فاطمة بن محمود

التقديم:

الكاتبة فاطمة بن محمود

عن مكتبة تونس صدرت رواية "مدن ولا سراويل" للكاتبة كلثوم عياشية طبعة أولى سنة 2019 امتدت على 240 صفحة من الحجم المتوسط، تحصلت الرواية على جائزة توفيق بكار التي تنظمها جمعية ألق الثقافية ومكتبة تونس في دورتها الأولى لسنة 2018.

عتبة العنوان:

"مدن ولا سراويل"

من خلال العنوان توحي لنا الكاتبة ان فضاء الرواية هو المدينة، ونحن نعلم ان بين الرواية والمدينة علاقة مهمة فالرواية هي بناء سردي والمدن/ المدينة هي عالم من الحكايات والشخصيات والعلاقات المتشابكة، إذن من خلال العنوان تفصح لنا الكاتبة عن المدينة بما هي فضاء الرواية، هي مسرح الأحداث والمكان الذي تتحرك فيه الشخوص. ليست المرة الأولى التي تشتغل فيها رواية عربية على المدينة نتذكر "مدن الملح" للسعودي عبد الرحمان المنيف التي كان يوثق من خلال المدن التطورات السريعة التي شهدتها المنطقة الخليجية إثر اكتشاف النفط. الكاتبة كلثوم عياشية في روايتها توثق أدبيا للعاصمة تونس وتستحضر أشكال من العلاقات الإنسانية والقيم الثقافية التي كانت سائدة وتسلط الضوء خاصة على عالم النساء، الشريحة الأضعف في المجتمع لذلك نجدها في العنوان تضيف انها " مدن بلا سراويل" في إشارة أن هذه المدن تفتقد الى الحضور الرجالي بالمعنى القيمي ويهيمن عليها الوعي الذكوري الذي يجعل من النساء مضطهدات. 

عتبة الغلاف:

على غلاف الرواية ترتسم صورة ظلين لامرأة ورجل، اختيار الظل وليس الصورة الحقيقية هو تعبير عن فكرة عميقة فالظل اعتبر لدى الشعوب الامتداد الروحي والغيبي لجسم صاحبه فهو ليس الشخص حقيقة و انما يشير اليه لذلك يبدو ان المؤلفة ( من خلال الناشر ) تريد ان تتحدث عن العلاقة بين الرجل والمرأة وهي تترك الظاهر في الانسان لتهتم بالباطن و تترك الواقع في تلك العلاقة لتنسجها وفق الخيال. كما نلاحظ ان من خلال هذه الصورة أن هناك تفكك في العلاقة بين الرجل والمرأة على اعتبار انهما قريبين جدا من بعضهما دون أن يتماسا.

في خلفية الصورة نجد جدار على نصفه الأسفل رسوم متآكلة من مربعات الجليز والجدار يشير إلى الوعي السائد الذي يعج بالأحكام السائدة والقيم المتآكلة والزائفة حسب اسطورة الكهف الشهيرة لافلاطون، لذلك أفهم من خلال صورة الغلاف ان هناك خلل في العلاقة بين الرجل و المرأة وفق الوعي السائد للمجتمع.

تلخيص الرواية:

هذه رواية بطلتها منية الشقري فتاة حالمة عاشت طفولة مهمشة في ظل عائلة مفككة تستغلها المؤلفة لتنقل لنا تفاصيل حياة يومية رتيبة و مؤلمة لهذه العائلة التي تكثر فيها الشخصيات النسوية مقابل محدودة الشخصيات الذكورية، تستغل المؤلفة تفكك العائلة لتتوغل في العالم الجواني لمنية الشقري فتنقل لنا احباطاتها في واقع لا يؤمن بالمرأة و في عائلة يهمين عليها الوعي الذكوري و في حقبة هيمنت فيها على البلاد ثقافة جديدة تحاول ان تقدم للمرأة حياة جديدة لكنها تظل منجذبة الى سلطة القيم السائدة التي تخنق أحلام المرأة الجديدة التي تمثلها منية المتعلمة والمثقفة لكنها المحطة ايضا، عاشت منية الشقري صعوبات جمة مثلت أزمات شديدة في حياتها جعلها روح مشروخة لعل أشدها محاولة أخيها عبد الحميد التحرش بها والتلصص عليها أثناء الاستحمام والتقرب منها خاصة كلما  كان مخمورا.

تستحضر الساردة ثلاثة أجيال في هذه الرواية " زمن الجدة / زمن الام / زمن الساردة.

تبدأ الرواية بالكشف عن رغبة منية الشقري في كتابة رواية تتنزل في اطار السيرة الذاتية  تقول الساردة " ما بقي بعد اللقاء، الذي دام ساعة جملة رددتها أحفّز النفس على الآتي  اكتبي فنصك فارق باذخ وقد انتظرت أن تبادري منذ زمن بعيد فاكتبي (...) تجتاحني تلك الرغبة في الكتابة دائما إصدار واحد يكفيني عم سأكتب عن الماضي فأعود الى تفاصيله عن نفسي ام عن الاخرين ؟ ص 9/10.

و تنتهي بحكي خرافة يتم تتداولها شفويا عبر الأجيال تسردها خديجة (خالة منية الشقري) ص 236/ 237 خرافة "لولجة وأخواتها" والتي تتعرض فيه شخصية لولجة الى أهوال كثيرة لعل اشدها عندما علقت شعرة من رأسها على رقبة فرس وقرر الأمير ان يبحث عن صاحبة الشعرة ليتزوجها وعندما علمت لولجة استغاثت بالجبل ليرتفع حتى يتحول الى حاجز بينها و بين اخيها فلا يتزوجها و تختم الرواية بأهزوجة شعبية "تعلّى يا جبل تعلّى" ص 240

اذن أن تنطلق الرواية بالرغبة في كتابة رواية و تنتهي بخرافة و بين الرواية و الخرافة تباينا كبيرا لكن الساردة ترى تواصلا بينهما لذلك قالت " أنا كغيري سليلة الخرافة التي تغرق في السرد ولا تعنى بدقائق الأحداث تلقي إليك أوصافا فضفاضة و لك دق التفاصيل المهم أن يبلغك المعنى " ص 165. غير ان الاختلاف بين االرواية و الخرافة يتلاشى في المعنى الذي يجمع بينهما، ثم ان التشابه بين ما عاشته منية الشقري في حياتها و بين ما عاشته لولجة في الخرافة يجعلنا نتحدث عن روابط بين "القصتين".

كلثوم عيّاشية

الأبعاد الدلالية للرواية:

1 / ثنائية في حياة الساردة: بين احلامها كإمرأة و بين واقعها المحبط

 تتمثل هذه الثنائية في مستوى أول لدى شخصية منية الشقري بطلة الرواية: بين حياتها الخاصة أو سيرتها الذاتية وعالم الكتابة بمعنى انها تعيش حياتها وتكتبه، لذلك تقدم لنا المؤلفة مسارين يمثلان عالمين مختلفين:

مسار أول: تمثله زمن الأحداث والذي ينفتح على عالم منية الشقري، الحاضر الذي تعيشه  كفتاة تعمل سكرتيرة في شركة فاتها سن الزواج و تعيش مع العائلة وهذا ما يجعلها محاطة بشخصيات نمطية متشبعة بالوعي السائد وتتتمثل الإرث الثقافي بما يجعلها شخصيات سطحية (غير نامية) وهذا ما يعيق حركة الشخصية الرئيسية منية الشقري داخل النص و خارجه.

مسار ثان: يمثله زمن القص أو زمن المتن الحكائي والذي ينفتح على العالم الجواني لمنية الشقري التي تميل الى الأدب وتحب المطالعة تعود بنا عبر الفلاش باك لتقدم لنا حياتها التي تكتبها بمعنى انها تعود الى سيرتها الذاتية منذ طفولتها و نشأتها والتجارب التي عاشتها والتي تكشف عن ندوب غائرة أثرت كثيرا في تكوين شخصيتها.

إذن هناك مساران متخيلان في الرواية يتحركان في مكان واحد وفي زمنين مختلفين ولأن الأدب هو "فن الزمان و ليس المكان" لذلك يمكن قراءة هذا الواقع المحبط والشخصية المنكسرة للبطلة من خلال الزمن:

عن الزمن:

يمثل الزمن أحد أهم عناصر هذه الرواية، من خلال التعامل مع الزمن نفهم مدى ذكاء المؤلف و مهارة الساردة في توظيفه من اجل عرض متن الحكاية وحركة الشخوص  وإقناع القارئ بالمتخيل.

يبدو الزمن من خلال مستويين: زمن الأحداث من جهة  و زمن القص أو المتن الحكائي من جهة أخرى

زمن الأحداث التي تبدو مرتبة في الظاهر وتخضع الى انتظام كرونولوجي ما يجعلها في مرتبة الواقع المتعين لذلك تحدث نوع من الاتفاق المفترض مع القارئ على أساس انها حدثت فعلا في حياة منية الشقري التي تعيش ضغوطات الواقع الذي يهيمن عليه الوعي الذكوري المتسلط.

زمن المتن الحكائي: وهو الزمن الداخلي للنص الروائي، تقدمه لنا الساردة من خلال العالم الجواني لمنية الشقري ويقدمها كشخصية حالمة وهشة تعجز عن التواصل مع ذاتها ومع البيئة العائلية التي تنتمي اليها و تفشل في مواجهة الإرث الاجتماعي

تعتمد الساردة في الزمن الحكائي على تقنية الاسترجاع (الفلاش باك)

من خلال تقنية الفلاش باك تعود بنا الساردة الى مرحلة الطفولة لتقدم صورا مختلفة لحياة فردية وعائلية متقلبة و متداخلة وهو زمن استرجاعي يجعل من أحداث الماضي ليست لوحات جاهزة بل هي محركات تؤثر في الحاضر لذلك يتلاحم الزمنان فلا تعرف متى ستعود الساردة الى الماضي من خلال تقنية الزمن الاسترجاعي و لا متى ستواصل في الزمن الحكائي، تتحدث منية الشقري "لا أستحضر كل ما قاله، كان خليطا من كلام عن بطولاته السابقة، وقائمة متنوعة مطولة لأسماء لا عدّ لها.. " ص 9.

      التلاحم يؤكد ان الماضي مستمر بل فاعل في الحاضر وتقوم الذاكرة هنا بدور استحضار الماضي وجعله مرافقا للحاضر وهذا ما يجعل من الذاكرة شخصية رئيسية غير مرئية في الرواية لا نعرف متى تحضر ومتى تغيب.

وظيفة الذاكرة:

في رواية "مدن بلا سراويل" تقدم المؤلفة كلثوم عياشية الذاكرة بوصفها احدى عناصر الرواية فهي بالأساس ذاكرة سير ذاتية ولها وظيفة دلالية ترتبط بحفظ كل ما تلقته البطلة / الساردة في حياتها من تشريط ثقافي وقواعد سلوكية وعادات وتقاليد واهازيج و حكم.

ما الذي ينشط الذاكرة بما هي نقطة وصل بين الزمنين ويجعل الساردة تأتي بالماضي: محفزات الاسترجاع تكمن في هذه الرواية من خلال الشخوص، الأحداث، الأمكنة، الأشياء، التفاصيل اليومية:

أ/ الشخوص:

تتأخر الساردة كثيرا حتى نعرف العلاقة بين منية الشقري ويزة و ندرك انها علاقة البنت بأمها، اذن ينتظر القارئ ص 69 تقول " هذه يزة التي اعرف، أمي التي دربت جسدي على ازدراء كل ما فيه "

الام يزة مثلا من اشد المحفزات نظرا لما تمثله من عنصر مضاد في الرواية فهي الشخصية المضادة لمنية، يزة / الأم عاشت حياة مرتبكة وفاشلة و اعتبرت شؤما على عائلتها لأنها أنثى لذلك تم اختيار هذا الاسم لها حتى تحد عن انجاب الاناث، لذلك عاشت الام تحمل وزر الأنثى وقد تجذرت تلك الدونية فيها و تبنتها كثقافة بمثابة المسلم بها لذلك  قامت بعملية اعلاء فنفست عن حنقها في شخصية منية فعاملتها بأشكال مختلفة من العنف المادي و الرمزي مما جعل منية تعاني من اضطهاد الوعي الذكوري و يزة الام تمثل سلطة الوعي الذكوري و التفاصيل التي تجمع بين الام و ابنتها تجعل من الابنة تستحضر الماضي الحزين و الطفولة الكئيبة من ذلك تفاصيل المعيش اليومي تختزلها منية في القول التالي" مرجع مهم في ثقافة الأذى والتجريح هي " يزة" " ص 70.

ب/الأحداث:

 لعل أبرز حدث في الرواية والذي يتكرر ذكره فيصبح حدث مرجعي هو تحرش الأخ بأخته ومثّل هذا جرحا عميقا في كبرياء منية وشرخا في شخصيتها فعمّق نفورها من اخيها و من عالم الرجال بل و من عالم البيت:

مثال "- يعني حميد متاعك اصبح شيخا، و انت ترضين ان يضحك على الناس وهو لم يقرب الصلاة يوما و لم نعرف صحوه الا لماما، ثم نسيتِ ؟

(...) - خوك خوك.. وصلني صوته من ضفة بعيدة كرجع الصدى لكلمة دخيلة هجينة بلا معنى.

  • -      - خويا ؟ يخوي ظهره ان شاء الله نسيتي ولا فقدتي الذاكرة والا يلزمني نذكرك؟

(...)  - ما زلت تعاودي في نفس الكلام؟ على الأقل قلي مرة عندك الحق اغضبي قاطعيه جدي تبريرا حين لا اطيق الحديث اليه، الجلوس معه على نفس الطاولة. ما حصل ليس عرضا و لم يحصل مرة واحدة، نسيتي أيام الحوش؟ ألم يختلس الي النظر وأنا أغتسل في المطبخ؟ ص 179.

ج/المكان:

أغلب أحداث الرواية تحدث في فضاءات مغلقة البيت، الشركة، بيت العاملات.. البيت يأخذ مساحة أكبر في المسار الحكائي بما يمثله البيت بما هو مكان محدود ومغلق يحافظ على نفس الإرث الاجتماعي والقيمي والسلوكي بدوره المحدود  المنغلق، بمعنى ان البيت كمكان هندسي تحوله الرواية الى مكان دلالي يزخر بقيم ثقافية محدودة ومغلقة تجعل منه تجربة قاسية تعيشها منية التي تغادره لتحشر في نفس الأمكنة المغلقة ( الشركة بيت العاملات ..) لذلك نفهم عمق المعاناة التي تعيشها منية الشقري في مواجهة ثقافة نمطية منغلقة وتحتكم الى سلطة ذكورية بامتياز تتبناها الشخصيات النسائية في هذه الرواية (رغم محدودية الشخصيات الذكورية مقارنة بالنسائية). 

مثال: " حين عدتُ في عطلة الخريف الأولى كانوا قد تركوا المنزل و الغرف والأقبية والحوش و الزريبة وأكوام القش و الحطب و الماء الآسن والمطبخ ذي الكوة و البرميل الأزرق ليستقروا في بيت صغير مشابه لبيوت عديدة تتوسطها مبان مهيبة (...) استقل حميدها بالغرفة آخر الرواق التي تمثل اكتمال المستطيل الذي شكلّل هندسة البيت مشرعة النافذة أبدا يقف خلفها يسترق النظر الى ربات البيوت من وراء ستارة داكنة تقيه ضوء الشمس اذ يقضي يومه اما نائما او ساخطا يتثمر ارها في الشتيمة" ص 38/ 39.

 وفق المقاربة السيكولوجية التي تؤكد ان الماضي لا يختفي تماما من الذاكرة الواعية ويظل في حالة كمون في منطقة اللاوعي و رهين اللحظة الراهنة ليعود محملا دائما بما نريد اخفاؤه، لذلك العودة للماضي يعتبر هروب من مواجهة جرح الحاضر وعدم رضى بالموجود لذلك يصبح المنشود ليس في الاتي بل في الماضي وهو ما يسمى بالحنين او النوستالجي للماضي، غير ان هذا الحنين لم يكن العالم المثالي الذي تهرب اليه الساردة بل كان مناسبة تكشف فيها عن بعض أسرار منية الشقري و التي مثلت سبب لهشاشتها وجعلتها عرضة لاضطهاد متواصل وهذا ما يفسر عجز منية الشقري عن الدفاع عن نفسها وانسحابها من الحاضر.

2 /  ثنائية بين عالمي المرأة و الرجل : هيمنة الثقافة الذكورية

في هذه الرواية يمكن أن نتحدث عن ثنائية الذكورة والانوثة التي تدخل بنا دائرة المفاضلة المطلقة للذكر على حساب المكانة المنسحقة للأنثى وهي علاقة مثبتة تاريخيا واكتسابها طابعا دينيا جعلها من قبيل المسلمات في المجتمع. لذلك أعتبر رواية " مدن بلا سراويل " رواية المرأة التي تعاني اضطهاد ذكوري منذ طفولتها و مرورا بمراهقتها وصولا الى كهولتها و انتهاء بشيخوختها عبر مختلف الشخصيات النسائية.

صوت المرأة هو المهيمن في هذه الرواية وفي المقابل فان صوت الرجل غير موجود لكن صوت الثقافة الذكورية هي التي تطغى على المتن السردي، لذلك ربما تختار المؤلفة السارد العليم في شخص منية الشقري لتجعل من حضور المرأة المتعلمة والمثقافة (سكرتيرة و كاتبة) هو الطاغي و المهيمن في الرواية عكس حضورها المضطهد في الواقع، كأن المؤلفة تجد في الكتابة الروائية طريقة لمواجهة الوعي الذكوري والانتقام منه أدبيا، لذلك نلاحظ عمليا غياب الاب مقابل حضور سلبي للأخ كسيد و في صورة سلبية (عاطل عن العمل، متحرش، سكير، عديم الاخلاق، متواكل...) .

تحذر الام ابنتها دائما من " بوسروال " وهي تعني من الذكر. ورد هذا الوصف اول مرة في صفحة 38 تقول" ها الثقة في بوسروال لا". ثم تعيد ذكره ص 151 " تمشيشي يطمّعك واحد "بوسروال" و يضحك عليك" كانت تلك المرة الأولى التي اسمع فيها لفظ " بوسروال"

قلت بصوت مرتعش" من هو بوسروال؟" ومضت صور سريعة خاطفة لهذا الكائن المخيف تشبه ما انبطبع في خاطري عن بوشكارة و بوغرارة ومدّاد يدو الذي يجوس بين الدور فيخطف الصبايا اللاتي لا ينمن في أحضان امهاتهن " ص 151

مجالات الاضطهاد:

أ/ الهوية: ان كانت منية الشقري على امتداد الرواية تسعى لإثبات هويتها فان هذا الامر محسوم بالنسبة للذكر، تعيش منية أزمة إنتماء مما يجعل منها شخصية هشة وغير قادرة على المواجهة فالبنت في هذه الثقافة الذكورية تتحول الى لعنة ويحتاج الناس الى تسميات معينة مثل يزة او حدي او حدة حتى يتوقف انجاب البنات و يأتي الذكر تقول " قالت سأسميها يزي كفى اناثا بعد السابعة تنتهي لعنة البناويت هكذا تعلمنا منذ فجر الدهور" ص 89. ازمة الهوية تشتد في تفاصيل صغيرة مثل اول مرة يأتيها الحيض وأول مرة تنتف شعر ساقيها الى غير ذلك هذا ما يجعل من علاقة الساردة بأنوثتها متأزمة،  حتى الحب لم يحررها من ضعفها و لم يعد لها انسانيتها تقول " قصص الحب الموهومة التي عشتها " ص 123.

ب/الاقتصاد: يعتاش الذكر من اخته فهي التي تنفق على البيت والام تمكنه من مال الأخت ليصرف على نفسه، بمعنى ان "الاستقلال الاقتصادي" لم تحررها من ضعفها و لم تعد لها قيمتها الاعتبارية.  

مثال "يبقى ويأكل الشواء بأفاويه مختارة وانا أدفع (..) حادثة تكررت بتفصيل واخراج متنوع لكن يكاد السيناريو يكون واحدا، و تجعله معبودها (....) قلت في نشيج متقطع "ولدك سرقني اخذ مصوغي الذي احتفظ به " هكة ولدي سرقة زيدي لوجي و يزي من الهبال" (..) غاب أياما و عاد سكرانا اسرعت اليه أسائلة هوي تنظر الينا اين اخذت مصوغي ؟ قال في برود " نعم اخذته اعطيته لصديقتي " ص 191/ 192/ 193.

ج/ الجسد: جسد المرأة عومل باحتقار في الرواية لذلك ظل جسدا مهملا و مهمشا يعاني الجهل والامية والفقر، نلاحظ اتساع المساحة التي منحت لجسد المرأة  في المتن السردي لخدمة المجموعة  خاصة الذكر وتوفير شروط الحياة الكريمة له أيضا و يبلغ الجسد اقسى اشكال الامتهان عندما يتحرش به الأخ.

مثال"هي تصر على اخوتنا رغم ما حصل و تستمر في تجاهل كل الحكايات و لا تصدقها" ص 192 .

د/السارد العليم: مثلت منية الشقري مهمة السارد العليم في هذه الرواية وبدت هي المسيطرة على زاوية الرؤية السردية في هذا العمل  يدفعها وعي المؤلفة بالفكرة التي تشتغل عليها لذلك تبدو منية الشقري هي المهيمنة على المادة الحكائية، هي التي توسّع مجال السرد وتضيّقه، هي التي تستعيد الاحداث وتستبقها وهي التي تأتي بالشخصيات وتزيحها وهي التي تكشف لنا عن عالمها الجواني وهي التي تواجه الوعي الذكوري وتنكسر.. الساردة هنا تعلم كل شيء حتى ما سبقها من أحداث مثل ما عاشته الجدة و ظروف ولادة الام يزة و ما حف بها من اقاويل دون ان تشير كيف وصلتها كل تلك المعلومات الدقيقة و التفاصيل الجزئية مما يجعل من منية الشقري (السارد العليم) تمثل نقطة التبئير الداخلي في هذه الرواية والواسطة بين المؤلفة و القارئ.

 ما عاشته منية الشقري من هشاشة أدت الى انكسارها ومن اضطهاد أدى الى احباطها داخل المتن الروائي يتحول الى سلطة سردية مطلقة. اختيار السارد العليم هو خيار تسجيلي بالأساس اختارته المؤلفة لتجعله يتوافق بشكل عكسي مع شخصية منية الشقري فهي التي تقود القارئ الى الاحداث وتقدم له احكام و مواقف عن الشخصيات وتفسر له ما يدور في زمنها و خارجه أيضا (قبل ولادتها) واظن ان منح بطلة الرواية سلطة السارد العليم جعلها أحيانا تطغى على المؤلفة ذاتها التي تفقد في مرات عديدة السيطرة عليها لذلك نجدها تكرر بعض الأفكار او تسقط في اسهال وصفي.

إضطهاد المجتمع للمرأة لا ننتهي فيه الى شخصية منية الشقري الضحية فقط بل كل النساء في الرواية هن ضحايا الوعي الذكوري وان بمساحات سردية مختلفة، فالأم يزة التي عانت بدورها من دونية بسبب انها انثى وكانت سوء طالع على العائلة هي نفسها تتمثل الوعي الذكوري و تدافع عنه، لذلك اعتقد ان  هذه رواية المرأة التي تولد ضعيفة وهشة، المرأة التي تدافع ( من خلال الام ) عن قيودها وتتبنى النظرة الدونية و لذلك تمارس اضطهاد نفسها وهو ما حصل للام يزة التي تكرر اضطهاد نفسها من خلال ابنتها منية، بحيث نلاحظ كيف ان الاضطهاد يورث و يتناقل جيلا عبر جيل و ان كانت منية الشقري ترفض هذا الاضطهاد و تلجأ للكتابة للتحرر منه الا انها ظلت بدورها شخصية منكسرة و محطمة. في الحقيقة ما قامت به الكاتبة في هذه الرواية انها اعادت تسليط الضوء على دونية المرأة وهي تريد ان تقول ان المرأة في مسارها التاريخي لم تتحرر من قيود النظرة الدونية.

 لان الروائية تونسية وما تحقق في مجال الأحوال الشخصية لم يحرر المرأة و في ذلك إشارة الى الفارق بين النظري و التطبيقي فقد استطاعت منية الشقري الدراسة و العمل وهو ما وفرتها لها الدولة الحديثة و لكنها لم تستطع التخلص من قيود المجتمع لذلك اجد المؤلفة تدين بشدة ما ورثته من المجتمع تقول من خلال الساردة ( منية الشقري)  

"هل ـرجع الى المكتب وأغلق بابه وانتحب واشكو ضعفي فأنا لا اطيق هذه الحياة فما الذي يجبرني عليها" ص 183.

بل الرجل نفسه يرزح تحت سلطة هذا الاضطهاد الذكوري لأنه يفتقد الوعي الذي سيحرره ويجعله كائنا سويا وهذا ما يجعل المجتمع يتخبط في جهل مقيت وينتج علاقات مرضية مادامت المرأة كائن مستلب، المجتمع ينهض عندما يتحرر الرجل والمرأة على السواء لذلك اعتقد ان هذه رواية المرأة التي تنتصر للإنسان رواية الشريحة المهمشة حتى ينتصر للمجتمع.

لعل ما يحسب للكاتبة كلثوم عياشية في هذه الرواية ومن خلالها للمرأة المبدعة انها جعلت من الكلام حقها في التعبير عن نفسها وهذا ما يجعل من الكتابة انتقال من تحرر بالقوة الى تحرر بالفعل و ان كان هناك من يرى السبق في ذلك الى شهرزاد الا ان شهرزاد مارست سلطة الحكي واستغلت نفوذ الحكاية الا ان شهرزاد نفسها كانت نتاج خيال ذكوري وهذا ما جعل من حكيها ذكوريا، ثم انها كانت تقع تحت سلطة الرجل تتكلم وتصمت متى يريد، أما ما تبدعه المرأة  في الأدب الان فهو يتنزّل في اطار تعريف جديد تقوم به المرأة من حيث انها كائن عقل ولذلك يحق لها التحرر من سلطة العائلة و استبداد المجتمع و هيمنة الوعي الذكوري و في هذا الاطار اعتبر ان ما قامت به كلثوم عياشية في روايتها انما يتنزل في اطار ان الحرية لا تتحقق في المجتمع و المرأة مضطهدة و لذلك تحرر المرأة لا يكتمل الا بتحرر الرجل نفسه من ثقافته الذكورية.

تقنيات الرواية:

أ/هيمنة السارد العليم :

اختارت المؤلفة السارد العليم الذي يقود القارئ الى الاحداث ويعرّفه على الشخصيات وبذلك اكتفت بوجهة نظر واحدة في تقديم قضايا مختلفة تهم التشريط الاجتماعي والسلطة الذكورية ، بدا السارد العليم يعلم كل التفاصيل الدقيقة ما فات منها و ما حضر من ذلك تقول الساردة ( منية الشقري) " ألقت نظرة على أبواب الغرفة لتتأكد انها أغلقتها جميعا، و رنت إلى مدخل "العلي" الموارب الذي تركته حتى تجد القطة "فلة " طريقها الى ملجئها (..) تأملت مفاتيحها و خرجت من باب الحوش الكبير (..) لم تفتح دفتا الباب منذ خرج سي بوربر محمولا على الأعناق ذات خميس حزين (...) رنت خطواتها على أرض الزقاق المبلط في زنقة الخواجة الحليوي (...) وجدت نفسها في نهج الداموس (...) خبرت منوبية الدرب فلم تتعثر في الوجوه و لا في الأصوات كانت تسير غير مبالية بالباعة و المشترين وجهتها واضحة (...) خمسة دنانير تدسها في يد الساعي اول كل شهر فيمدها بالنقود و يسلمها صك الحوال و يمضي شاكرا " ( ص 45/46 ). ولنا ان نتساءل من اين أتت الساردة بكل هذه التفاصيل الدقيقة ؟

ب/تقنية الوصف

بدت المؤلفة مأخوذة بتواتر الاحداث ومنشغلة بهموم بطلة الرواية، لذلك كان انشغال المؤلفة بالمتن الحكائي و خاصة بالعالم الجواني للبطلة لم يجعل للوصف مهمة وظيفية تذكر، تشير المؤلفة لبعض الأمكنة الحقيقية و تعول على ذاكرة القارئ و ما يعرفه عنها مثل دار العاملات زنقة الحليوي دار الكتب الوطنية، أحيانا عندما وحتى تتخلص المؤلفة من الفراغ الذي تتركه الساردة او للتحرر من قبضتها تلجئ لتقنية الوصف لتعطيل حركة الزمن وانفعال البطلة بما يسمح للقارئ باستراحة ليتعرف على الشخوص من خلال وصف بعض الأشياء أو الاقتراب من الأمكنة التي تدور فيها الأحداث..

ج/المونولوق

اعتمدت الكاتبة بشكل كبير على المونولوق بما هو حوار داخلي كتكنيك للنفاذ الى الشخصية الرئيسية  منية الشقري للتعبير عن عالمها الجواني وتكشف عن ملامحها النفسية، كما يسمح لنا هذا المونولوق بتقديم وجهة نظر الشخصية في ما حولها من أحداث و شخصيات بحيث ان المونولوق قام بوظيفة تحليلية تخص ذات الشخصية، ووظيفة تفسيرية تخص رؤيتها للعالم.

 خصوصية المونولوق في رواية "مدن بلا سراويل" انه أحيانا كثيرة يأخذ شكل البوح من خلال الكتاب تقول منية الشقري "أحسن تصوير مشاعري حين أخذّ أفكاري، لذلك بدأت بممارسة الكتابة منذ عرفتي أنني لا يمكن أن أتحدث عما يراودني بطلاقة مع واحد ممن في البيت و خارجه فكانت الأوراق تتكفل بالمهمة حتى و ان انتهت مزقا أو رمادا" ص 182.

د/اعتماد الفلاش  باك:

تقنية الفلاش باك بارزة جدا في هذه الرواية وهي تناسب كثيرا خصوصية المسار السردي من جهة استحضار الماضي إضافة انه في كل مرة تتعطل الأحداث لسبب ما تعود بنا الساردة عبر تقنية الفلاش باك من اجل استقدام معلومات محفزّة للأحداث وتكشف للقارئ ما يحتاجه من معلومات لفهم الحاضر.

الفلاش باك في هذه الرواية يأتي في شكل خطاب شفوي تقوم به الساردة من أجل قارئ مفترضا لذلك يأخذ عادة حكي مباشر يبدو من خلال ما يفترض انه تكتبه في شكل نص أدبي تقول الساردة " كتبت عن تفاصيل يومي قديما حين أعوزتني وسائل البوح، ما عشته لم يكن أمرا يتحدث فيه و لا عنه" ص 10،  

ج/خصوصية اللغة : في هذه الرواية ترد اللغة غزيرة تنتقل الكاتبة بسلاسة من الوصف الى البوح ومن العالم الجواني الى العالم الخارجي وهي لغة ثرية تبدو لينة لدى المؤلفة تجعلها أحيانا تنفلت منها فتقع في اسهاب. وقد أثرت اللغة بالمحكية التونسية خاصة على مستوى الحوار مما جعل الشخصيات تبدو أكثر تفاعلا و ألفة مع القارئ، توظيف الدارجة يبدو مقنعا لأنه ارتبط بشخصيات من قاع المجتمع فنقلت مفرداتها بكل ما فيها من زخم ثقافي تعكس الروح التونسية يبدو هذا من خلال استحضار الأمثلة الشعبية و مفردات الشتم و الأدعية من خلال شخصيات يزة ومنوبية والشاذلية ودليلة الخ..

والامثلة كثيرة جدا من ذلك تهتف يزة بمنية الشقري " ياخي أنا عملاه نعمل في هذا الكل؟ ماو على خاطرك يا مهبولة، غدوة تلقى روحك في دارك مرا مرتوبة مقدية، و لا تحبي يعايروك كي يشوفوك باركة وتراكنك خامجة ؟ ص 84.

  في حين ان منية الشقري بحكم انها متعلمة و كاتبة فانها تصنع لها لغة مزيج بين الفصحى و الدارجة مثلا " من قال اني أحبهم ؟ تهنى لا نحبهم و لا يحبوني " ص 197.

اعتقد ان مهارة استعمال اللغة المحكية يجعل من الممكن للمؤلفة تطويرها وتوظيفها في كتابة سيناريوهات الأعمال الفنية.

ما يشبه الخاتمة...

    عندما نتعامل مع هذه الرواية بما هي المنجز السردي الأول للمؤلفة كلثوم عياشية فإننا لا يمكن الا ان نثني على مهاراتها في الكتابة السردية تتمثل في اختيارها لموضوع يزعزع القيم السائدة فهي تدخل في المحضور عندما تتحدث عن تحرش الأخ بأخته كما تفتح النار على امراض المجتمع مثل النفاق الاجتماعي وهيمنة الوعي الذكوري وبدت تدين في روايتها نماذج مختلفة لامرأة واحدة منكسرة و محبطة و فاشلة.

 تبدو اللغة في هذه الرواية ثرية وتحمل روح تونسية جميلة.

 من جهة أخرى يمكن بمراجعة متأنية للرواية التخلص من تكرار بعض الأفكار وربما التقليص من عدد الشخصيات التي تبدو متشابهة ونمطية ولا تضيف كثيرا لحبكة الرواية بل ان كثرة الشخصيات قد تشوش على القارئ ويجعله يفقد التركيز في متابعة سير الاحداث.

بدت المؤلفة أحيانا غير قادرة على السيطرة على شخصية منية الشقري بطلة الرواية التي بدت مهيمنة كثيرا على مسار الاحداث وهذا ما جعل المؤلفة تسقط في التكرار و في كل مرة تفقد القدرة على السيطرة على شخصية منية الشقري او التحكم في مسار الاحداث تلتجئ الى الوصف الذي أحيانا تفرد له مساحة دون أن توظفه ليقول شيئا عن علاقة الشخصية بالمكان كأن تصف بدقة قطع الجليز التي تبدو قديمة و متأكلة دون ان يكون لهذا الوصف ربطا يحيلنا على شخصية البطلة المنكسرة او احلامها المعطوبة.

لعل ما يجعل من طول النفس السردي في الرواية الذي تعتبره لجنة تحكيم جائزة توفيق بكار تثمينا للرواية خصوصا وان هذا باكورة أعمال المؤلفة كلثوم عياشية هو الذي ينبئنا بموهبة في الكتابة السردية لكلثوم عياشية والتي يمكن ان تتطور و تشذب في أعمالها السردية اللاحقة  بحيث تمنع عنها السقوط في الترهل السردي و يؤهلها لمكانة خاصة بها في المشهد الروائي التونسي والعربي. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم