرد، بل وتَصُكًّ الرواية مفرداتها مشتقة من ثيمتها فرادة معجمية (التحيين الهوياتي) ولكن اللافت أيضا العبارات باللغة الفرنسية يليها ترجمة مفسرة للنص على غير المألوف في النصوص السردية العربية التي تستعين بالعبارة من اللغات الأجنبية.

 تظهر شخصية سهيل في ملف (رقية القايد) في رمزيتها كوطن مستعار في رسائلها إليه. في تلك الملفات تغادر الرواية إلى منطقة أخرى تستطرد في سياق نوستالجي وكل ما يمكن أن تقوله الذاكرة معاداً في صورٍ بدت معها بنية الروائية تعيد وتفلت من التكرار بخلق مساحات تتبدل حكاياتها. ودائماً ما ينحو السرد الروائي إلى الحوار بمفهوم الناقد الروسي ميخائيل باختين وكيف أن الحوار الداخلي يقترن بالشخصيات في تعدد صوتي مضافاً إلى النص؛ للمبدأ الحواري الذي تستمد منه الرواية خطابها الروائي قوتها في الاستمرار وتملك التصور في الإبقاء على شكلها وما استخدمته بتوظيف سردي متمهر مما جعلها رواية لا تلخص إلى نهايات بل فتحت أسئلة في رواية مفتوحة عبر تعدد شخصياتها بتداخلها الزمني الذي أحدثته الأحداث والأماكن والشخصيات.

إشارات مرجعية:

  • أمين معلوف هويات متقاتلة
  • -       ______ غرق الحضارات
  • ناصر السيد، رواية تيتانيكات أفريقية دراسة في البنية السردية ورؤيا العالم،
  • Mikhail Bakhtin, Problems of Dostoevsky’s Poetics.
  • Sayyed Ali Mirenayat, Gerard Genette and the Categorization of Textual

*   كاتب وناقد ومترجم سوداني.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم